حراس المائدة
عندما نحكي عن الحاضر ونقارنه بالماضي نجد الكل يتأسى على ما مضى ويبكي حسرة على ما فات ولسان حاله يقول
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
وليس يقصد بالشباب جيل الشباب عمرا ولا المشيب هزلا
وإنما الحاضر والماضي مجد قديم وأيام فاضلة .. وغاب طاهر .. وذئب ترعى الشياه ..
وأفعى تصنع الدواء .. وأسد يقطر حكمة .. وهدهد ذكي يقتبس الأخبار ..
والغراب الذي يواري سوءة أخيه هو ما دعاني لكتابة هذه الآهات حيث كنت أسير متجها لغايتي عندما استوقفني مشهد غراب مقتول وأخوته يجمعون شملهم حوله وتذكرت حينها قصة قابيل وهابيل وكيف أن الله أرسل الغراب ليواري سوءة أخيه ومار كز في أذهاننا أنها صفة حسنة في هذا الطائر مبعث الشؤم تغطي على سيئاته ولكن المفارقة العظمى أن الصفات الحسنة من طيورنا قد انتزعت وأن الشر غلب الخير ولم تستطع حتى الطبيعة إلا إن تتغير مع متغيرات الحياة هالني المشهد عندما رأيت الغربان تنهش لحم أخيها الميت وتأكله متشبهة ببني ادم في حاضرنا وقد انتقلت إليها عدوى العرب وحمى الخسة وموت الكرامة وتأكدت حينها أن مدينة أفلاطون الفاضلة لم تكن إلا نظرية لا تطبق حتى على أبناء الطبيعة بين بعضهم بل حتى ما كان يستر سابقا على انه جرم وخيانة خوف الفضيحة أصبح مفخرة يتباهى بها أفراد المجتمعات المعاصرة من كل من دب على هذه الأرض ولا أظن حال هذا الغراب الذي كان يأكل لحم أخيه إلا شموخ الصدر ولا أظن حال أصحابه إلا الحسد له لما ناله من غنيمة وما يقتنع به المرء قناعة لامناص منها أن حاضرنا قد انتزعت منه كل صفة حسنة وأخس من غرباننا قوم من أبناء جلدتنا فرحوا بمغنم عدوهم بل وساهموا في النهش رغم أنهم لم يحصلوا حتى على لقمة غضة من لحوم إخوانهم بل كانوا حراس المائدة وحسب