بدايــة النهايــة
يالها من خطوة نحو الأمان !…
لقد خطت خطوتها الأولى بعناد وإصرار ، وأبعدت عن طريقها المخاوف ، وأمسكت بعصا الأمان ، وتسلقت جدار الزمان ، وحكت قصة الأيام ، وأزالت الغبار عن خواطرها ، وأظهرتها من الأعماق .
في وداع حزين للماضي ، استقبلت قصة الأيام ، وانتزعت من أحشائها صورة الماضي ، وتحررت من قيودها ، وأحاطت حكايتها الماضية بستائر النسيان .
في وضح النهار ، وفي دجى الليل ، أخذت تتراءى لها صور المستقبل ، تنام وملئ جفونها السعادة ، لتستيقظ مع أحلام الخوف … باكية …
* * *
يالها من روح طاهرة ، وقلب نقي ، وجسدٍ فتي ! …
يالها من ابتسامة عذراء مطمئنة ! …
من يومها وهي لا تعرف للغدر مستقراً في نفسها .ولا تجيد إبداع كوادر الحقد والكراهية .
من يومها وهي وردة مزهوة في حدائق الحياة ، تتربع على عرش الجمال ، تشع من عيونها شمس الشرق .
اقتربت منها أيدي الغدر ، فكانت أشواكها خير رادع ، ولم تستسلم قط إلى لمسات الغدر . فبقيت شامخة تفوح بالعطر والحب .
* * *
لم تتكلم … مع أنها تجيد الكلام .
لم تعترف … مع أنها قاست من جور الأيام الكثير .
لم تبكي … مع أن في أعماقها ألف حكاية حزن .
لقد تبلورت على شفاها كلمات الحقيقة ، ولكن صعب عليها أن تغدر بالقدر ، فاختنقت قبل ظهورها .
لقد جفت الدموع في مآقيها كي لا تظلم الأيام .
* * *
يا لها من معجزة الأيام … تنحني أمام عظمتها أجل الرؤوس ، وتتفاخر بها الألسن ، وتحكي قصتها للأجيال .
رؤوفة … حنونة … شفوقة … عطوفة … إنها ملاك طاهر ، في ابتسامتها عشق البراءة ، وفي نظرتها همسات الحب . وفي كلماتها أشعار الطيور ، وفي حديثها صفاء الروح ، وفي حيائها ثوب العبادة .
* * *
خلق الله الجمال آية . وقدم لآدم هدية من أضلاعه . وسما بالإنسان فوق مخلوقاته ، وأورثه الحب والخير . إلا أن الإنسان ترك وراءه سماته الطيبة ، وراح يعتصر الحقد والشر من صفوف الأمان ، وانساق نحو الدمار ، فكانت بداية للظلم والعدوان . فأرسل أنبياءه هداية للبشرية ، فمنهم من تاب ، وإلى الله أناب ، ومنهم من تعاظمت عليه كبرياؤه , وعلا به شموخه ، فطغى وتجبر ، وأبى المغفرة ، وهلل بالضلالة .
هكذا كان الإنسان منذ بداية الخليقة .
* * *
كيف لا يولد في نفوسنا الحب ونحن أبناء آدم ؟…
لماذا لا نتوج حياتنا بالخير والأمان ؟…
كيف لا نسعى إلى طريق السعادة بكل دأب وإخلاص ؟…
نحن خلقنا لتستمر رسالة الحياة في سيرها ، فلا يحق لنا أن نعترضها .
فنحن بنو الإنسان الأرجل التي تخطو بها رسالة الحياة ، وتسير بها نحو البعيد . ولا يمكن أن تستمر تلك الرسالة العظيمة دون عمل مشترك ، فما من مولود يولد إلا ويكون بداية النهاية ، وما من مخلوق يلاقي حتفه إلا وتكون نهاية البداية . وهكذا نجد تبادلاً مطلقاً بين البداية والنهاية . بين الاستمرار والزوال . حتى ينفخ في الصور .
* * *
حلب 1973