أهلا بكم في الشعر اليماني الأصــــــيــل :
الشاعر اليمني الكبير /عبدالله البردُّوني 1929 – 1999 م
هو عبدالله بن صالح بن عبدالله بن حسن البردُّوني ولد 1929 م في قرية بردُّون من قبيلة بني حسن ناحية الحدأ شرقي مدينة ذمار.
أصيب بمرض الجدري وهو في الخامسة أو السادسة من عمره وعلى إثره فقد بصره تلقى تعليمه في القرية ثم انتقل إلى مدينة ذمار فإلى صنعاء.
حين بلغ الثالثة عشر بدأ يغرم بالشعرفلا يكاد يمر يومين حتى يتعهد الشعر قراءة وكتابة ..
له أثنا عشر ديوانا وثمان دراسات أدبية ونال العديد من الجوائز أهمها جائزة أبو تمام بالموصل 1971م وآخرها جائزة سلطان العويس بالإمارات 1993م .
كتبت عنه العديد من الكتب والدراسات التي تناولت حياته وشعره وله أعمال مترجمة إلى اللغات العالمية..
بدأ البردوني كلاسيكيا يقلد القدماء ويقف طويلا عند أبي تمام ثم تأثر بالرومانتيكيين وفي ديوانه الأول ( في أرض بلقيس ) أمثلة كثيرة على ذلك منها هذا الصوت الحزين :
يا شاعر الأزهار والأغصان هل أنت ملتهب أو هاني
ماذا تغني من تناجي في الغنا ولمن تبوح بكامن الوجدان
هذا نشيدك يستفيض صبابة حرى كأشواق المحب العاني
في صوتك الرقراق فن مترف لكن وراء الصوت فن ثاني
كم ترسل الألحان بيضا إنما خلف اللحون البيض دمع قاني
هل أنت تبكي أم تغرد في الربا أم في بكاك معازف وأغاني
وقصائدة تفيض بالعاطفة الجياشة ..
ياابنة الحسن والجمال المدلل أنت أحلى من الجمال وأجمل
وكأن الحياة فيك ابتسام وكأن الخلود فيك ممثل
وله في الربيع رائعة بعنوان سحر الربيع مطلعها :
رصع الدنيا أغاريدا وشعرا وتفجر ياربيع الحب سكرا
وافرش الأرض شعاعا وندى وترقرق في الفضا سحرا وإغرا
ياربيع الحب يافجر الهوى ما أحيلاك وما أشذاك نشرا !
طلعة فوحا وجو شاعر عاطفي كله شوق وذكرى
منظر أودعه فن السما من فنون الخلد والآيات سرا
وتجده يلامس حياة الجائعين والبؤساء فيقول في قصيدة ليالي الجائعين ..
هذي البيوت الجاثمات إزائي ليل من الحرمان والإدجاء
وهكذا يستمر في ديوانه الأول يرسم صورا رائعة ويتنقل بين بساتين الشعرالخضراء في 61 قصيدة مترعة بماء الشعرالحقيقي .
في ديوانه الثاني ( في طريق الفجر ) يقول :
لاتسألي يا أخت أين مجالي أنا في التراب وفي السماء خيالي
وفي بشرى النبوة يقول :
بشرى من الغيب ألقت في فم الغارِ وحيا وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذى سحرا و أعلنت في الربا ميلاد أنوارِ
وفي قصيدة بعنوان رحلة التيه يقول :
أنا شاعر ياابنة العم لي من الحب نبع شهي غزير
وشعر رقيق كحلم الصباح على مقل الياسمين المطير
فحسبي وحسبك ديوان شعر وبيت صغير وحب كبير
وفي قصيدة يهديها للشاعر الدكتور / عبدالعزيز المقالح في وفاة طفله الوحيد :
كيف انتهى من قبل أن يبتدي هل تنطفي الروح ولم توقد
وفي قصيدة رحلة التيه :
هدني السجن وأدمى القيد ساقي فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعت الخطو في شوك الدجى والعمى والقيد والجرح وثاقي
ومللت الجرح حتى ملني جرحي الدامي ومكثي وانطلاقي
في سبيل الفجر مالاقيت في رحلة التيه وما سوف ألاقي
سوف يفنى كل قسد وقوى كل سفاح وعطر الجرح باقي
وفي قصيدة الحكم للشعب وهي وليدة يوم النصر في 26 / سبتمبر/ 1962 م يقول :
لن يستكين ولن يستسلم الوطن توثب الروح فيه وانتخى البدنُ
لا البدر لا الحسن السجان يحكمنا الحكم للشعب لا بدر ولا حسنُ
نحن البلاد وسكان البلاد وما فيها لنا إننا السكان والسكنُ
المجد للشعب والحكم المطاع له والفعل والقول وهو القائل اللسنُ
في ديوانه الثالث وهو الأروع من وجهة نظري ( مدينة الغد ) يحلق البردوني في فضاء أوسع وقد بدا هذا الديوان
يحفل بالقصص السريالية ..
حتى احتستها شفاه الباب لا أحد يومي إليه ولا قلب له يجف
وظن وارتاب حتى اشتم قصته كلب هناك وثور كان يعتلف
وعاد من حيث لا يدري على طرق من الذهول إلى المجهول ينقذف
يسيح كالريح في الأحياء يلفظه تيه , ويسخر من تصويبه الهدف
ويقول في قصيدة ذات يوم الرائعة وهي تتربع على غلاف مجلدي الأعمال الكاملة :
أفقنا على فجر يوم صبي فيا ضحوات المنى أطربي
أتدرين ياشمس ماذا جرى سلبنا الدجى فجرنا المختبي
وكان النعاس على مقلتيكِ يوشوش كالطائر الأزغبِ
أتدرين أنا سبقنا الربيع نبشر بالموسم الطيبِ
وماذا ؟ سؤال على حاجبيكِ تزنبق في همسك المذهبِ
وسرنا حشودا تطير الدروبَ بأفواج ميلادنا الأنجبِ
وشعبا يدوي هي المعجزات مهودي وسيف المثنى أبي
غربت زمانا غروب النهار وعدت يقود الضحى موكبي
أضأنا المدى قبل أن تستشف رؤى الفجر أخيلة الكوكبِ
فولى زمان كعرض البغي وأشرق عهد كقلب النبي
طلعنا ندلي الضحى ذات يوم ونهتف يا شمس : لا تغربي
وقد نقلتها لكم كاملة ..
وفي قصيدة طريفة بعنوان لص في منزل شاعريقول:
شكرا دخلت بلا إثارة وبلا طفور أو غرارة
لما أغرت خنقت في رجليك ضوضاء الإغارة
لم تسلب الطين السكو ن ولم ترع نوم الحجارة
كالطيف جئت بلا خطى وبلا صدى وبلا إشارة
أرأيت هذا البيت قز ما لا يكلفك المهارة
فأتيته ترجوا الغنا ئم وهو أعرى من مغارة
ماذا وجدت سوى الفرا غ وهرة تشتم فارة
ولهاث صعلوك الحرو ف يصوغ من دمه العبارة
يطفي التوقد باللظى ينسى المرارة بالمرارة
لم يبق في كوب الأسى شيئا حساه إلى القرارة
ماذا أتلقى عند صعـ لوك البيوت غنى الإمارة
يالص عفوا إن رجعـ ت بدون ربح أو خسارة
لم تلق إلا خيبة ونسيت صندوق السيجارة
شكرا أتنوي أن تشر فنا بتكرار الزيارة
وقد نقلتها _ أيضا _ كاملة..
وفي مطلع ديوانه الرابع ( لعيني أم بلقيس ) ومن قاهرة المعز يقول في قصيدة أنسى أن أموت :
تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت
وتعيد مابدأت وتنوي أن تفوت ولاتفوت
فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
وتقول لي مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت
وفي هذا الديوان قصيدة بعنوان مواطن بلا وطن :
مواطن بلا وطن لإنه من اليمن
تباع أرض شعبه وتشترى بلا ثمن
يبكي إذا سألته من أين أنت ؟ أنت من
لإنه من لا هنا أو من مزائد العلن
مواطن كان حماه من قبا إلى عدن
واليوم لم تعد له مزارع ولا سكن
وفي هذا الديوان قصيدته المشهوره ( أبوتمام وعروبة اليوم )
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
بيض الصحائف أهدى حين تحملها أيد إذا غلبت يعلو بها الغلبُ
ويقول في آخر بيت لها :
ألا ترى يا أبا تمام بارقنا إن السماء ترجى حين تحتجبُ
وهي طويلة وبإذن الله سأوافيكم بها في المرات القادمة وغيرها من القصائد كاملة .
ديوانه الخامس هو ( السفرإلى الأيام الخضر )
ومنه قصيدة اشتهرت في حينها مطلعها :
فظيع جهل مايجري و أفظع منه أن تدري
وهل تدرين ياصنعا من المستعمر السري
وفي ألوان من الصمت يقول :
مثل طفل حلم يصحو ويغفو يرسب الصمت بعينيه ويطفو
ينطوي خلف تلوي جلده كعقاب ينتوي الفتك ويعفو
وفي هذا الديوان تتكثف الصور السريالية ففي قصيدة يداها يقول :
مثلما يبتدئ البيت المقفى رحلة غيمية تبدو وتخفى
مثلما يلمس منقار السنى سحرا أرعش عينيه وأغفى
وفي ديوانه السادس ( وجوه دخانية في مرايا الليل ) تقفز الإستعارات فوق الحواجز معلنة لا إفلاس المألوف والمعتاد فحسب بل الدخول في عالم جديد من التركيب اللغوي تركيب الجملة رسم الصورة في حديثه عن بعض جبال اليمن قال الشاعر:
سيدي هذي الروابي المنتنه لم تعد كالأمس كسلى مذعنه
( نقم ) يهجس يعلي رأسه ( صبر ) يهذي يحد الألسنة
( يسلح ) يومي يرى ميسرة يرتئي ( عيبان ) يرنو ميمنة
لذرى ( بعدان ) ألفا مقلة رفعت , أنفا كأعلى مئذنة
وهكذا تكثفت صوره السريالية واللا معقول في دواوينه الستة الأخيرة ( زمان بلا نوعية ) و ( ترجمة رملية لأعراس الغبار ) و ( كائنات الشوق الآخر) و ( رواغ المصابيح ) و ( جواب العصور ) و ( رجعة الحكيم بن زايد ) ..
ولنأخذ هنا بعض الأمثلة :
من ديوانة زمان بلا نوعية
إلى أين هذا بذاك اشتبه ومن أين يا آخر التجربة
إلى أين أضنى الرصيفَ المسيرُ واتعبت الراكب المركبة
وعن كل وجه ينوب القناع وترنو المرايا كمستغربة
إلى أين من أين يدني المتاه بعيدا , ويستبعد المقربه
وفي ديوانه ( ترجمة رملية لأعراس الغبار ) قصيدة رائعة بعنوان ( لعينيك موطني)
لإني رضيع بيان وصرف أجوع لحرف وأقتات حرف
لإني ولدت بباب النحاة أظل أواصل هرفا بهرف
أنوء بوجه كأخبار كان بجنبين من حرف جر وظرف
أعندي لعينيك ياموطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف
أتسألني كيف أعطيك شعرا وأنت تؤمل دورا وجُرف
أفصل للياء وجها بهيجا وللميم جيدا وللنون طرف
أصوغ قوامك من كل حسن وأكسوك ضوءا ولونا وعَرف
في البيت الخامس مفردة جرف لها معنيين عامي وهي الكهف المنحوت في جبل وفصيح
وهو المال الكثير من الذهب والفضة والمواشي وهو المقصود هنا
في البيت السادس أفصل للياء وجها بهيجا وللميم جيدا وللنون طرف
وقد نقلتها كاملة ..
وفي شتائية يقول :
البرد أبرد مايكون والليل أسهد ما يكون
و أشذ من شبق الرصاص ومن غرابات المنون
ماذا هنا غير الدجى المشبوه وحشي السكون
وكأن كل دقية تبدو ملايين القرون
وفي نهاية القصيدة يقول :
لن يعدم الأرق النجوم ولن ينام العاشقون
وفي أخرى :
كان يبكي وليس يدري لماذا ويغني ولا يحس التذاذا
وينادي ياذاك .. يصغي لهذا وهو ذاك الذي ينادي وهذا
وفي قصيدة مناظرة في حوامة العيد من الديوان الأخير رجعة الحكيم بن زايد :
إن كنت العيد فأين العيد اليوم المبتكر الغريد
وصبايا اللحظات الملأى كربيع كحله التسهيد
يا عيد الآن مضى عشر يلقاك معادا غير معيد
لا أنت العيد ولا بيدي إلا خبر وفتات نشيد
واسمع له في أخرى يقول :
ولإنني أحببها أحببت كل الناس فيها
هذه لفتة بسيطة حاولت من خلالها ملامسة عالم الشعر الكبير عبدالله البردُّوني ..
اعتمدت في هذا التعريف على الأعمال الكاملة للشاعر من إصدارات الهيئة العامة للكتاب بصنعاء
ومقدمة الحارث بن الفضل الشميري تلميذ البردُّوني وصفيه ومقدمة الدكتور عبدالعزيز المقالح في الديوان ذاته ..
وعلى جهد ذاتي والله الموفق ابتداء وانتهاء ..