* نجح حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية فيما لم تنجح فيه توصيات المؤتمرات، وموائد المفاوضات ، وفرقعة الندوات ، و حتى إعلانات تنظيم الأسرة والبحث العلمي .. ، وقد كشف "حوار الثقافة العنكبوتي" عن تنويعات من درر الأفكار والاكتشافات و الابتكارات ، كما بيَّن لكلِّ قارئٍ و مُحلِّل أسباب الظواهر التي انتشرت في الآونة الأخيرة مثل محاولات التغييب و التغريب ، واحتقانات التفكير الخاضع لظروف متنوعة ، و أساليب التعتيم والسرقات ، وكيفية التغلب على كلِّ المشكلات في ضوء عصرنة التجريب ، و من خلال أسرة عالمية واحدة تحترم خصوصية الهوية العادلة لكلّ عنصر فيها ، وتقف ضدّ كل الادّعاءات وافتراءات الإرهاب بكافة أنواعه .. ، وكما نجح بنسبةٍ عالية حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية في شتى المجالات ، فقد أعلن عن طفرة في كشف أجناس أدبية جديدة ، و أكد على الدعوة للتفكِّر في كل حروف الأحداث الدائرة .. ،
والدائرة بصفة عامة تضم عدد من نقط التماس يساوي عدد النقط المُكوِّنة لمحيط هذه الدائرة .. أي عدد لا نهائي من نقط التماس تلك ، ويكون لكل نقطة تماس من الدائرة مايقابلها من الأشكال المتماسة مع هذه الدائرة والدائرة التي نقصدها هنا هي "العلاقات الإنسانية" ، أما نقطة التماس الموجودة على محيطها هنا هي قصيدة نُشرتْ على الشبكة العنكبوتية مؤخراً للشاعر القدير د. سمير العمري بعنوان "برزخ الحفظ" ،
دافع الكتابة :
وكان الدافع لكتابة هذه القصيدة و نشرها على "العنكبوتية" كما فهمت من النص والسياق هو مرور "د.العمري" بتجربة مؤلمة غير مسبوقة بالنسبة له حين افترى عليه بعض من طعموا من شعره وشربوا من إبداعه وتتلمذوا على يديه تهمة سرقة شعره حين وجدوا بعض أبيات قليلة في نص قديم مرتجل في سجال وبعض تناص مع بعض ابيات شعرية قديمة تداخلت بين ذاكرته وقريحته ، فأصابته فجيعتها لعدة ساعات ، حتى تذكَّر ما جاء في الشريعة ، والتفَّ حوله عدد من المُنصفين ، و المنتصرين للحق ، وكانوا سبباً لأن يتهيأ من جديد ، ويلتزم بما ألزمته به الشريعة ، و ما فرضه عليه قلم إبداعه ، و حيثُ أسكنته قيمته الأدبية ، و قامته المشروعة .. ، مؤكداً على دوره في إثراء الحركة الأدبية العربية ، وبما يُتقن من لغتين غيرها .. ، وبما استفاد من مأثور الموروث ، وخبرات ، و ترجمات ، فضلاً عن النزعة الدينية التي تُحرِّكه ، و تلزمه بالتريُّث و أخذ الأسباب الصحيحة في التعامل مع مثل هذه المفاجآت غير المحمودة شكلاً ، لكنها قد تكون في جوهرها تحمل من الخير الكثير مؤمناً بقوله تعالى "قل لن يُصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا" و مطبقاً للتوجيه الإلهي " .. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم" .. ، و من هذا المنطلق يتحرك بالأسباب حتى يُثبتَ حقه أو براءة قدرته ، ثم يعفو مُتخذاً القدوة من خير خلق الله صلى الله عليه وسلم في موقفه مع أهل مكة بعد فتحها .. ، و لأنه شاعر في المقام الأول كانت قصيدته "برزخ الحفظ" أول ردِّ فعل على الوسيلة التي استخدمها خصومه للنيل منْه ، وهْي الطعن في قدرته الإبداعية ، ومحاولة تشويه الحقائق باستخدام شائعة فظيعة يُمكنُ أنْ تجعل كل مَنْ حوله يبتعدون ، وكانت الشائعة عبارة عن استغلال "التناص" في قصائده ، والناجم عن كثرة قراءاته وحفظه من أشعار الرموز نسبة كبيرة ، و قد قَلَبَ خصومهُ موضوع التناص إلى "سرقات" ، وكأنها مقصودة ، رغم أن التناص في حدِّ ذاته وارد ، وفارقٌ كبير بينه و بين التلاص ، ورغم ذلك حاول "د.سمير العمري" إقناعهم بأنه لم ولن يقوم بالسطو على إبداعات الآخرين ، ودعاهم إلى التفكّر بعقلانية ، حيثُ أنه إذا كان قاصداً لذلك الأمر ما تناصتْ نصوصه مع نصوص شعراء محفوظة أعمالهم ، و سبقوه على أرض الإبداع بقرون ، وإنما كان قد ظهر مثلاً أحد الأبيات للشعراء المغمورين ، و عندئذٍ قد تأتي شبهة السرقات الأدبية ، أماَّ وجود أبيات لعظماء تاريخ الأدب و الشعر دون غيرهم ، فهو يجعل من هذه الشبهة الذميمة لا محلّ لها من إعراب كينونته ، وكينونة كل العقلاء، و هكذا استمرَّ بِخلقه الذي اكتسبه من شريعته ، و تم صقله من خلال أدبياته استطاع التغلب على هذه المشكلة ، و تجمع حوله محبوه ، وكان لهم حق التوضيح ، فكانت قصيدته الغراء "برزخ الحقظ" ..
العنوان:
** و في دعوة للتفكِّر في قصيدة "برزخ الحفظ" للشاعر الدكتور سمير العمري – نبدأ بالعنوان الذي تكون من لفظتين (مضاف و مضاف إليه) ، ولكل منهما معانيها القاموسية .. ، فأما اللفظة الأولى (برزخ)لها أربعة معاني ، واللفظة الثانية (الحفظ) لها ثلاثة معانٍ أخرى .. ، ليكون عدد الاحتمالات –رياضياً- للمعنى المقصود من العنوان أثني عشر احتمالاً ، مضافاً إليها المعاني الأدبية الناجمة عن السياق والاتساق في النص ، والمعاني التي تتولد من أثر الإيحاءات واختيار المفردة ودلالات العلاقة بين لفظتي العنوان .. ، وهذه المعاني الأخيرة لاحصْر لها لأنها تعتمد على رؤى المتلقي للنص الأصلي ، والذي هو بطبيعة الحال لهُ رؤاه التي قصدها المبدع ، وكذلك مايعنيه تعريف المضاف إليه ..
و لنبدأ في قراءة مكثفة لما يرسله لنا العنوان من معانٍ مختلفة :
البرزخ له أربعة معاني ، فهو الحاجز الذي يفصل بين شيئين/الموت و البعث/بحر و آخر/فصي الغدة الدرقية ، فمن قرأ بالمعنى الأول (الحاجز بين أي شيئين عموميين) لابد أن يُدرك المقصود من هذين الشيئين ، وهما ما يتبين من إدراك مايلي هذه اللفظة سواء المضاف إليه أو القصدة مثلاً ، فمَن قرأ لفظة "البرزخ" على أنه الحاجز بين الموت والبعث أي القبر فكأن مبدعنا هنا يذكرنا بالعظة التى ينبغي أن تؤخذ من القبور ، و التي أوصى بها الرسول الكريم .. ، و من قرأ "البرزخ" على أنه الحاجز بين بحرين ، فنجد هنا إسقاط على الفارق بين العذب و المالح رغم تجاورهما ، فإن الحاجز/البرزخ يفصل بين هذا وذاك ،كما يفصل –افتراضياًّ- بين الأبيض و الأسود في حجري العقد (و ستُبيّنه الصورة الكلية للقصيدة) ، و أما مَن قرأ هذه اللفظة كذلك طبياًّ على أنها الحاجز بين فصي الغدّة ، فإن الشاعر هنا يوجه خطابه لكلِّ ذي فكر علمي ، أو يتأمّل القدرة في نفسه/خلْقه حيثُ أن هذا الحاجز الدرقي يحتل المكان الأوسط من القصبة الهوائية ، مماَّ يؤكد أهميته لاستمرار الحياة .. ،و منْ الأربعة معاني السابقة أيّ منها التي يقصدها المبدع؟ وأيّ من الاحتمالات الأثني عشر؟ وأي الدلائل والإيحاءات التي تنجم عن العلاقة بين لفظتي العنوان؟
للتعرف على الإجابة ننتقل إلى ما أُضيفتْ إليه لفظة "برزخ" لنرى أن المضاف إليه هنا هو لفظة "الحفظ" ، و لْنبدأ بالمعنى الأول العمومي للبرزخ ، وهو الحاجز بين شيئين ، ونقرأ معاً أول ثلاثة احتمالات .. ، وكما كان من مرادفات أو تأويلات لكلمة "برزخ" ، فهناك مرادفات متعددة لكلمة "الحفظ" .. ، فهي تعني الحراسة ، و الحرز/الحوط ، و الوعي/الضبط بالعلم و الكلام ، فإن كان المعنى المُراد هو الحراسة ، فيكون معنى العنوان هنا هو "حاجز الحراسة" .. ، وما هذا الحاجز؟ أيعني المبدع به القميص الواقي الذي يرتديه عِلْية القوم حتى لايصيبهم جاهلٌ أو مغامر أو متهور ، أو مأجور ، أوحتى الثائر سواء بحق أو بغيره؟
و في المعنى الثاني للحفظ ، وهو حاجز الحرز/الحوط .. أيكون المقصود هنا أن وجود هذا الحاجز يحمي أيضاً من إية ضرر يقوم به مخلوق أياًّ كان وضعه؟
أما في المعنى الثالث يكون المعنى هو "حاجز الوعي بالعلم و الكلام" .. ، و هل في هذه التركيبة كناية عن أهمية عدم الخلط بين الأمور و التأويلات ، مثل الخلط بين الحق و الباطل .. ، بين حُسْن النية و سوء القصد ، ..؟
وقبل أن ننطلق إلى أبيات القصيدة .. لابدّ أن نُشير هنا إلى ما يُمكن أن نطلق عليه "شخصية النص" عند الدكتور سمير العمري لأن ذلك سينطبق على جسد هذه القصيدة ، وباقي أعماله، و يُعدُ مدخلاً لقراءة "د.العمري" عموماً
شخصية النص :
التشكيل الجمالي:-نجد التفكير في اختيار اللفظة الموحية ، والتركيب الدقيق للجملة الشعورية ، وكذلك التصوير ، و استخدام البديع دون تكلّف ، وإن كانت فيه الصنعة ..
يأتي الجناس الناقص بين "قمح" و "قرح" وكذلك بين "روح" و "ريح" ، "فجيعة" و "وجيعة" ، "ذريعة" و "شريعة" .. ، والمقابلات و التضاد مثل تجاور حجريّ العقد رغم اختلاف ألوانها بين الأبيض و الأسود ، الجمر و الإطفاء ، سخط و رضا ، .. والكنايات و التورية وهكذا
الموسيقى :- يلتزم بالشعر العربي الأصيل ، و الألفاظ ذات الحروف المتجاورة أو المتنافرة تبعاً لفونيمات الأصوات و مستوياتها المطلوبة للمعنى المقصود علواًّ و انخفاضاً فضلاً عن المقابلات والعلاقات المُمَوْسقة ، أما اختيار الرويّ ، فقد كان الـ "فاء" باعتبارها أول حرف من "فجيعة" ، والتي ذُكرت أيضاً في أول شطر ، وأماَّ حركة الفتح التي اكتسبتها "فاء" الرويّ ، و إطلاقها مع حذف همزات الكلمات المنتهية بالهمزة ، فذلك كان بقصد إعلان سموّ و علوِّ من تعرَّض لهذه الأزمة ، وللتخفيف عنه بعد توضيح الأمر ، ومَنْ هو ذا ؟ هو الـ"أنا" و الـ"أنا الآخر" أو الذات الشاعرة للدكتور سمير العمري ..،
كما أن اختيار البحر الطويل كذلك لم يأتِ عبثاً ، بل لأنه أول البحور المركبة ، ويبدأ بالوتد المجموع (//ه) ، و الوتد أقوى من السبب (/ه) لذا وجب تقديمه ..
اعتزاز المبدع بنفسه :- يتبين اعتزاز "العمري" بنفسه رغم ما يتعرض له من انقلابات ، وشجاعته الأدبية إذا بَدَر منه خظأ بادر فأصلحه ، وشجاعته كذلك في مواجهة خصومه بالفكر و الإبداع ، فهنا كاف المخاطبة لنفسه في أول بيتين من القصيدة ، ثم استحضار ذاته أمامه في المرآة ليحدثها ، ويعرف ماهية قدْره و قَدَره ، ثم يذكر مَن وقفوا بجانبه ، وبأسمائهم في قالب شعري خالد ، وفي إطار توكيد "العمري" على ريادته .. ، ومع ما قدْ تجْلب له هذه الريادة من المشكلات والخصوم ، فإن دوره الرائد يعتبرها إحدى ضرائب التميز ، ويفرض عليه ماتفرضه شريعته ، وهو النصيحة .. "إن الدين النصيحة"
النزعة الدينية :- ذكر د. سمير العمري لفظة "الشريعة" صراحةً ، وفي هذا إجمالٌ يأتي تفصيله في أبيات القصيدة ، وسيظهر جلياًّ مدى تأثره بالقران والسنة .. يقول:-
المأثور و الموروث :- يستفيد "د.سمير العمري" من الموروثات الشعبية و الأقوال المأثورة ، ولديه إمكانية عمل تركيبة بنسب معينة لعدد من الموروثات و المأثورات لمعالجة موقف معين أو حدث ما ، وقد استفاد في ذلك بطبيعة عمله كصيدلي ، مع خبراته و احتكاكاته بقئات مختلفة و مجالات متنوعة
التداخل بين شخصية النص وشخصية "د.سمير العمري" :- دوماً تجد نصوص "العمري" تتجه في مسارها نحو القيم الدينية السامية مثل الإيثار، العدل ، الجمال ، الرضا ، الولاء ، الانتماء ، والنصح ، والتواضع ، واحترام العقل والبحث العلمي بأسلوب أدبي رفيع ، مع وضْع كلٌ حسب قدْره ومقدرته في المنزلة التي تليقُ به
الإيمان لإتمام الرسالة:- بعد توضيح الأمر في قصيد ينساب بسلاسة لغوية أخاذة و تصوير مُدْهش ، يؤكد "د.العمري" على إتمام رسالته ، وتطوير هدفه الرئيسي ، وهو "رابطة الواحة الثقافية" و التي أبداً لن تهتز بأي انقلابات مادامت تتحرك في إطار الشرع ومشروعية الكتابة
التجديد والانسياب اللغوي الأخاذ:- رغم تمسك الدكتور سمير العُمري بأصل اللغة ، و عامود الشعر إلاَّ أنه يأتي بلفظة غير قاموسية ، لكنها قابلة لإدخالها في المعجم ، وذلك بتوظيف قائم على التفكير و الشاعرية .. ، وبالتالي نجد القاموس اللغوي "العمري" في حالة تجدّد مستمر ، وانسيابية أخاذة
التنوع الأسلوبي : يتنقل "د.سمير العمري" بين الأساليب المختلفة ، و كلَّما تنوعّت الرسالات المرجوة ، يزيد النفس الشعري ، والتنوع الأسلوبي مابين إنشائي ، خبري ، و توظيف شعوري مختلف لعلامات الترقيم
و إذْ نحن بصدد التفكيرٍ في احتمالات المقصود من العنوان ، وبعد معرفة شخصية النص عند "د.سمير العمري" ننتقل إلى القصيدة ذاتها ..
القصيدة :
يستهلُّ د. سمير العمري قصيدته و مُستخدماً "كاف" المخاطبة بقوله :-
|
إِنَاؤُكَ مِنْ قَمْحِ الفَجِيعَـةِ قَـدْ أَجْفَـى |
وَمَاؤُكَ مِنْ قرْحِ الوَجِيعَـةِ قَـدْ جَفَّـا |
وَوَجْدُكَ مِـنْ رِيـحِ الذَّرِيعَـةِ جَمْـرَةٌ |
وَغَيثُكَ مِنْ رُوحِ الشَّرِيعَـةِ قَـدْ أَطْفَـا |
|
|
يُكلِّمُ ذاته/ الـ أنا و الـ أنا الآخر ، يُعرِّف الـ "قمح"(وهو النبات العشبي الذي يُتخذ منه الدقيق) بإضافته إلى "الفجيعة"(المصيبة المؤلمة) ، وكأنه يؤكِّدُ على أن المكسب/البر لا يأتي إلاَّ بعد خسارة ، أي يُمكن تحويل الخسارة إلى مكسب ، ثم يستخدم "قد" لتوكيد الفعل الماضي الذي يليها ، واختياره لهذا الفعل سببَّ إشكاليات عديدة منها : أن الفعل الثلاثي الأصلي إما "جفَّ" بمعنى يبس ، أو "جفا" بمعنى بَعُدَ وغلظ و اخشنّ ، ولفظة "أجْفى" التي أتي بها المبدع إماَّ أن تكون فعلاً ، ولكنّه فعلٌ متعدي يلزمه مفعولٌ به .. نقول "أجفى الشيءَ/أبعده" ، وفي البيتِ لم يأتِ بمفعولٍ به ، و عندئذٍ ننتقل إلى "أجفى" الثانية ، والتي تأتي كأسلوب تفضيل على وزن أفعل .. يقول المصطفى الكريم صلوات الله وسلامه عليه :"أجفى الناس مَنْ ذُكرْتَ عنده و لم يصلِّ عليّ" ، و شاعرنا هنا لم يأت بها كأسلوب تفضيل ، وذلك لعدم إضافتها (أجفى الناس) أو لعدم وجود لفظة "مِنْ" للمقرنة والأفضلية (س أجفى من ص) ، و أما إذا تأملنا مُبتدأ الجملة "إناؤكَ" ، فإنه كان يلزم للإناء الفعل الخماسي "اجتفّ" بمعنى شُربَ كلّه ، وعلى ذلك فقد أراد المبدع بلفظة "أجفى" فعلاً رباعياًّ يُمكن تأويله لكلِّ المعاني السابقة ،
و في الشطر الثاني من البيت الأول يبدؤه بـ "الماء" يؤكِّد أنه "جفّ" من "قرْح الوجيعة" .. ، و"القرح" هو مابَدَتْ بهِ جروح ، و "الوجيعة" هى الموجعة .. ، ويقصدُ هنا أن الماء قد جفَّ من الجرْحِ الموجع .. ،
و في هذا السياق و اتساق المعني يكون المقصود من البيت الأول أن "د.سمير العُمري" المبدع الشاعر يكلم "د.سمير العمري" الإنسان ليؤكد له وصْف الحالة/تشخيصها أن الإناء قد استغلظ واشتدَ بهذه الفجيعة والتي قد تكون خيرا ، وقد تكون شراًّ ، وبناءً عن كيفية الاستخدام لهذا الإناء و ردّ الفعلً ، وكذلك بالنسبة للماء الذي جفّ .. هل ستنتهي الحياة ، أم يكون الصبر ؟
و في ضوء تشخيص الحالة أيضاً يؤكد في البيت الثاني أن "الذريعة"/الوسيلة التي كانت سبباً في حالتي الماء والإناء كانتْ وسيلة شديدة التأثير فجعلتْ من "الوجد"/ الحزن جمرةً إذا استخدمها للردّ لأحْرق مَنْ صنعوا هذه الوسيلة بأشدِّ منها .. ، ولكن .. هنا يتم تدارك أمر الانتقام وهذه المحرقة بماذا؟ بالغيثِ الذي يُنطلق من "روح الشريعة" ، فَيُطفئُ كلّ شرٍّ ، فلا المبدع الإنسان المُصاب ينتقم بشرٍّ إيماناً بما جاء في الشريعة أن الله لنْ يترك مَن ادّعى و ظَلم ، وتسبّب في هذه الحالة المُحزنة ، وكذلك لن يترك سبحانه و تعالى مَنْ ظُلم و عاني جرّاء ما فعله المُدّعون الظالمون ... ، كما أن الشريعة هنا تُتيح لمن ظُلم أن يأخذ بالأسباب الصحيحة ، وبعيداً عماَّ يُغضب الله حتى يُبرأُ ممّا تعرَّضَ له ، و من بين هذه الأسباب يكون القلم حين يُسجِّلُ مداده هذه القصيدة لإظهار الحقيقة ، و وصف الوضْعِ ، و فكِّ شفرات الخلط والادّعاءِ ، وَمِنْ ثَمَّ أيضاً إبراز صورة مَن انتصروا للحق ، وكشْف مَن أخذهم الباطل في سراديب مُظلمة .. ، وأيضاً تدعو الشريعة إلى أخذ الأمور بأحسنها ، وترفض التصيَّد و اتباع الشبهات ، كما تؤكد الشريعة أن مَن دهاه أمرٌ دون قصد ثم أصلح ، وأثبتَ حُسْن النية ، فإن الله يغفر له ، ويبدّل السيئات إلى حسنات ، فما بال مَنْ تعرَّض للأذي ظُلماً و عدواناً و صبر .. ،
يقول "د.سمير العمري" :-
|
أَلا أَيُّهَا السَّـارِي عَلَـى دَرْبِ هِمَّـةٍ |
تَعزُّ عَلَى الشَّكْـوَى وَتَفْخَـرُ بِالأَكْفَـا |
هُوَ العَهْدُ فَانْزَعْ نَزْغَةَ السُّخْطِ بِالرِّضَـا |
وَرُدَّ اللَيَالِـي بِالمَحَـبَّـةِ وَالزُّلْـفَـى |
فَحِلْيَةُ مَنْ يَسْمُو عَلَـى الغَيـظِ حِلْمُـهُ |
وَلَيسَ شَدِيـدًا مَـنْ يُنَازِعُهَـا العُنْفَـا |
وَكُلُّ إِنَاءٍ مِنْ هَـوَى النَّفْـسِ نَاضِـحٌ |
فُصُبَّ مِـن الإِبْرِيـقِ أَعْذَبَـهُ رَشْفَـا |
|
|
ويتبين هنا الاعتزاز بنفسه ، وبالدرب الذي يسير عليه ، وهو "درب الهمة" ، كما أنه مَن تعزُّ/تندر عنده الشكوى ، بل يفتخر دوماً بالأكفأ ، وهو مَنْ أخذ على نفسه عهداً بأن ينزع الطعنات/النزغ بما تجلبه من سخط أو جلبها السخط عليه ، فما هو إلاّ مَن يجب أن يتخلص منها بالرضا .. سواء برضاه هو بما قدّر الله ، أو برضا الله عليه ، أو بالرضا الناجم عن اتخاذ الموقف السليم في وقته و العفو عند المقدرة .. يقول تعالى:"وإماَّ ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله" ، كما أنه من علامات المؤمنين وعباد الرحمن في القرآن الكريم "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس و الله يُحبُّ المحسنين" ، و يقول عز وجل "فادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة وليٌ حميم" .. ، كما أن الشاعر هنا يتأثر بالحديثين الشريفين "الحلم سيد الأخلاق" و "ليس القويّ بالصرعة ، إنما القوي مَن يملك نفسه عند الغضب" .. ، والشاعر يؤكد على المحبة و المنزلة/الزلفى ، ويستفيد أيضاً من المثل الذي يقول "كل بئرٍ ينضح مافيه" .. ، فإذا كان الخصوم أساءوا ، فهذا من معينهم ، ولا يعني أن يرد شاعرنا بنفس أسلوبهم لأنه من معينٍ أرقى ، ولذلك يختار لنفسه "الإبريق" كي يصبَّ منه "أعذبه رشفا"
و حول هؤلاء الذين لا يتطورون ، و أغلقوا على أنفسهم ، حتى إذا مارأوا العلا صار مُلتصقاً بالمبدع ، و كأنه أدمنه بخمرٍ مُسكر انقلبوا عليه مُنشقين حسداً و حقداً .. يقول:
|
عَجِبتُ مِن الأَيَّامِ مَـا انْفَـكَّ دَأْبُهَـا |
يَـدُورُ عَلَـى ذَاتِ الوَتِيـرَةِ لا يَغْفَـى |
أَفِي اليَومِ مَا فِي الأَمْسِ وَالأَمْسِ فِي غَـدٍ |
وَمَا عَرِفَـتْ إِلا الغَيَاهِـبَ وَالعَصْفَـا |
تَدُورُ بِذَاتِ الكَـأْسِ مَـا بَيـنَ نَاقِـمٍ |
وَبَينَ ظُنُونٍ قَـدْ شَقَقْـنَ لَنَـا جَوْفَـا |
كَـأَنَّ العُـلا لَمَّـا تَسَاقَـى مُدَامَتِـي |
سَقَى أَلْفَ نَفْسٍ مِـنْ تَمَيُّزِهَـا زَعْفَـا |
|
|
وكأن هذا العلا سقاهم سماًّ قاتلاً/زعْف ، فداروا مابين "ناقم" و "ظانٍ" ، وبنفس الوتيرة ، ويعجب لأمرهم ، وكأن كبيرهم لا يعقل أن الأيام تتوالى ، وشأنها ثابت المتغيرات "كلُّ يومٍ هو في شأنٍ" .. ، و في ذلك دعوة لكلِّ ذي عقل ... ، أماَّ مَنْ سار على وتيرةٍ واحدة مع المتغيرات التي تدور حوله ، لكنه شغل نفسه باصطياد عيوب الآخرين –إن كان بهم عيوب- عن نفسه الأمّارة بالسوء ، ولم يتح لنفسه فرصة التفكر أو الغفوة للاستراحة من ظنونه و اتهاماته التي يلقي بها مَن علا قدرهم ، وهو بذلك غير راقٍ و لا مُتحضر ، ويخالف الشرع باتهاماته القائمة على الظن وسوء النية "إن الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً".. ،
و أما الظنون هذه و أفعال الناقمين على شاعرنا قدْ أثرتْ فيه حتى تسببت في شقوق اتسعت وانخفضت في باطنه/جوفه كما اتسع وانخفض من الأرض
و هنا نجد الفعل "يغفى" ، وبينما الفعل الأصلي الثلاثي هو "غفا" ومضارعه "يغفو" نجد أن الشاعر "د. سمير العمري" يأتي به على أصل فعل رباعي ، و"أغفى فلانٌ" تعني أنه غفا ، و مضارعه بالواو أيضاً و نادراً ما يأتي بالألف .. !
و في مقابلة عقلانية شاعرية بين موقفه من فعل خصومه و هجائهم له يُبين "العمري" أنهم إذا مدّوأ إليه بالكفين سوءاً ، فسوف يمدُّ لهم كفاًّ ، وقد عرَّف كفيهم ، و نكَّر كفّه هو ، وذلك لأن كفيهم الآن لايمُدان إلاَّ بالواقع الأليم ، أما هو فسيمدُّ كفاًّ بالردِّ ، وكفاًّ بالعفو ، و قد يحتمل المعنى تأويلاً آخر .. إذْ أن خصومه يمدّون كلا كفّيهم ، فهو بكفٍّ واحدة يمكن أن يردَّ كيدهم ممّا يؤكد ثقته بنفسه وقوته أمام ضعفهم و مهاتراتهم .. ، وهناك تأويلٌ ثالث لاستخدام "العمري" التكير في لفظة "كفّ" ، وهو أن العمري يعرف كيف يكفيهم ، و لا يمتدوا في غيهم .. يقول:-
|
وَقَالُوا هَجَاكَ القَومُ مَـا أَنْـتَ فَاعِـلٌ |
فَقُلْتُ: سَلامًا لا أَمـسُّ لَهُـمْ طَرْفَـا |
هُمُ الصَحْبُ وَالأَحْبَابُ لا مِثْلَ صَاحِبٍ |
يُعَبِّقُ أَنْفَ العَيشِ مِـنْ نُصْحِـهِ عَرْفَـا |
وَكَمْ طَائِـرٍ أَقْلَـى مِـنَ النَّقْـرِ إِلْفَـهُ |
فَذَابَ حَنِينًا لَـمْ يَجِـدْ عِنْـدَهُ إِلْفَـا |
فَـإِنْ مَـدَّتِ الكَفَّيـنِ مِنْهُـمْ جِنَايَـةٌ |
فَمَا الفَضْـلُ إِلا أَنْ أَمُـدَّ لَهُـمْ كَفَّـا |
وَإِنْ قَدَحُوا بِالصَّدِّ فِـي القَـدْرِ مَـرَّةً |
فَقَدْ مَدَحُوا بِالـوُدِّ فِـي قَدْرِنَـا أَلْفَـا |
|
|
و تؤكد هذه الأبيات مدى نفاقهم ، فهم "إن قدحوا بالصدِّ مرةً ، فقد مدحوا بالودِّ ... ألفا" ، وشبه الجملة "في قدْرنا" تؤكد علمهم بقدْره و مكانته ، كما تُبين الأبيات مدى "دبلوماسية" العمري وإحقاقه للحق في قوله "سلاماً .. هم الصحب و الأحباب" ، كما تظهر الحكمة و الحنكة في قوله "... لا مثل صاحبٍ يعبّق أنف العيش من نصحه عَرْفا" ، والعَرْف هو مايستعمل للرائحة الطيبة .. ، وكذلك تصويره للطير الذي يظل ينقر في إلفه حتى لايجد له إلفا .. ، و ماهذا الجناسُ بين إلفا و ألفا .. ، و التلاعب اللفظي الطيّع لتنسكب الحروف مع المعاني في قارورة "الفكر قبل الشعر" ..!
و لا يغفل "د.سمير العمري" أن أشعاره تعمل على المُصالحة بين الفكر و الوجدان .. ، فهو إذْ يمتاز بالفكر الناضج هو أيضاً مَن له قلبُ ، وعاطفة هذا القلب توازي العقل في التعامل مع مُدبِّري هذا الحدث المؤلم يقول :-
|
وَلِي قَلْبُ عِرْفَـانٍ عَصَـرْتُ شِغَافَـهُ |
سُلافَ وَفَـاءٍ مِـنْ عَلائِقِـهِ صِرْفَـا |
تُرَاودُهُ الأَحْـدَاثُ مِـنْ كُـلِّ مِرْيَـةٍ |
فَمَا مَالَ عَنْ نَهْـجِ الوَقَـارِ وَلا خَفَّـا |
إِذَا غَرِمُـوا أَعْفَـى وَإِنْ ظَلَمُـوا عَفَـا |
وَإِنْ سَقِمُوا عَافَـى وَإِنْ شَتَمُـوا عَفَّـا |
وَإِنْ نَكَثُوا وَافَـى وَإِنْ غَـدَرُوا وَفَـى |
وَإنْ طَلَبُوا أَوْفَـى وَإِنْ بَخَسُـوا وَفَّـى |
|
|
وبالنظرة السريعة لهذا المقطع تجد تجاور الألفاظ ذات الحروف المتقاربة بطريقة مدهشة ،
تأمل معي صديقي القارئ الحميم تجاور كلمات : أعفى ، عفا ، عافى ، عفاَّ .. ، وكذلك وافى ، وفَى ، أوْفى ، وفّى .. ، و تأتي سمة العطاء ضمنية ، ولم يُصرِّح بها لفظاً ، إنما سلوكاً طبيعياًّ ، وهذا السلوك تُحركه عاطفة القلب الذي جبل على العرفان والوفاء ، ولم ينحرف عن الوقار الذي انتهجه ، ولم يُنقص من التزامه بهذا النهج مهما راودته الأحداث بحلوها و مُرِّها ..
و بوقار المبدع الواثق يصف "العُمري" نفسه قائلاً:-
|
مُحِيـطٌ أَنَـا لِلشِّعْـرِ قَاعِـي مُمَـرَّدٌ |
وَمَائِيَ مِنْ عِطْـرِ الزَنابِـقِ أَو أَصْفَـى |
وَصَيدُ مَجَالِـي جَـاوَزَ المَـدَّ وَالمَـدَى |
وَبِنْتُ خَيَالِي لا يُحَـاطُ بِهَـا وَصْفَـا |
وَمَا كُنْتُ أَرْضَى الحَـرْفَ إِلا نَسِيجُـهُ |
حَرِيرٌ بِأَحْـدَاقِ الجَوَاهِـرِ قَـدْ حُفَّـا |
أُغَنِّي ؛ وَمَا فِي النَّـايِ إِلا حُشَاشَتِـي |
تَرَانِيـمَ قَلْـبٍ لا أَكِـلُّ بِـهِ عَزْفَـا |
بِشِعْرٍ سَرَى فِي الصَّدْرِ كَالبَدْرِ فِي الدُّجَى |
يُلامِسُ فِي الوجْدَانِ بِالنُّورِ مَا اسْتَخْفَـى |
وَفِكْرٍ جَرَى فِي الدَّهْرِ كَالنَّهْرِ فِي الحِجَا |
يُطِيبُ لأَهْلِ الرَّأْيِ مِـنْ نَبْعِـهِ الغَرْفَـا |
|
|
يصف نفسه –مع تواضعه- بأنه المحيط للشعر ، والمحيط في كافة الأشكال الهندسية هو الإطار الذي يحتوي و تتشكَّل به هذه الأشكال ، و لقد اخترت الشكل الدائري في قراءتي لهذه القصيدة لأنها تدور حول حدثٍ بعينه ، وزاخرة بتقنيات القصيدة الحديثة والتي عُرفتْ في "مسطرة النقد الشعرية" رغم تمسكها بالشكل العمودي ، كما إن هذه القصيدة "برزخ الحفظ" تزخر بتعدد الأغراض داخل إطار/محيط واحد هو "غرض العُمري" .. ، ففي القصيدة مايُمثل أغراض الوصف ،الفخر ، والحماسة ، والتسامح ، والوطني/الواحة ، والعاطفي ، والديني و .. وغيرها ، فالشاعر هنا يُعلنُ أن أفكاره جاوزت "المدّ والمدى" ، كما أن صوره الخيالية لا يستطيع الوصف أن يُحيط بها ، ولايرضى بالحرف إلاَّ إذا كان نسيجه من حرير محفوفٍ بالجواهر ، يغني من القلب و لا يكلُّ ، فالشعر عنده بيسري إلى الصدور مباشرة لأن الموروث الشعبي يؤكد أن "ماخرج من القلب دخل القلب" ، كما أن أفكاره وحُجَّته تروقُ لأهل الرأي ،فيغترفون منها ..!
ويستمرُّ "د.العُمري" في التلاعب باللفظ و الموسيقى الداخلية –استعراضياًّ- مثل الجناس بين "في الصدر كالبدر" و "في الدَّهر كالنهر" ، كما يصف ماءه/إبداعه بعطر "الزنابق" ، ثم يعلو تدريجيا ليقول "أو أصفى" من هذا العطر ، ليضطرد النفس الشعري ، و تتوهج الرغبة في الإعلان عن نفسه أمام مايدّعيه هؤلاء الخصوم ضعاف النفوس و الحجا ، و مريضي القلوب ، و غير المبدعين حقاً إذا ما قورنوا به .. ياللردّ المُعلقة !
و قد يرى بعضهم أن هذه الحماسة في الردّ قدْ شملت الجميع ، خصوماً و أصدقاء ، قريبين إلى نفسه أو بعيدين .. ، و ربما أحسَّ أحد المقرَّبين إليه بالإهانة ، أو استشعر تهويلاً في الوصف ، فأضمرشيئاً في نفسه ، وخصوصاً أن "د.العمري" أقرَّ بوجود تناص في أشعاره مع نصوص لشعراء سابقين ، ويبدو أن "د.العمري" الشاعر المُفكّر قد تنبّه لهذا التأويل .. ، فأجلّ الحديث عن نفسه ، وأخذ يخاطب الجميع بعقلانيته الشعرية المعهودة ، بطرح عدة أسئلة تخاطب عقل المتلقي ، و تمنع التشويش على تصوراته الذهنية .. يقول :-
|
فَكَيفَ يُنِيبُ العَبْدَ مَـنْ كَـانَ سَيِّـدًا |
وَكَيفَ يَسُومُ النِّصْفَ مَنْ يَمْلكُ الضِّعْفَا |
وَلَو كُنْتُ مَخْبُولا لَمَا كُنْـتُ جِئْتُهَـا |
فَكَيفَ وَقَدْ كُنْتُ الحَكِيمَ الذِي يُقْفَـى |
وَلَكِنْ دَهَانِي بَـرْزَخُ الحِفْـظِ للِأُلَـى |
وَإِبْدَاعِ نَظْمِي بِامْتِـزَاجٍ وَقَـدْ أَغْفَـى |
أَمَا اخْتَلَطَتْ بِيضُ اللآلِـي وَسُودُهَـا؟ |
فَكَيفَ جَرَتْ فِي السِّلْكِ وَانْتَظَمَتْ صَفًّا؟ |
|
|
يبدأ طرح أسئلته بسؤال شكله عام ، وجوهره يؤكد وصفه لنفسه .. ، إذْ يتساءل بحرفية شديدة تجعل المتلقين يتساءلون معه "كيف لِمن كان سيدّاً يُنيبُ عنه عبداً" ، توظيف كان هنا ليس مجرد أنه فعل ماضي ناسخ ، وإنما للإقرار بالسيادة .. ، ويتبع هذا السؤال بآخر ، وهو "هل من المعقول أن يطلب من كان يملك الضِّعف مِمَّن يملك النصف .. أي أن المدّعين لا يملكون إلاَّ ربع مايملكُ شاعرنا ، فهل يُمكن لأصحاب "الرّبع" مَنح أصحاب "الكلّ"؟ ، و ما إن يستميلُ إليه الناس يعود لأسئلته ، ولكن بشكل مباشر حول نفسه ليصل بالعقل و مشاركة فكر الآخرين معه إلى براءته مماَّ اتهمه خصومه .. "ولوكنتُ مخبولاً لما جئتها" ، والهاء هنا قد تعود على هذه الأبيات التي تناصت مع أشعاره ، أودُسَّتْ فيها ، وقد تعود الهاء هنا إلى هذه القصيدة التي نحنُ بصددها ..، ثم يتساءل :- كيف له أن يقصد القيام بما أسموه سرقة أو "امسك حرامي" ، وهو الحكيم الذي يُقتدى به ، ويقتفى أثره ، وهو قافية القصيدة التي هي جرسها الموسيقي الأول .. ، وهنا يستخدم كلمة "لكن" للاستدراك و لفت الأنظار إليه حتى يُظهر سبب ما حدث ، و يؤكد أن السبب هو كثرة حفظه لأبيات السابقين ، وكان هذا الحفظ سبباً في إصابته بداهية الامتزاج ، وإن كانت مشروعة في عالم الكتابة .. إلاّ أنها تمثل بالنسبة له "داهية"/مصيبة لأنه كان بإمكانه أن يأتي بمثلها أو بأفضل منها ، أو على كل الأحوال كان قد وضع حولها قوساً لبيان التناص ، وهذا لن يُنقص من شأنه أو شأن قصائده شيئاً ، لأن التناص أيضاً ليس عملية سهلة ، و إنما يأتي في اتساق السياق العام للقصيدة .. ، لكنها كانت سهْواً ، وتم تداركه ، و مايؤكد حُسْن النية هنا و تعظيمه لأصحاب النصوص الأصلية قوله عنهم "الألَى" دون أن يأتي بعدها بأي توصيف لهم مثل "رحلوا" مثلاً ، "تسببوا في هذه المشكلة" وخلافه .. ، إنما "الألى" هكذا فقط للدلالة على أنهم معروفون ، ولا يُمكن أن يفكر السارق في سرقتهم ..،
ثم يُصور أن نظمه الإبداعي هو الذي غفا بالامتزاج .. ، ليختم فقرة التساؤات هذه بسؤالٍ له وقْعه الخاص بتوافقه مع طبيعة الحدث ، و لا يُدين شاعرنا .. يسأل : "أما اختلطت اللآلئ و انتظمت صفاً في العقد رغم اختلاف ألوانها ، ولم يُنقص هذا الاختلاط ، وتغيير الألوان مِن كونها أحجار كريمة ..!
و يُنهي هذه المقطوعة التساؤلية بإسلوبها الإنشائي ، و يبدأ في التوضيح بأسلوب خبري/"تقريري" يوجبُ على المرءِ أن يستخدم العقل ليصل بالدليل لأن ليس كل مايظهر على السطح كفيلٌ أن يُبين الحقيقة التي قد لا تأتي إلاَّ بالغوص و التعمق التفكَّري ، وكذلك لأن ليس كل الناس متساويين في بساطة طرق التفكير ، وإنما منهم بسطاء التفكير ، و على نفس السياق يؤكد "د. سمير العمري" أنه يوجد مَنْ هو "عفّ القصد" ومن هو "كان ذا حقدٍ" ، وكلاهما يختلف .. ، فالأول لا يقذف و لا يسب من أخطأ سهْواً ، أما الثاني يتصيّد و كأنه –واهماً- يتحرَّى أن الأرقى يُساومُ الأدنى .. يقول:
|
إِذَا دَارَ قَصْـدُ المَـرْءِ دَارَى رَشَــادهُ |
وَسَاقَ دَلِيلَ العَقْلِ فِي الحُكْمِ وَاسْتَكْفَـى |
وَمَا كُلُّ مَا يَبْدُو مِـن الأَمْـرِ ظَاهِـرًا |
كَفِيلٌ بَأَنْ يُجْلَى الصَّوَابُ بِـهِ كَشْفَـا |
فَمَنْ كَانَ عَفَّ القَصْدِ صَـدَّقَ وَاتَّقَـى |
وَأَدْرَكَ أَنَّ السَّهْـوَ لا يُوجِـبُ القَذْفَـا |
وَمَنْ كَانَ ذَا حِقْدٍ عَلَى الشَّأْنِ وَالسَّنَـا |
تَحَرَّى الثُّرَيَّـا أَنْ يُسَاوِمَهَـا الخَسْفَـا |
|
|
وساخراً من هذا الحاقد يقول "العمري" :-
|
يَظُنُّ بِرَجْـمِ النَّجْـمِ بِالوَجْـمِ شُهْـرَةً |
وَيَحْسَبُ أَنَّ الشَّأْفَ فِي صَدْرِهِ يَشْفَـى |
|
|
يبدأُ البيتَ بكلمة "يظن" مماَّ يؤكّد أنّ هذا الحاقد على خطأ ، ولذلك يؤكد "د.العمري" أنه نجم ، ولا يؤتي رجمه بأي ثمرة للراجم ، حتى وإن وَجمَ/ سكتَ هذا النجم، فلن يحظى بالشهرة في المقابل مَنْ رَجم .. ، ولن يشفى قرْح صدره لأنه حاقدٌ و ناقمٌ بطبعه ، والعياذ بالله
و على النقيضِ تماماً نجد أن مَن رضوا بما قسمه الله ، رضي الله عنهم و أرضاهم ، و في القول المأثور : "أنه إذا قدّر الله لنعمة أن تنتشر قد يُسلِّط عليها لسان حاسد" .. ،
يقول شاعرنا:-
|
أَرَانِـي كَـأَنَّ اللهَ بِالخَيـرِ خَصَّـنِـي |
فَقَيَّضَ لِي الحُسَّـادَ تَخْدِمُنِـي عَكْفَـا |
كَسَونِي كِرَامَ القَومِ تَسْخُـو بِفَضْلِهَـا |
وَعَرَّوا لَئِيمَ النَّفْسِ يُبْدِي الـذِي أَخْفَـى |
وَإِنِّـي أَمُـدُّ الـكَـفَّ للهِ سَـاجِـدًا |
بِشُكْرٍ وَقَدْ أَهْدَى الكِـرَامَ لَنَـا صَفَّـا |
|
|
و حقّ للشاعر "د.سمير العُمري" أن يفتخر بما قدّرهُ الله ، وسلّط عليه لسان الحاسد ، فتجمع الكرام ، و أيدوا الحق ، و لماّ انتصر "العمري" وجَب عليه أن يخرَّ ساجداً لله حمداً و شكراً على أن نصره ، و أهدى له كراماً و قفوا بجانبه .. ، وهذا الحدث يتكرر كثيراً ، ولكن المهم مَنْ تنفعه العِبرة ،
و لأن الله عز وجلّ قال في كتابه العزيز : "و لا تنسوا الفضل بينكم" ، كما أن القول المأثور يقول "مَنْ لم يشكر الناس لا يشكر الله" ، فقد بدأ "د. العمري" في سرد أسماء الذين ناصروه ، وسماتهم حتى وصل إلى خاتمة النص بتفاؤلٍ لتوكيد أن شموس النور في " الواحة الثقافية" ستعلو ، و يسري دعاة الخير مستظلين بها ، و قدْ كوّنوا حلفاً مترابطاً ، ومعتمدين على الله الذي لا يُخيّب رجاء مَن استعان به ، وَ مَنْ أوجده الله فَمَن يلغي وجوده؟
يقول "د.سمير العمري" ، وحتى نهاية النص :-
|
بِحُرٍّ سَلِيـلِ المَجْـدِ مِـنْ آلِ غَامِـدٍ |
وَلَو قَامَ فَـرْدًا لِلجُنَـاةِ فَقَـدْ كَفَّـى |
وَهَذَا نَدَى مَحْمُودَ قَـدْ زَادَنِـي أَخًـا |
وَهَذَا جَلالُ الصَّقْرُ قَدْ فنَّـدَ السُّخْفـا |
وَكَانَ شَذَى الإِنْسَـان مِـنْ أُمِّ ثَائِـرٍ |
فَرِيدٌ وَمِنْ أُخْتِـي وَفَـاءَ أَرَى العَطْفَـا |
وَمَازِنُ هَذَا البَـرُّ ذُو الـرَّأْيِ عَاضِـدًا |
وَسَالِمُ صِنْوُ النَّفْسِ قَـدْ عَطَّـرَ الأَنْفَـا |
وَفَضْلُ الخُدَيدِي سَابِـقٌ غَيـرُ لاحِـقٍ |
وَزِيدَانُ ذُو الإِحْسَانِ بِالوُدِّ قَـدْ أَلْفَـى |
وَأَسْمَعُ مِـنْ زِيبَـارِ لِلفِكْـرِ صَوْلَـةً |
فَيَحْلُو لِعَقْلِ الحُرِّ مِـنْ كَرْمِـهِ قَطْفَـا |
ونَادِيَـةُ الإِصْـرَارِ هَـمًّـا وَهِـمَّـةً |
وَجُهْدُ رَنِيمِ الصِّدْقِ لَمْ يَعْـرِفِ الخلْفَـا |
وَزَاهِيَـةٌ بِالحَـقِّ وَافَـتْ فَأَنْصَـفَـتْ |
وَوَافَقَ فِيهَـا المَنْطِـقُ الدِّيـنَ وَالعُرْفَـا |
وَزَهْرَاءُ وَالشَّحَّـاتُ وَالخَالِـدِي مُنَـى |
وَمَرْحَةُ وَالغَنَّامُ قَـدْ أَنْصَفُـوا الحَرْفَـا |
جِهَـادُ وَعَبْـدُ اللهِ وَالشَّهْـمُ عَـايِـدٌ |
وَيَحْيَى وَنَجْوَى وَالحُسَينِيُّ مَـنْ أَضْفَـى |
وَرِيـمُ ، ثُرَيَّـا وَالعَطِـيَّـةُ والــذِي |
يُحَدِّثُ أَهْلَ الحَقِّ حُسْنًـا وَمَـنْ قَفَّـى |
سَتَعْلُو شُمُوسُ النُّورِ فِي وَاحَـةِ العُـلا |
وَيَسْرِي دُعَاةُ الخَيرِ فِـي ظِلِّهَـا حِلْفَـا |
وَمَنْ كَانَ رَبُّ النَّـاسِ فِيهِـمْ حَسِيبَـهُ |
فَلَنْ يُزْدَرَى فِي القَدْرِ يَومًا وَلَـنْ يُنْفَـى |
|
|
و يبقى ..
كانت هذه القراءة المُكُثفة التفاصيل لقصيدة "برزخ الحفظ" للشاعر القدير الدكتور سمير العمري رئيس رابطة الواحة الثقافية ، ومدير عام ملتقاها ..
دامت أوردة الإبداع في تماسٍ مع شرايين الفكر الشعوري ، ودائرة أحداث حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية حتى يصبَّ النهر في منبعه ..
تحياتي و تقديري