الصالحون فقط
قرأتُ و انا لم أبلغ بعدُ العاشرة من عمري قصة ما تزال راسخة في ذهني رسوخ الجبل في الارض .
قصة طريفة و ساذجة
ربما ظنّ البعضُ أنها تناسب اذواق الاطفال و افكارهم فقط
و لكنهم اذا امعنوا النظر وجدوها تنطبق انطباقا كاملا على واقعنا الحالي في الشعر .
و القصة هي :
في قديم الزمان و في سالف العصر و الاوان زعم محتالان ذكيان , غريبان عن المدينة انهما يستطيعان حياكة نوع من الاثواب لا يراه الا الصالحون..
الصالحون فقط !!!
استدعاهما الملك , و طلب منهما ان يحيكا له و للملكة ثوبين من هذا النوع , لا يكون الا لهما خاصة.
فطلبا منه مبالغ طائلة لقاء جهدهما و لقاء تكلفة الثوبين , حيث انهما سيصنعان الثوبين من اقمشة خاصة جدا لا تتوفر الا لهما فقط.
فاعطاهما الملك ما شاءا من الاموال , فقاما على الفور بتهريبها خارج المدينة الى مكان آمن , ثم بدآا العمل في القصر حالا .
وماذا كانا يفعلان ؟
لاشيء..
سوى انهما يحركان أيديَهما على المنوال ويدعيان انهما يمسكان خيوطا و أقمشة , و لكن في الحقيقة هما لا يمسكان شيئاً !!!
وكانا واثقين كل الثقة من نفسيهما , وكأنهما يحيكان ثوبين فعلا , ولم يكونا خائفين من الملك و لا من خاصته ..
لماذا ؟
لان لا احد في القصر ممن كان يراهما يستطيع ان يقول :اني لا ارى شيئاً , و الا اعتبر انسانا غير صالح , لان الثوبين الذين يصنعانهما لا يراهما الا الصالحون !
فكانا اذا مرّ بهما أحد كان يقول : الله ما أجمل هذين الثوبين , سيُسرُّ الملكُ و الملكة بهما كثيراً و سيجزلان لكما العطاء حقاً !!
ومرّت هذه الاكذوبة على الجميع , حتى تشوق الملك و الملكة الى رؤية ثوبيهما المزعومين , فنزلا في يوم الى حيث يعمل المحتالان في مكان ما من القصر..
فلم يريا شيئا ..
فخاف كلٌّ منهما أن يبوح بما في نفسه و يقولَ إني لا أرى شيئاً , و إلّا كان غيرَ صالح , لان الثوب لا يراه الا الصالحون !!
ما رأيك أيها الملك ؟ قال أحد المحتالين .
قال الملك : الله الله انه ثوب رائع لم يكن لملكٍ قبلي مثلُه ابداً .
ما رأيك ايتها الملكة ؟ قال الملك .
قالت : انه جد ثوبٌ رائع , سيكون أروع ما ارتدينا على الاطلاق .
فالتفت الملك الى وزرائه ممن كانوا معه و سألهم , فاثنى الجميع على الثوبين , خوفا منهم ان يقولوا بأنهم لا يروا شيئا فيكونوا غير صالحين .
و ظنّ كلُّ واحدٍ منهم أنه غير صالح إذ كيف يرى البقيةُ الثوبين و يثنون على حسن حياكتهما في حين انه هو لا يرى شيئا ..
ومرت أيامٌ و شهورٌ على هذه الحال , و عندما أعلن المحتالان انتهاءهما من حياكة الثوبين , أصرّا أن يخرجَ الملك و الملكة في زينة وموكب كبيرين لابسين الثوبين أمام الناس لكي يرى أهلُ المدينة ما لم يروا من قبل .
ووافق الملك و الملكة على مضض .
وخرجا بالثوبين المزعومين الى الناس في موكب كبير.
فصعق الناس اذ رأوا الملك و الملكة عاريين تقريبا , فسكت كلُّ واحد منهم ظنّاً منه أنه غيرُ صالح لانه لايرى الثوب الاسطوري .
حتى قطع حبلَ الصمت و الخوف صوتُ صبي صغير استحى مما رآه و قال : يالله , الملك و الملكة عاريان !!!!!
فثار الناس و ضجوا و هتفوا جميعا : نَعَمْ الملك و الملكة عاريان .
فاستحى الملكان و طفقا يستران نفسيهما بما عندهما في العربة الملكية , و علما انهما وقعا فريسة لمكيدة المحتالين و ذكائهما ,
و كذلك اهل القصر جميعا ومعظم اهل المدينة .
و طلبا المحتالين , فلم يعثرا لهما بعد ذلك على أثر .
هل فهمتم المقصود من هذه القصة و كيف انها متعلقة بواقعنا الشعري الاليم ؟
انا اقول لكم كيف .
اصبحنا في وقت لا يستطيع من يقرأ قطعة شعرية حداثية لادونيس مثلا , وهو صاحب نصيب الاسد في الشهرة حاليا , لا يستطيع احد ان يقول : لم افهم , بل سيصفق طويلا و يقول : الله ما اعظمها من قطعة فنية نادرة , و لو قال غير ذلك فسوف يتهم اما بسوء الفهم او بانعدام حسه و ذوقه الشعريين او بالرجعية او عدم مقدرته على مواكبة التقدم الثقافي الذي نعيش على فتاته مما يتركه لنا الغربيون .
نحن العرب ..
نحن العرب ..
نعيش على فتات ثقافة الغربيين و اذنابهم
استطيع ان اعرض عليكم المئات بل الآلاف من هكذا قصائد حداثية و أتحدى كلا منكم ان يكون له تفسير واضح لما يعنيه الشاعر .
بل و اكثر من ذلك ايضا , أتحدّى الشاعرَ نفسه أن يشرح القصيدة نفسها بالشرح نفسه
بعد مرور بعض الوقت عليها .
فهو لن يتذكر , لانه اصلا لا يعي ما يكتب .
وقد حدث ذلك مع احد الشعراء فعلا فسئل عن شرح لقصيدة من قصائده في احدى المجلات , و بعد عشر سنوات سُئل في لقاء تلفزيوني عن القصيدة نفسها فشرحها شرحا آخر , فأحرجه المذيع وقتها وذكره بما قاله منذ عشر سنوات فقال له على
الفور : شرح القصيدة يتغير زمانا و مكانا .
يكذب على نفسه و يكذب على الناس .
ومن الملاحظ للجميع أن الشاعر الحداثي لا يحفظ ما يكتب , فإذا طُلبَ منه إلقاء قصيدة
رأيته يبحث عنها في أوراقه , حتى اذا وجدها تلاها , و لا يكاد يرفع عينيه عن النص.
وإذا لم يجدها , فإنه لن يتذكر منها الا سطرا او سطرين , هذا اذا تذكر .
تمعنوا في هذه القطعة لادونيس التي يسميها البعض قصيدة.
و اسمها : وطني فيّ لاجئ .
يتحدث عن الوطن :
و ليكنْ وجهيَ فيئاً !
دهر من الحجر العاشق يمشي حولي أنا
العاشق الاول للنار
تحبلُ النار أياميَ نارٌ أُنثى دمٌ تحت
نهديها صليلٌ و الابط آبار دمعٍ نهرٌ تائهٌ و تلتصق
الشمس عليها كالثوب تزلق جرح فرَّعتْه
وشعشعته بباهٍ و بهار (هذا جنينك ؟) أحزاني وردٌ.
دخلت مدرسة العشب جبيني مشققٌ و دمي يخلع
سلطانَه : تناثرتُ في رواق من النار اقتسمْنا
دمَ الملوك و جعْنا
نحمل الازمنة
مازجين الحصى بالنجوم
سائقين الغيوم .
كقطيع من الاحصنة .
انتهى .
ناشدتك الله ايها القارئ الكريم : هل فهمت شيئا ؟ و هل استمتعتَ حقا ؟
انت تقرأ لادونيس و غيره ممن هم على شاكلته و هم للاسف كثيرون , انت تقرأ لهم لان لهم ضجة اعلامية كبيرة في العالم و في الوطن العربي.
لماذا؟
لانهم مارقون خارجون عن الدين و الاعراف و المألوف , تحتضنهم جهات غربية لها مصلحة كبيرة في ضرب الموروث العربي .
اقرأ هذه المعلقة للشاعر علي محمود طه , مع انه لم يكن من فحول الشعراء في عصره, و قارن بينها و بين القطعة السابقة لادونيس , و اسأل نفسك :
- أيّهما أعظم تأثيرا في النفس البشرية و أيّهما أكثر تحفيزا على القتال و النهوض بالهمم لمقارعة المحتل ؟
- أيّهما أقرب الى النفس العربية
- أيهما أعظم لغة
- أيهما افضل سبْكا
- أيهما ابسط و اروع صورا
- ايهما الصالحة و ايهما الفاسدة
- ايهما اكثر مناسبة للذوق العربي
القصيدة للعملاق علي محمود طه :
أخي، جاوز الظالمون المـدى فحــــقَّ الجهادُ، وحقَّ الفـدى أنتركهُمْ يغصبونَ العُـروبـةَ مجـدَ الأبوَّةِ والـســـــؤددا؟ وليسوا بِغَيْرِ صليلِ الســيـوف يُجيـبونَ صوتًا لنا أو صـدىِ فجــرِّدْ حـسامَكَ من غمدِهِ فليس لهُ، بعـدُ، أن يُغـــمـدا أخي، أيهـــا العربيُّ الأبيُّ أرى اليوم موعدنا لا الغـــــدا أخي، أقبل الشرقُ في أمـةٍ تردُّ الضلال وتُحيي الــــهُـدى أخي، إنّ في القدسِ أختًا لنـا أعـدَّ لها الذابحون الـــمُـدى صبرنا على غدْرِهم قادرينـا و كنا لَهُمْ قــدرًا مُــرصـدًا طلعْنا عليهم طلوع المنـونِ فطاروا هبــاءً، وصاروا سُدى أخي، قُمْ إليها نشقُّ الغــمـار َ دمًا قانيًا و لـظى مرعـدا أخي، ظمئتْ للقتال السيـــوفُ فأوردْ شَباها الدم المُصعـدا أخي، إن جرى في ثراها دمي وشبَّ الضرام بهـا مــوقـدا فـفـتـِّـشْ على مهجةٍ حُرَّة أبَتْ أن يَمُرَّ عليها الـــعِــــدا وَخُــذْ راية الحق من قبضةٍ جلاها الوَغَى، و نماها الــنَّدى وقبِّل شهـيدًا على أرضها دعا باسمها الله و استــشهــدا فلسطينُ يفدي حِماكِ الشبابُ وجلّ الفــدائــي و المُـفتدى فلسطين تحميكِ منا الصـدورُ فـإمًا الحياة و إمــا الـرَّدى
ما اروعها و ما احلاها وما اعظمها من قصيدة
هكذا الشعر و هكذا الشعراء
عودوا الى ذواتكم ايها العرب , و اعلموا انكم اشرف الامم و اسماها على الاطلاق
و اعلموا انما ورثتموه يجعل الحاقدين يكادون يموتون من الغيظ .
وتفكروا و تدبروا , و لا يفتننكم بهرج الغرب و زيفه ..
انما عندكم ذهبٌ , خفَّ بريقه لأنه اُهمل فغطّاه بعضُ الغبار
و انما عند غيركم نحاسٌ له بعضُ بريقٍ زائفٍ و بهرج
و ما كان النحاس كالذهب في يوم .
محمد البياسي