..
رحلةٌ... في السّراب
..
أَتيْتَ لِتمْضِيَ مِثْلَ سَرابٍ،
لِمنْفىً بَعيدْ.
وليْلٍ ثـقيلٍ، وكهْفٍ حَقيرٍ،
وعُمْرٍ بِغيْرِ الضـِّـياءِ مَديدْ.
لتُصْبِحَ غيْرَكَ.. ويْحَكَ،
سوْفَ تَسيرُ بِذاتِ الطـَّريقِ القَديمِ،
إِلى بَطْنِ وهْمٍ وراءَ التِّلالِ؛
ستمْضِي هُنالِك دونَكَ..
دونَ ابْتسامٍ بِوجْهِ الصَّباحِ،
ودونَ البلابِلِ تشدو كَما قَدْ أَلِفْتَ؛
هُناكَ الحِجارةُ تعْزِفُ لحْنَ الفِراقِ،
وثغْرُ التـُّـرابِ يغنـِّي النـَّـشيدْ.
ستحْملُـكَ الخُطُواتُ بَعيدًا؛
لتدْنوَ مِنْ سِرِّ لغْزِ الحكايةِ،
في درْبِ خوْفٍ،
كثيرِ التَّرَقُبِ..
درْبٍ غريبٍ بِلا طيْفِ ليلى
ولا ماءَ فيهِ؛
لِتصْبِحَ صِفرًا جديدًا كأَوّلِ صفرٍ،
وتسْكنَ سطْرَ رِوايةِ ليْلٍ،
وغُرْبةَ نفْسٍ، وبيْتَ ظلامٍ
وعتْمٍ شديدْ.
وترْكَبَ قهْرًا جَناحَ خَيالٍ،
لدُنْيا خَيالٍ؛
هُناكَ لدَيْكَ الفَراغُ كبيرٌ،
ووقْتٌ كثيرٌ لتُحْصيَ كُلَّ النـُّجومِ،
وأنتَ تُجالسُ نـَدمانَ ليْلكَ،
مِنْ غيْرِ راحٍ،
وقهوةُ صُبْحكَ، أَعْذبُ مِنْها
شَرابُ الصـَّـديدْ.
أَتيْتَ لِكَيْ يشْتَريكَ التُّرابُ بِبخْسٍ،
وفي ذلِكَ البيْعِ قالَ أُولو العلْمِ قوْلًا عَجيبًا
فأَنْصِتْ إِليهِمْ - ودونَ اكْتِئابٍ - :
" فحتَّى تَدورَ الكَواكبُ حوْلَ الشـُّـموسِ "،
كذلِكَ قالوا!
" وَكَيْ يَسْتقيمَ التـَّـوازُنُ في الكوْنِ "
تَقَرَّرَ أَنـَّـكَ لا بُـدَّ مِنْ
أَنْ تَكونَ الفقيدْ.
ولا بُـدَّ أَنْ تعْبُرَ الجِـسْرَ
فوْقَ الدُّموعِ تعُدُّ الخُطى،
وسيُنْكرُ ذاتُ الطَّـريقِ خُطاكَ،
ويَنْسى الحَصى إذْ مَرَرْتَ عليهِ،
وتَغْدو حَديثَ الصَّحيفةِ يوْمًا،
وتُمْسي حُروفًا،
يُحيكُ عـُراها عَيِيُّ لِسانٍ،
كَما يشْتَهي هُوَ،
لا مِثْلَما أَنتَ كُنتَ تُريدْ.
ولوْ شِئْتَ أَنتَ فماذا ستَجْني؟
وماذا سَينْفَعُ إِنْ كانَ نعْيُكَ
قَدْ كتَبوهُ بِماءِ لُجَيْنٍ؟
بربـِّـكَ قُـلْ لي: بماذا يُفيدْ؟
شَبيهَ السَّرابِ،
تَلاشى الزَّمانُ، وعهْدُكَ وَلَّى،
فَلا تَعْتَبَنَّ عَلى ساعَةِ الوقْتِ إِنْ غادرَتْها
ظِباءُ الدَّقائقِ، بحْثًا عَنِ العُشْبِ فِي وطَنٍ
تَتسابقُ فِيهِ الغُيومُ؛
لِتنْثُرَ قطْرَ النَّدى والمحَبَّةَ
حوْلَ الورُودْ.
فدُنياكَ أدْبَرَ فِيها النَّعيمُ،
وأُسْقِطَ في يَدِ يوْمكَ هذا،
وخصْمُكَ جيْشٌ عَديمُ السِّلاحِ،
يفوقُكَ حزْمًا،
يُصِرُّ على الانْتصارِ،
تخفَّى وَراءَ الثَّواني،
ويأْتي على ظهرِ فجأَتهِ بِثباتٍ،
بِقوْلٍ صَريحٍ، ورأْسٍ عَنيدْ.
فعِمْتَ ظَلامًا،
وعَتْمُكَ داجٍ، ولَيْلُكَ مُنذُ السُّوَيْعَةِ ساجٍ،
ويوْمُكَ هذا: كَثيرُ الحكايا،
كثيرُ الزِّحامِ، وفيهِ التـَّسارعُ يرْسمُ خوْفًا،
ويَفتحُ بابًا لِكُلِّ احتِمالٍ،
لِذلكَ عِشْهُ، وخُذْ ما تُريدْ.
تَقَدَّمْ،
فذلِكَ آخِرُ عهْدِ البُطولةِ،
ثُمَّ تَعالَ لِنشدوَ قهْرًا
نشيدًا أَخيرًا - إِذا كانَ وقْتُكَ يَسْمحُ -
قبْلَ غُروبكَ تحْتَ ثَرى وهْمِكَ الأَبَديِّ!
فخُذْ نـايَ حُزْنكَ حتـَّى تُغنـِّـي،
وغَـنِّ قليلًا، وغَنِّ كثيرًا،
ظنَنْتَ بِأَنّ الأَنينَ سَيبْقى لِنايٍ رقيقٍ
- كَما أَخْبَروكَ - !
فخُضْتَ الحُروبَ، ولكِنْ،
بِسيْفٍ كسيرٍ، وغمْدٍ شريدْ.
ستعْرِفُ أَنـَّـكَ لا شيْءَ كُنْتَ،
ولمْ تَبقَ نايٌ - كما قَدْ ظنَنْتَ -
وخيلُكَ سوْفَ تملُّكَ يوْمًا، وتُلقيكَ أَرْضًا،
فتفْقِدُ ذِكرى، وتُدْرِكُ أخْرى،
ويَقْتربُ الفهْمُ مِنْ عَقْلكَ البَرْزخيِّ،
وإِذْ ذاكَ ينْزِلُ فوْقَ البَصيرةِ
غيْثُ الحَديدْ.
تقدَّمْ فأَنْتَ زعيمُ الرِّوايةِ هذا المساء،
ومِحْورُ كُلِّ الحوادِثِ أَنتَ،
وأَنتَ السُّطورُ، وأَنتَ القصيدْ.
وَهاؤُمْ كِتابَكَ؛
فاقْرأْ وقلِّبْ بِنفسِكَ
أوْراقَ عُمركَ كيْفَ تَشاءُ،
وخُذْ مقْعدًا بيْنَ حَرِّ النَّهارِ،
وقُرِّ الليالي ،
تجُرُّ المَخاوِفَ خلفَكَ ظِلًّا،
وقلبُكَ إذْ ذاكَ يبْلغُ بابَ الحناجِرِ،
ثمَّ سَيهْوي إذا ما أُصيبَ
بسهْمِ الوعيدْ .
ستقْرأُ أَنـَّـكَ رُحْتَ، وجِئْتَ،
وأنَّكَ يوْمًا قبَضْتَ، ويوْمًا بسَطْتَ،
وفوْقَ الغُيومِ علَوْتَ .. علَوْتَ،
وتحْتَ الحَضيضِ العميقِ هبَطْتَ،
فهَلْ ما تَزالُ تُخابِطُ رأْسَ غُرورِكَ؟
قلْ لي!
أَلمْ تَـكُ يوْمًا عليكَ رقيبًا؟
أَجِبْني ...!
فإِنْ لمْ تُجِبْني؛ فإِنَّ سرابَكَ
هذا المساءُ عليكَ شَهيدْ.
فَيا قيْصرًا دُونَ عرْشٍ ومُلكٍ،
وجيْشِ نِفاقٍ،
ستلبِسُ ثوْبَ الرَّقيقِ صَغيرًا،
وقَدْ تَتعرَّى،
وقَدْ تَتمنّى ثِيابَ العبيدْ.
وتهْجُرُ عيْناكَ كُلَّ اتـِّـساعٍ،
وتُوطَنُ ضِيقًا،
فهلْ أخْلفَ الخُلْدُ وعْدَكَ صُبْحًا،
وخَانكَ مِثْلَ المَوالي؟
وهَلْ خانَ خزْنَةَ مالِكَ
ثَمَّ حِسابُ الرَّصيدْ؟
عرفْتَ الحقيقةَ عِندَ بُلوغِ التَّراقي،
وإِنَّكَ بعْدَ الهُنيْهَةِ راقٍ،
وإِنَّ أمامكَ رحْلةَ صَمْتٍ وشَكٍّ،
وللسَّفرِ المُسْتديمِ حَقيبةُ حُزْنٍ،
فخُذْ ما تَبقَّى مِنَ الذِّكْرياتِ
وبعْضِ التَّصاويرِ،
حسْبُكَ هذا،
فَفي عالَمِ البُعْدِ والرَّاحلينَ،
لعلَّكَ تَحْتاجُ أجْنِحةً كَيْ تُسافِرَ
عبْرَ الليالي إليْنا،
سينْتظِرُ الليلُ علَّكَ تأْتي...
فهَلْ سوْفَ تأْتي؟
وهَلْ يا رَهينَ الغِيابِ
بِيومٍ قَريبٍ إليْنا تَعودْ؟
جَليسَ التُّرابِ، وَراءَ الحِجابِ،
غزَوْتَ وفُزْتَ ونِلْتَ الغَنائِمَ،
مَرحى..
فأينَ المغانِمُ؟
وَلَّتْ لِغيْرِكَ!
وانْظُرْ ملِيًّا، فَذلِكَ خصْمُكَ
يجْلسُ حوْلَكَ غيْرَ بَعيدْ.
مكانـُـكَ أَصْبحَ في عَبَثِ الفقدِ،
دونَ وقودٍ سِوى نارِ شوْقٍ
لصوْتِ العَصافيرِ عنْدَ الصـَّباحِ
تُنادي مَصابيحَ فجْرِ النـَّهارِ
ليفْرشَ فوْقَ ستائِرِ بيْتِكَ ثوْبَ الضِّياءِ؛
فأَيْنَ السَّتائِرُ تلْهو صَباحًا؟
وتِلكَ النَّوافِذُ؟!
أَيْنَ النَّسيمُ بِصوْتٍ خَريدْ؟!
ألا ليْتَ شِعْرِكَ، لوْ كُنْتَ تعلَمُ
أَنَّ فتيلَ السِّراجِ يُساوي كُنوزًا،
لكُنْتَ احْتَفظْتَ بِبعْضِ الكُنوزِ،
لِتُشْعلَ شمْعةَ أُنْسٍ،
إذا ما جُفونُك ألقَتْ عَليكَ
رِداءَ الظَّلامِ السَّميكِ العتيدْ .
هنالِكَ في عتْمةِ الخوفِ
حتْمًا تَضيعُ العُهودُ،
ويُنْكرُ خِلٌّ خليلَ الحياةِ؛
هُناكَ ستسْلو المَشيبَ، وتسْلو
غُرورَ الشَّبابِ، وعهْدَ الطُّفولةِ
ثمَّ ستنْسى سِنِيَّ الرَّضاعِ،
وينْساكَ ثَمَّ سَريرٌ وثوْبٌ؛
فلَهْفي عَليكَ !
وآآآآآآآهٍ، وآآآآآهٍ!
أتيْتَ وَحيدًا،
وتمْضي كَطيْفٍ غَريبٍ وَحيدْ.
ولنْ تَستطيعَ قِراءَةَ حظِّكَ هذا المَساءُ،
فَفي عتْمةِ الليلِ يغدو التَّصَفُّحُ صعْبًا،
وحتَّى السُّطورُ ستفْقِدُ كُلَّ الحُروفِ عليها،
إذا غابَتِ الشَّمسُ خلْفَ النَّهارِ،
ونامَ اليَبابُ، وغَشَّى النـُّعاسُ
جُفونَ الصَّعيدْ.
فقُلْ لي بِربِّكَ، يا آدَميُّ،
أَذلِكَ أصْبحَ عُنوانَ بيْتكَ ..؟
قُلْ لي !!
أَجِبْني: لِكَيْ لا تَضيعَ الرَّسائِلُ مِنــّــا،
وأَجْرُ التـِّلاوَةِ في رمضانَ،
وورْدُ التَّهانِيَ في كلِّ عِيدٍ ،
أَجبْني إذا ما أَتاكَ البَريدْ!
تُراكَ سترْقبُ عُرْسَ هِلالِكَ
في ليْلِ عِيدٍ؛
أَظُنُّ الهِلالَ سيَنْكثُ كُلَّ الوعودِ،
ولنْ يُرْسِلَ النُّورَ فوْقَ الحُقولِ
التي قَدْ تعرَّتْ،
وأضْحى التـَّـعرَّي ضَرورةَ عهْدٍ
فَبيعَتْ كثوْبٍ بِسعْرٍ زهيدْ.
غريبَ الدِّيارِ،
ترجَّلْ لِتنْفُضَ عنْكَ الغُبارَ
ووعْثاءَ درْبِكَ، ثُمَّ تبوَّأْ مكانَكَ،
واسْتَفْتِ أضْغاثَ قلبِكَ قبْلَ النَّوازِلِ
تَعْرُكُ حلْمَكَ،
ولا تَكُ في مِرْيةٍ مِنْ هَزيمةِ كُلِّ الصُّخورِ
أَمامَ مطارِقِ موْجِ البِحارِ،
ولا تأْسَفنَّ على مرْكبٍ في دُجاهُ تهاوى،
ولا تبْكِيَنَّ الشِّباكَ إذا التَهَمتْها
صِغارُ الطـَّحالِبِ؛
أقْصِرْ، وكفْكِفْ حَريقًا تَرقْرَقَ
مِنْ عيْنِ قهْرِكَ،
إنْ شَبَّ سَوْفَ يُذيبُ
جَليدَ الجليدْ.
أراكَ ذُهلْتَ،
وأطْرقْتَ صمْتًا ..
كأنَّ الذّهولَ يَسيرُ بِظِلِّ الحقيقةِ دوْمًا،
تحدَّثْ قليلاً وقُلْ أَيَّ شيْءٍ!
أَما كُنْتَ تغْضَبُ إِنْ كانَ ينْقُصُ
فِنْجانَ شايِكَ شيْءٌ قليلٌ مِنَ السُّكـَّـرِ الحُلوِ؟
أوْ كانَ شيْئًا قليلا يَزيدْ؟
وكُنْتَ تَمورُ، وكُنْتَ تَموجُ
وتبْلغُ أعْلى الجِبالِ انْفِعالًا،
وتجْلبُ ظُلمًا عليها بِرَجْلِكَ،
تزْأَرُ،
تصْهلُ،
ترْكبُ صهْوَ جُنونِكَ نَحوَ السَّماءِ،
تَخوضُ البِحارَ كَجِنٍّ مَريدْ!
أَراكَ صَمَتَّ!
فهَلْ غادَرَ الشُّعراءُ قلْبَ القَوافي،
وجَفْنَ الحِسانِ، وعِشْقَ الدِّيارِ؟
أَغادَرتِ الفاتِناتُ سُطورَ القَصائِدِ؟
قُلْ لي: وهَلْ قطَّعَ البوْنُ
حبْلَ الوَريدْ؟
فماذا تَقولُ، أما زِلْتَ تذْكُرُ أحْداقَ ليلى،
وتِلكَ الليالي، وطرْفًا جَميلًا،
ووجْهًا كبدْرٍ يُضيءُ السَّماءَ؟
وثَغْرًا يَزيدُ الحُروفَ اشْتِعالًا،
وشَـعْرًا يُغازلُ شيْطانَ شِـعْرِكَ؟
آآآآآآهٍ!
وفرْشًا تَراءَى كَموْجٍ رقيقٍ،
يُراقِصُ كُلَّ المراكبِ حُبًّا
إذا مالَ خصْرٌ؛
تَراهُ يَميدْ.
أما زلْتَ تذْكرُ؟
كيفَ ستذْكرُ؛ والعِيرُ سارَتْ بِركْبِكَ
خلْفَ التِّـلالِ البعيدةِ؟!
خلْفَ مُروجٍ مِنَ الشَّوْكِ،
تمْشي سَريعًا، تُثيرُ الغُبارَ، ليُعْلَنَ في الــنَّاسِ
قُرْبُ نِهايةِ أُمِّ المعارِكِ
ثمَّ يُنادى خُذوهُ أسيرًا..
فتهْرُبُ كُلُّ القبائِلِ خوْفًا،
وتَهْوي الحُصونُ أمامَ الجُنودْ.
أراكَ تَخونكَ كُلُّ الطـِّـباعِ،
كَما الحِسُّ خانَكَ، والشـِّعْرُ حتَّى،
وكُلُّ القوافي، وأَحْداقُ ليلى
التي ما أَتمـَّـتْ لِيوميْنِ عِدَّةَ حُبِّكَ؛
فانْظرْ تَراها تُهيـِّـئُ كلَّ الأَرائِكِ
فرْشًا مُريحًا لقيْسٍ جَديدْ!
ستذْرِفُ بعْضَ الدُّموعِ عليكَ،
لتُثْبِتَ أَنَّ هَواها جَديرٌ بِكُلِّ احْترامٍ،
فيطْبَعُ قيْسٌ - هذا الجَديدُ -
عَلى الخَدِّ قُبْلةَ عطْفٍ
يُخفِّفُ فيها مَواجعَ ليلى،
فتَبْكيكَ أكثرَ بيْنَ يَديْهِ، فيطَبْعُ أُخْرى،
فَتصْرُخُ ليْــــلاكَ هَلْ مِنْ مَزيدْ!
وأَنْتَ هُناكَ،
تـُفتـِّـشُ عَنْ كسْرِ خُبزٍ..
فتسمعُ صوْتَكَ يأْتيكَ همْسًا ..
يُخيِّـبُ ظنـَّكَ،
يسْأَلُ دونَ جَوابٍ مِنْكَ،
يقولُ :
" - تُفتـِّـشُ عنْكَ ؟! "
فتذْكـُرُ أَنـَّـكَ كُنْتَ أَتيْتَ، لِتغْدوَ طَعامًا
لِضرْسٍ أَكولٍ، وأَنَّكَ خُبْزٌ لِهذا المَساءِ،
وأَنَّكَ أَنْتَ لذيذُ الثَّريدْ.
وأَنَّكَ كُنْتَ أَتَيْتَ،
ليأْكلَكَ الكهْفُ عامًا طويـــــلًا،
ويتْرُكَ جزْءًا دليلَ افْتِراسٍ،
لِيُثْبِتَ أَنـَّـكَ لا شيْءَ كُنْتَ؛
تمامًا كَما أَمْسَتِ النـَّـايُ، صِرْتُمْ سَواءً،
هَباءً .. هَباءً..
فتَضْحكُ مِنْ سُخْرياتٍ تَوالتْ عَليكَ..
وتَبْكـــــــــي ..
وتَبْكـــــــــــــــي .. وتَبْكي ..!
وتَكْتُبُ فِيكَ قَصيدةَ حُزنٍ، وتَسْألُ أَيْنَ المِدادُ؟
وأَيْنَ اليراعُ، ودفْترُ شِعْرِكَ؟َ
تصْرُخُ في وجْهِكَ البَرْزخيِّ ..
يُجيبُكَ صمْتُ المكانِ، كَرعْدٍ بِصوْتٍ
عَنيفٍ، قَويٍّ شَديدْ .
" - تَريَّثْ ..
لِتُدْرِكَ بعْضَ الحَقيقةِ ،
وانْظرْ تَراكَ
جَناحَ بعوضَةِ ماضٍ تلاشى ،
وقَدْ أخْبَروكَ ..
أَتْذْكُرُ؟َ!
وَيْحكَ ..
(ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحيدْ) ".
وَلكِنَّ طبْعَكَ يغْلبُ روْعَكَ - يا آدميُّ -
فتسْأَلُ أَلْفَ سُؤَالٍ،
لِماذا؟
وماذا؟ وكيْفَ؟ وأَيْنَ؟
وبرْدُ الصَّقيعِ يضُمُّكَ قهْرًا
لصدْرٍ غَليظٍ، وصَخْرٍ بليدْ.
يُغيظُكَ قُبْحُ التُّرابِ،
وفي سَدَفِ الليلِ يعْلو الحنينُ
لِصوْتِ العَصافيرِ خلْفَ النَّوافِذِ،
في كُلِّ صُبْحٍ،
وحوْلكَ لا شيْءَ إلّا
سُكونٌ، وبرْدٌ، وأَذْرعُ عتْمٍ،
تُشكِّلُ ثالوثَ عهْدٍ جديدْ.
وذَرٌّ جُفاةٌ يُبلْبِلُ طبْعَ الهُدوءِ بِهمسٍ
يُؤَكِّدُ قُربَ احتدامِ الوَطيسِ؛
وعيْناكَ ترْقُبُ سيْرَ الجُنودْ.
أَمامكَ جنْدٌ، وخلْفكَ سَدٌّ
يَسوقُ الوقاحَةَ،
يغْرِسُ فيكَ مَخالبَ شتَّى،
يُحطِّمُ كُلَّ قُصورِ الأَماني،
يُبعْثرُ حُلمَكَ،
يخْنُقُ صوْتَ بلابِلِ فجْرِكَ،
يغْدو بغيْرِ صَداهُ، فيَهْوي
بِوادٍ سَحيقٍ، وفَجٍّ بَعيدْ.
جِدارُكَ هذا جِدارٌ ثقيلٌ،
سَلَتْهُ الظِّلالُ،
غَليظٌ، كثيفٌ، أَصَمُّ ، كَفيفٌ،
وكِلْتا يَديْهِ تُريدانِ صيْدَكَ،
فاحذرْ!
يَـدٌّ تسْتَعِدُّ لِرَمْيِ الشِّباكِ،
وأُخْرى لِشَدِّ وِثاقِ القيودْ.
- " تَمهَّلْ ..
كأَنَّكَ تحْلمُ "
تقولُ لنفْسِكَ
- " مهْـــــــلًا .." ،
كأَنَّ دُخانًا جميلًا تفشَّى،
تحوَّلَ طيْرًا رقيقًا مُحِبًّا،
يُشابِهُ أَمَّكَ إِذْ كُنْتَ طِفْلًا،
يسُرُّكَ مَدَّ بَصيرةِ ظنِّكَ،
يبْدو بِحجْمَ رَجائِكَ،
يضْربُ وجْهَ الظَّلامِ بِكَفِّ جَناحٍ،
ويدْعو لِتنْزِلَ مائِدَةُ النِّورِ بيْنَ يديْكَ؛
فيضْحَكُ سِنُّ هِلالِ سَمائِكَ،
تفْرَحُ أَنتَ، وتضْحَكُ، ترْقُصُ،
تمْسَحُ دمْعَ عُيونِكَ، تهذي ..
تناديكَ ..
" - مهــْـــــــــلًا .. " تقولُ ..
كأَنَّك تسْمعُ نايَ نُجومِكَ
تَعْزِفُ لحْنًا جَديدًا
لِفَجْرٍ مُنيرٍ، وعيدٍ سَعيدْ.
وفي زحْمَةِ الفرْحِ،
تسْمعُ صوْتًا وَراءَ الضَّبابِ،
قَريبًا، بَعيدًا،
رَقيقًا كخَيْطٍ يُزاحِمُ سَمَّ الخِياطِ،
يُردِّدُ خلْفَ الجـِدارِ حَديثـًا قَديمًا....
يَقولُ :
" - سَرابًا غَدوْتَ..!
كأَنـَّـكَ ما كُنْتَ يوْمًا .. وَداعًا!
أَراكَ هُناكَ قَريبًا .. وَراءَ الضَّبابِ،
وَخلْفَ جِدارٍ غَليظٍ كهذا ..!
سَلامٌ عليكَ وأَلْفُ سَلامٍ،
على الحُلْمِ يوْمَ أَتيْتَ..
ويوْمَ مضَيْتَ..
ويوْمَ سَيأْتيكَ فجْرٌ جَديدْ ".
..
.
بقلم :
م . رفعت زيتون
3 \ 7 \ 2011
(شكر خاص للأديبة الكبيرة كاملة بدارنة على ملاحظاتها القيّمة )
.