في قلبِ مدينةِ ((M ))السويديَّة ,توقَّفت الحافلةُ التي تقلّني ,إنَّها الحافلة الثَّانية التي أقلَّتنِي اليوم , وعليَّ أن أنتظر الثالثة على التَّوالي ,,فالمعهدُ الذي أتلقَّى بهِ مراحلَ اللغةِ الأعلى ,يقعُ في مدينةٍ مجاورة, تبعدُ مدَّة ساعةٍ بالحافلةِ التي تخصِّص للمنتسبين إليه رحلة ذهابٍ في السَّابعةِ صباحاً, وأخرَى إيابٍ في الرابعةِ مساء .ولكنَّ اليوم هو الجمعة ,ودوام الدَّرسِ ينتهي في الحاديةِ عشرَ ظهراً ,ولا طاقة عندي لانتظارِ موعد الحافلةِ العاديَّة لمدة ساعات . يكفي أنَّني أهدرُ من وقتي ثلاثَ ساعاتٍ كلّ يوم , ساعة للذَّهاب ,ونصفَ ساعةٍ في انتظارِ الدَّرس الأوَّل ,ثمَّ نصفَ ساعةٍ أخرى في انتظارِ الحافلة مساءً , وساعة للإياب .
هبطْت على عجل
بعضُ نسماتٍ قويَّةٍ باردةٍ لفحَت وجهي ويديَّ ,فأسرعتُ (للسَّرادق) المخصَّصةِ للإحتماءِ من بعض البرد والمطر .نظرتُ في السَّاعة نظرةً سريعة ,ثمَّ نظرة أخرى للوحةِ المواعيد المنصوبةِ هناك ~~رقم الحافلة (445 ) وموعدها بعد عشر دقائق ~~.
جلستُ على المقعدِ الخشبِّي بينما كنتُ أتحرَّر من حقائبي وأكرِّرُ الرَّقم مرَّات عديدة ,لا أريدُ أن أنساه !!,يكفي أنَّني أنساه دائماً من جمعةٍ لجمعة .
يا الله ,,,كلُّ شيءٍ حولِي جميلٌ ,مرتَّب ,ملوَّن ,مغسولٌ بالمطر ,ولامع ,,,,لكنَّه بارد ,,بارد ,~ قلت لنفسي~ البردُ يعشِّشُ في كلِّ شيء ,حتَّى في قلبي ,وأعصابي, ورأسي . أين منِّي تلكَ الأيَّام الدَّافئة التي قضيتُها هناك أيام َدراستي مع صديقاتي ؟؟ كنَّا بلباسِنا الموحَّد كالعصافيرِ الزَّرقاء التي تحملُ على رؤوسِها زهوراً بيضاء أو ورديَّةً أو صفراء ,وكنَّا نتأبَّطُ كتبنا كأنَّنا نتأبطُ أغماراً من القمحِ الطَّازج السَّاخن.
كانت ألحانُ الحياةِ ترافقُنا في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ حركة ,ألحانٌ دافئةٌ بطعمٍ آخر لنْ أنساه ما حييت ,اليوم ,,لا اسمعُ سوى صوتِ الرِّياح الباردة, ولا أرى إلا الأرقام المختلفة .حتى النَّاس الذين أراهُم كلَّ يوم ,هم مجرَّد أخيلةٍ وظلالٍ لا علاقة لها بالواقع .
ما لعقاربِ السَّاعة صامتةً هي الأخرى ,ولا تتحرَّك ؟!!. آه ,,,كم أحسُّ بالجوعِ ,والبَّردِ والإرهاق ,,كم أودُّ أن أدخل الآن تحتَ المياهِ السَّاخنة ,وأخرجُ للأجد سفرةً صغيرةً بانتظاري ,آكل ,,,ثمَّ أدخلُ تحتَ لُحُفِي في غيبوبةٍ طويلة ,,,كمْ أود,,, !,ولكن أنَّى لي ذلك ,؟ فاليومُ هو الجمعَة ,يومُ الخبيز ,يجبُ عليَّ عجْن كميَّة تكفي عائلتي حتى الجمعةِ القادمة ,وكيف سأخبز ؟؟على فرنٍ كهربائيٍ غيرُ مصمَّمٍ للخبز العربيّ الذي يحتاجُ لحرارةٍ قُصوى ,وعليَّ انتظار كلّ رغيفٍ انتظاراً قاهراً, ثم يجبُ عليَّ تنظيف البيت كلِّه كالعادة ,ويجبُ أن أُعدَّ الطَّعام ,وغداً يوم الغسيلِ والكيّ الطويل المرْهق ,يجبُ عليَّ أن أصعدَ وأهبِطَ السَّلالمَ إلى,, ومنَ الغسَّالات مراتٍ عديدة ,ويومَ الأحد لدينا زوار طولَ اليوم ,وصباحَ الإثنينِ سيبدأ الأسبوع ثانيةً.
ما الذي جاءَ بنا لهذهِ البلاد يا ترى ؟؟؟ أيَّةُ رياحٍ حملتنا كحبَّاتِ رملٍ ناشفة, وبعثرَتنا هكذا ؟؟
قديماً ,,,لمْ يخطرْ بِبالي رحيلاً البتَّة إلا إلى تلك القريةِ القديمةِ الرَّابضة على أرض الجَليل ,لا أتذكَّر أنَّه قد كبَّلَنِي أيُّ شوقٍ أو حميميةٍ لأيِّ بقعةٍ في العالم إلا لها ,حيثُ بستانِ الرُّمَّانِ المزيَّنِ بالأزهارِ الحمْراء كحباَّتِ ياقوتٍ تشتعلُ معَ الشَّمس ,فتبدو مثلَ شعلات نارٍ قدسيَّة ,وقدْ كانَ هذا البستانُ لأمِّي ,حيثُ قضت طفولتَها فيهِ تلاحقُ الغزلانَ الصغيرةَ البريَّة, وتلعبُ معها .منذ نعومةِ أظفارِي وهي تحدثُني عنهُ بسعادةٍ ومرارَة ,حتى كبُر في خيالِي وأصبحَ أعرض من الدُّنيا بأسرِها بالنِّسبةِ لي .
أيُّ موتٍ تمَلّكنا حتى رَكبنَا أمواجَ اليأس هاربين من كلِّ شيء ؟؟ ~~لكنَّه الحلّ الأمثل ,,بلادٌ تُغتالُ فيها طفولَتُك وإنسانيَّتُك, ويَستشهدُ فيها شبابُك ,وتُشنقُ فيها أحلامُك ,لا مكانَ لكَ فيها ~أرض الله واسعة~ ,لا قدرةَ لي على البقاءِ في مكانٍ لا يترعرعُ فيه سوى المختمرينَ بعشقِ الجاهليَّة ,, جاهليَّة الدِّينِ ,وجاهليَّة الوطنِ, وجاهليَّة الحياةِ كلِّها .كنَّا قبائلَ متناحرة ,فأصبحنا طوائفاً متناحرَة ,وأحزاباً متنافرة ,لا مكانَ لي هناك ,فأنا لا أقدرُ على اعتناقِ الجاهليَّة ,ولا عبادةِ أصنامِها ~~.
جاءت الحافلة ,,
نفسُ اللونِ ,ونفسُ الشَّكلِ ,ونفسُ الرُّكاب ,لا شيءَ يميِّزُها سوى رقمها ,أسرعتُ لقراءة الرَّقم ,هذا هو ((454 )).
صعدتُ واثقةً مثلَ كلِّ مرَّة , رفعتُ البطاقة الشهريَّة أمامَ السَّائق ,فأشارَ لي بالدُّخول, وابتسامة معتادة على وجهِه .الحافلةُ مليئةٌ بالطلابِ والطالباتِ الشَّباب ,كالورودِ المتفتِّحةِ حديثاً, عيونُهم زرقاء ملوَّنة لامعة كعيونِ القططِ الناعمة,يضحكونَ ,يمزحونَ يتضاربونَ برفق ,أصواتُهم وضحكاتُهم تملأُ المكان ,جوُّهم السعيدُ قد أدخلَ بعضَ البهجةِ في صدرِي المغْلق ,لقد اعتدتُ أن أرى هذا المشهدَ كلَّ يومِ جمْعة .جلستُ في مقعدِي لا ألوِي على شيء , أسندْتُ رأسيَ المتعب, وأغمضتُ عينيّ .
صغيرَتي ,,,حبيبَتي ,وضعتُك في الحضانةِ قبلَ أن تكمِلي عامَك الثالث ,أنا مضظرَّة ,سامِحيني,,.يظلُّ صراخُك يضرِبُ سمْعي أكثرَ من نصفِ ساعةٍ كلَّما تركتُك صباحاً ,وفي المساء, تهربينَ منِّي فوقَ الطَّاولاتِ والكراسي , وتحتَها,وفي كلِّ مكانٍ في الحضانة ,وعليَّ أن أطاردَك كما أطاردُ عصفورة شقيَّة ,يجبُ أن آخذَك معي في الخامسةِ بالضبط يا غالية ,كلُّ شيءٍ محسوب بدقَّة .
أعرفُ يا صغيرتي أنَّني أضعُك في أيادٍ أمينة ,,أمينة على حياتِك وسلامتِك ,ولكن ,,هلْ هي أمينة على أفكارِك ؟؟منذ اليوم, بدأتِ ترفضينَ بعضَ طلباتي قائلةً ((يا ثُمْ بِثْتِيمَّ ))وهي ((يا سُم بِيسْتِيمَّ)) يعني أنا التي أقرِّرْ ,,,
يا إلهي,,, هل سيصنعونَ منكِ فتاةً مفتَّحةِ الأبوابِ والنَّوافذِ على مصراعيها مثلَ هؤلاء ؟؟ أنا لا أريدُك مغلقةً مثْلي !!أنا اتفهّم أنَّني من جيلٍ آخر ,ولكن ,,ليسَ متفتِّحة بلا حدودٍ مثلهم .
شعرتُ بألمِ وخزٍ في صدرِي ,ضغطتُّ على ألمي بشدَّة ~~ والله ,,أدفنُ نفسي حيةً لو استشعرتُ منكِ خللاً ولو بسيطاً !! ~~
متى سأزرعُ فيكِ قيمَنا ودينَنا وأخلاقياتَنا يا صغيرة ؟؟,ألتقي بكِ في الخامسةِ مساءً, وفي السابعةِ تنامين ,وتكونين في الحضانة في السادسةِ والنصف صباحاً مرةً أخرى.
لابد أن أبذُلَ معك جهداً مربَّعاً ,ومكعَّباً ,,حتى لو أوقفتُ الساعةَ عن الدوران ,, واالحياةَ كلِّها على كعبٍ واحد,, لن أسمحَ للأفكارِ الغريبةِ أن تنمو في عقلِِك ,لن أسمحَ أبداً.
لن أسمح ,,,,قلتُها هذة المرَّة بصوتٍ مسموع ,وتفتَّحت عينايَ مخترقةً زجاجَ النَّافذة.
ما هذا ؟؟؟؟؟؟؟؟ أراضٍ واسعةٍ لا نهايةَ لها, ليسَ بِها أيّ بشر, سوى آلاتٍ للزراعة متوقفةٍ هنا وهناك ,كذلك الجانب الآخر .للوهلةِ الأولى ظننتُ أنَّني في حلم ,فهذة المناظر لم أرَها من قبل في طرُقاتي .في اللحظةِ الثانية شعرتُ بغثيانٍ شديد .في اللحظةِ الثالثة أطلقتُ صوتاً مدوِّياً لا أدري كم كانَ مداه ,,ولا بماذا تفوَّهت ,وانطلقتُ نحوَ السائقِ بطريقةٍ هجوميةٍ غاضبةٍ صارخةٍ باكية, وكأنَّه هو المسؤول, ولستُ أنا ,,,فخيّم سكونٌ شامل .
~أعترفُ أنَّهم مهذبون ~ لقد كانَ السائقُ متفهِّما وكأنَّه عرفَ كلَّ شيءٍ بلحظة ,كان هادئاً للغاية وهو يقول بصوتٍ خفيض ~~أخطأتِ رقمَ الحافلة ,نحنُ نعتذر لأنَّها متشابهة ,لكن لا خطر ,اهدئِي واجلسِي مكانك ,عند وصولِنا للمحطةِ الأخيرةِ سنعود ,وهي ليست بعيدة,,سوف أعود حالا للمدينة (M ) هذا هو خطّ الحافلةِ اليومي ,هناك ستكون حافلة متأهبة للإنطلاق فوراً إلى المنطقة (B ) مكان اقامتك ,,إجلسي الآن من فضلك , شكراً ~~
قال السائقُ هذا ,,فانتهى كلُّ شيء . وعدتُ لمكاني بهدوء .
الحمد لله ,, الحافلة مليئةٌ بالرُّكاب ,هذا يمنحُني بعضَ الإطمئنان ,بل الكثيرَ منه في هذا المكانِ الغريبِ الموحش ,سيكون في المحطة الأخيرة من ينتظرها أيضا .
الحمد لله ,,,ليتني قادرة على الإتِّصال بأولادي كي لا يصيبُهم أيُّ ذعرٍ بسبب تأخري ,لكن لا وقتَ لدي ,ولا محمولاً معي ~لم يكن المحمول منتشراً يومها مع الناس ~
في الساعةِ الخامسةِ مساءً, وصلتُ البيت مثلَ كلِّ يومٍ آخر عدا الجمعة ,وكانت رحلتي الطويلة فاشلةً للغاية.
لا عجين اليوم,, ولا خبيز ,لكنِّي سهرتُ مع أبنائي سهرةً لذيذة ,يقصُّون عليَّ ما فعلوا ,وأقصُّ عليهم تفاصيلَ ما جرى ,وهم يضحكون من الأعماق .
لن أنسى هذا اليوم أبداً.
كنت طول النهار أنطلق بالحافلات ,كما ينطلق جوّالُ الغابة* بالغابات
ماسة
جوّال الغابة *هو طير يشبه الدجاجة لكنه طويل السيقان ,غير قادر على الطيران لكنه يمشي بسرعة , ودائما للأمام ولا ينظر للخلف .
منظره مثير للضحك,,وقد جعلوا منه مادة لأفلام كرتون مضحكة لللأطفال