موضة
عقلي لا يقبل الحديث ولو صحَّ !
الدكتور علي العمري
أن يقول من هو محسوب على أهل العلم والثقافة والمعرفة مثل هذا الكلام: (عقلي لا يقبل الحديث ولو صحَّ) لشبهةٍ، أو تَعَارُضِ ظِنَّةٍ، يمكن أن يُفهم مكمن الخلل فيه، وداعي شبهته، أما أن يقول هذا الكلام شاب أو شابة لا تفهم دلائل اللغة، ولا قواعد الأصول، ولا طرق الاستنباط، ولا مناط الأحكام، ولا فن التخريج، فهذا من عجائب الدنيا، وغرائب الدهر.
بيد أن الأعجب منه وأخطر شأنًا، أن يكون من عداد المحسوبين على أهل العلم والثقافة من جرَّأ مثل هؤلاء الناشئة؛ للاعتراض على سنة النبي "صلى الله عليه وسلم" الثابتة، وأحاديثه الصحيحة المتواترة، لمجرد فهم عارض، والتباس في حادثة، دون أي منطق مقبول في الاعتراض شرعًا وعقلاً.
إن هذه الظاهرة طرحت قديمًا عند من يسمون (القرآنيون) الذين نظروا في ظاهر القرآن، وتركوا السنة، وبعضهم التفت إلى السنة ولكنه هرب من جمع أي قول يوضح المعنى المجمل للآية، استمساكًا بظاهر القرآن فحسب!.
ولعل (الظاهرية) في بعض مسائلهم ممن تمسك بشيء مما في القرآن دون بيان واضح السنة، من شواهد التاريخ، وقد أخطأوا في هذا خطأ بينًا، ورد الأئمة عليهم هذا المسلك في بعض ما قالوا، وإن كانوا في الجملة من أئمة العلم، ووعاة الفهم، لكن التعصب الفكري، والمنهج المذهبي، يوقع في أفخاخٍ من الوهم والوهن!.
وعند العودة إلى من يتجرأ بقول: (عقلي لا يقبل الحديث ولو صح)، من المعاصرين خاصة، ومنذ عقود من الزمان ،تجد سبب طرحهم للفكرة، لا لأسلوب العبارة، وهو ما سنبينه بعد قليل، ما يلي:
1- الاعتراض على مشكلة في السند: وهذا قليل جدًّا، بل نادر؛ لأن أغلب هؤلاء نقلة، وليسوا من رجال السند، ولا من أهل الصيرفة، كما يقول الإمام أحمد. ولذا تجدهم يضعِّفون الرواية الحديثية نقلاً عن عالم معتبر لتضعيفه رجلاً في الإسناد، ولو صحح عشرات غيره هذا الإسناد، ووثقوا بالبرهان من وثقوه!. والعكس صحيح إذ تجدهم ينتصرون لتوثيق راوٍ في الإسناد بحجة تصحيح عالم معاصر له، ولو ضعف الرواي وأنكر الرواية غيره العشرات من نقاد هذا الفن!.
2- الاعتراض على المتن: ويتمثل غالبًا في أطروحاتهم كالتالي:
أ- حديث في شأن غيبي، حيث لا تستوعبه عقولهم، كسجود الشمس تحت العرش، وطول أبينا آدم الذي روي أنه ستون ذراعًا، وهي لا تتعارض مع أي نص شرعي، ولا يمنع قبولها أي عقل سليم.
ب- حديث يتعارض في ظنهم مع حقيقة علمية، كالمثال السابق الخاص بسجود الشمس، وذهابها تحت العرش، واستحالة ذلك في تقديرهم علميًّا، في مقابل من يؤكد ذلك علميًّا وفلكيًّا وفيزيائيًّا، من كبار علماء العصر المتخصصين!، فضلاً عن عدم استشكاله شرعًا بقدرة الله وسنته في كونه، وبخاصة مرة أخرى أنهم نقلة، لا علاقة لهم بالتخصص، وكذا القول عن طول أبينا آدم (ستون ذراعًا) واستحالته علميًّا، والاستدلال بعلم الحفريات الحديثة، مع أن علم الحفريات يؤكد هذه الحقيقة، كما أن علم الأحياء يؤكد أيضًا حدوث الطفرات البشرية!.
أي باختصار، أنهم يصححون ما يشاؤون، ويرسمون الحقائق العلمية كما يختارون، وينبذون الحقائق العلمية الأخرى التي ليست على هواهم!.
ثم إن وضع الحديث النبوي الصريح الصحيح تحت مشرحة النظريات العلمية غير الثابتة خطورة في المنهج والمسلك.
ج- حديث يتعارض مع ظاهر النصوص في القرآن غالبًا، أو بعض السنة، وهو أكثر ما يقولون به، اتكاءً على فهم إمام قديم، أو عالم معاصر، دون الحرص على جمع الروايات، وتتبع طرقها، والوقوف عند كل قول وتمحيصه، بل هو الوقوف الذي يوحي بالاستيعاب -في تقديرهم-، وما هو إلا نقل، وشيء من جمع، واتكاء مرة أخرى على حجة النقل المعتبر من العلماء فحسب، مع أنهم ينبذون التعصب للأشخاص والعلماء والأقوال، ويدعون إلى إعمال العقل، وإيضاح البرهان، ودقة البحث!.
ومن عجب أن أغلب هذه المسائل والاستشكالات أجاب على أكثرها الأئمة السابقون ردًّا علميًّا مفصلاً محررًا، يزيل اللبس، ويجمع بين النصوص بما لا تعارض فيه شرعًا ولا عقلاً.
مع وجود بعض المسائل التي لا يزال مجال البحث فيها متاحًا، بشرط صحة المسلك العلمي في المناقشة.
إلا أن الأخطر فيما مضى، هو قلة الإنصاف، وعطَنُ الخلق، وسوء العبارة، في رد الأحاديث الصحيحة الصريحة كالموجودة في الصحيحين، والمتواترة في دواوين السنة الثابتة، زعمًا لبطولة النقد، والحرص على صيانة الشريعة، والدعوة لتجديد الدين!.
والدين من هذا الادعاء والجناية براء. فماذا بعد أن يردَّ المرء ذو العقل الضعيف، والحجة غير المكتملة بمجرد نقل موهوم، أحاديثَ في الصحيحين، ويقول بكل برود: (هذا كلام فارغ!).
ولعمرو الحق، لست أدري أغفل هؤلاء عن حال أئمة السلف في طريقة اعتراضهم على فهم بعض الأحاديث النبوية، وأسلوب النقد، ودلائل الاستشكال، ومناقشة المخالف، وبيان النتيجة؟!.
خاصة وإن علمنا أن جل - إن لم يكن كل - من يتكلم بهذا الأسلوب من المعاصرين ما هو إلا ناقل غير مجتهد، إلا الاجتهاد في النقل، والاجتهاد في الأسلوب الذي لم يُسبق إليه إمام ورع صالح، في الحكم والنقد والرد!!
إن المناقشة العلمية المحررة أمر يحمد عليه الباحث المجتهد، وقد يدخل في دائرة تجديد الدين، وإزالة اللبس والغلط المنسوب بلا بينة إلى شريعة رب العالمين. لكن الافتئات على أئمة الإسلام، وتجهيلهم بعدم دقة تحريهم، وعمق إجابتهم، وطول مناقشتهم للمسائل، ومحاولة القفز على كل اجتهاداتهم المحررة المجودة، أو الرد على بعضها أو جلها بنصَفَة وموضوعية، والانقياد لآراء أحادية، والزعم بأن ما وصلوا إليه هو الحقيقة، مع تجهيل الأقوال من غيرهم، هو الانحراف في المنهج، والجناية على العقل والنفس!!
وستبقى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة- التي وفِّق لاستنباط دلائلها، وإزالة ما فُهم من تعارض أو شبهة حولها من وفقه الله من الراسخين في العلم- حجة للتدرج في كمالات فهم الدين، وانشراحًا لصدور المؤمنين، وانسجامًا تامًا بين العقل والروح والتسليم لكلام المتبوع الشفيع سيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
..................................................
من صفحته على الفيسبوك