لم يعرفْ كيفَ خرجَ منَ السوقِ ينتَهِبُ الخُطواتِ نَهبًا مُتلفِّتًا ورَاءَهُ بَينَ الفَينةِ والفينةِ في جَزَعٍ كَبيرٍ. شَعرَ بِأنَّ عَرَبتَهُ المُزيَّنة َهَذهِ تَتَآمرُ عَليهِ بِثِقَلهَا الذِي يكادُ يَقطعُ أنفَاسَهُ ، وَبِصريرِ عَجَلاتِهَا الذي يَكادُ يَشِي بِهِ ، وَلِلمرَّةِ الأولى شَعرَ بِمَقتِهِ لَهَا فَتوقَّفَ عن دَفعِهَا وَجَمَعَ مَا عَليهَا منْ مُجوهراتٍ في صُرَّةٍ، ثُمَّ مدَّ يدَهُ إلى تلكَ يُخْرجُهَا من مَخبَئِهَا يَلفُّهَا بِثوبِهِ وَيحملُهَا بينَ يديهِ بِحِرصٍ وَعِشقٍ قَبلَ أنْ ينطلقَ رَاكِضًا لا يلوِي عَلى شَيءٍ. أَغلقَ بابَ غُرفَتِهِ المُتهالِكَةِ وَتهاوَى بِهَا إِلى أَرِيكتهِ القَديمةِ يُجاهدُ أَنفَاسَهُ المُتلاحقَةَ، يَنْظُرُ إِليهَا تَارَةً يَكادُ يَلتَهمُهَا، وَإِلى البَابِ أُخرى خَائفًا يترَقَّبُ.
أَخرجتْ اعْتِمَادٌ صُندوقَ المُجوهراتِ المُزَركشِ الذِي وَرِثتهُ عن جَدَّتِها الثَّريَّةِ تبحثُ فيه عمَّا تَتَزيَّنُ بهِ في حَفلةِ عِيدِ مِيلادِهَا الذي اعتَادتْ أنْ تُقيمَهُ بَاذخًا وَتدعُو إليهِ الكثيرَ ممَّنْ يُشبِعوَن لَهَا شَهِيَّتَهَا لِلمَديحِ. صَاحتْ تُنادي الخَادمَةَ دونَ أنْ تلتفتَ عن المرآةِ تَسألُهَا عن رَأيِهَا في القِلادَةِ وَهِيَ تَتَحَسَّسهَا عَلى جِيدِهَا بِبَعضِ امتعاضٍ. أدركتِ الخادمَةُ الماكِرةُ بِخُبْثِهًا المَوقِفَ فأَسمعتْ سَيدتَهَا مَا كَانتْ تُريدُ، ثُمَّ اقترَحتْ أَنْ تَخرجَ بِصُحبتِهَا إلى السوقِ فَتَسْتَبدِلَ بِهَا قِلادةً حَدِيثةً تَلِيقُ بِهَا وتُناسبُ عصرَهَا وَتُبعدُ عنهَا هذا الشُّعورَ بِالتَّبعِيَّةِ وَالاخْتِنَاقِ.
هدَأَتْ أنفاسُهُ قليلا وَشعرَ ببعضِ اطمئنانٍ فَمَدَّ يَدَهُ الوَاجفةِ نَحْوهَا لا يَكادُ يُصَدِّقُ أَنَّهَا هُنا أَمامَهُ ينظُرُ إليهَا. كَانَ جَمالُهَا أَخَّاذًا وَبريقُها يَسْحرُ الألبابَ. تَأَمَّلَ بِشغَفٍ كُلَّ تلكَ النفَائِسِ التِي تَزِيدُ ألقَ جُرْمِهَا الصَّقيلِ بَهَاءً وَهَيبةً. كانتْ من أجملِ مَا رأَى في حياتِهِ وَأثمنِ مَا مَلكتْ يدَاهُ، فَابتَسمَ لهَا أخيرًا وهوَ يتمنَّى في سرِّهِ أنْ تكونَ لهُ دونَ مُنازعٍ فَتُغيِّرَ حَيَاتَهُ كُلَّها ، وَتمسحُ عن كاهلِهِ كلَّ عَناءٍ عَاشهُ مُنذُ وَلَدتُهُ أُمُّهُ.
لمْ تُحِب اعتمَاد يومًا جدَّتَهَا إِذْ رَأتهَا دَومًا مُتسَلِّطَةً لا تُراعِي اختِلافَ عَصْرِهَا وَلا اعترافَ عُذرِهَا. كَانتْ تَمقتُ صَرَامتَهَا وَجِدِّيتهَا في أنْ تُنْشِئَهَا نَشْأةً مُحافظةً على التقاليدِ وَالقيَمِ، فَتَكونَ امتدادًا طَبيعيًا لِلسلالَةِ وَلِلحَضَارَةِ التِي قَامتْ عَليهَا. وكَمْ كَانَ يُزعجُهَا انتقادُ جدَّتِهَا لِسطْحِيَّتِهَا وَعُزُوفِهَا عن كلِّ ما يُمثِّلُ قِيمةً أو مَا يحتاجُ جُهدًا. وَلَمْ تَجِدْ فِي نَفسهَا يَومًا قَبولا لِنُصحهَا القَاسِي حِينمَا كَانتْ تَنْهرُهَا كُلمَّا آثَرتْ المَدحَ عَلى الحَمْدِ وَالهَزْلَ عَلى الجدِّ بِأنَّ قيمةَ الإِنسانِ في مُحتوَى ذَاتِهِ لا في كَثيرِ مَالهِ أو عظِيمِ سطوَتِهِ أو رَخيصِ مَدحٍ يكيلُهُ مُغرضٌ أو مُخاتِلٌ.
لمْ يكنْ أصعبُ على نفسِهَا من قرارِ جَدَّتِها تسريحَ الخادمَةِ التي ارتاحت لها بعد أن رَأتْ أَنَّهَا تُغوِيهَا بِالمَدحِ وَتُخَذِّلُها عَن كُلِّ نُصحٍ. ولمْ تجدْ مخرجَا لهَا ممَّا هيَ فيهِ سُوى أنْ تَتَمنَّى لِجدَّتِها المَوتَ عَاجِلا غَيرَ آجلٍ. وَمَاتتِ الجَدَّةُ، فَكَانَ أولَ مَا فعلتهُ اعتمادُ هُو أنْ أَعادَتِ الخَادمَةَ الأَثيرَةَ، ثُمَّ مَا لَبثتْ إِلا وقَدِ استَجابَتْ لِمُقترحِهِا؛ فَبَاعتِ القَصرَ الجَميلِ القائِمِ عَلَى قِمَّةِ التَّلةِ المُشْرفَةِ عَلَى المَدِينةِ لأَحَدِ الغُرَبَاءِ والذِي حَوَّلهُ بِدَورِه لِمتحفٍ لِمقْتَنياتٍ دَخِيلةٍ؛ لِتنفِقَ المَالَ عَلى تَقَلُبِهَا المُستَمرِّ أَسفلَ الوادِي بَينَ الفَنَادِقِ وَالشَّاليهَاتِ وَعَلى حَفلاتِ الأُنسِ الصَّاخِبةِ.
لمْ تَشعرِ اعتمَادُ وَهيَ تَدخلُ السوقَ الذِي قَادَتهَا إِليهِ الخَادِمةُ بِالاخْتِناقِ الذي كانتْ تشعرُ به كلمَّا دخَلتْ ذلكَ المَعرضَ الفَاخِرَ الذِي اعتَادَت أنْ تَصْحبَهَا إليهِ جَدَّتُها. كَانتْ تشعرُ هناكَ بِالتِّيهِ وَبِالضِّيقِ من تِلكُمُ الهُدُوءِ الرَّصِينِ وَالتعَامُلِ المَهيبِ وَالتناولِ الدقيقِ لكلِّ مَا يُعْرضُ فيهِ. كَانَ كُلُّ شَيءٍ هُناكَ لا يَروقُ لَهَا خُصُوصًا تلكَ الانتِقَاداتِ التي كانتْ تَسمَعُهَا كُلمَّا اختَارتْ ثَوبًا تُحِبُّ أَو حِليةً تُؤثِرُ.
أمْسكَ بالقِلادَةِ يُقلبُّهَا بينَ يديِهِ وَقَدْ أَذْهَلَتهُ بِثِقَلِها وَدِقَّةِ صُنْعِهَا. كَانتْ مِنَ الذَّهَبِ الخَالصِ زَيَّنتهَا فُصُوصٌ من عَقِيقٍ وَزُمُرَّدْ تَتَوَسَّطُهَا مَاسَةٌ كَبيرةٍ بِنَقشٍ فَريدٍ. لمْ يكُنْ لِيُصدِّق مَا يسمعُ مِن عَرْضِ اعتِمَادٍ - أَو مُودِي كَمَا تُحِبُّ أنْ تُنادَى - أَنْ تَستَبدِلَ بِهَا بَعضِ قَلائِدَ ممَّا يَعرضُهَا عَلَى عَربَتِهِ. هَزَّ رَأسَهُ بِالمُوافقةِ كَالأبلهِ بَينَا هِي تَنتَقِي مِن بينِ تلكَ المَصُوغَاتِ الصِّينِيَّةِ من سَبَائِك ذَهَبٍ رديءٍ قَد زَيَّنتهَا قِطَعٌ مِنْ لُؤلُؤٍ مُصنَّعٍ ومزخْرفٍ بِألوانٍ بَرَّاقَةٍ. شَدَّهَا اخْتلافُ الشَّكْلِ وَبَريقُ القِشْرَةِ ، وَسَرَّهَا كَثيرًا أَنْ تَسمعَ منهُ بِأَنَّها مَنْ يُزيِّنُ الحُلِيَّ لا العَكْسِ، وَأنَّ جَمَالهَا كَبيرٌ وَذَوقَهَا رَاقٍ. وَبَينَ دَهْشتِهَا وَدَهشتِهِ قَدَّمَ لهَا قِرْطًا وَسِوَارَينِ كَهديَّةٍ إِضَافيَّةٍ قَبلَ أنْ ينطلقَ بِعَربَتِهِ فِرَارًا بِمَا غَنِمَ وَتنطَلقَ هِيَ خَلْفَ خَادِمَتِهَا سَعِيدَةً غَانِمَةً إلى حيث اخْتَارتْ أَنْ تَكُونَ.