ابن سكرة شاعر خليع من شعراء العصر العباسي .. استوحيت الفكرة من حياته ..
**********
لما رأيتُ سوق الشعر راكدا ,ورأيت المياه تحته آسنة واستمعت إليه في ذاكرة وجداني وهو يصيح ويصرخ مستغيثا يمد يديه في الهواء وليس ثمة نصير !رميت بنفسي قلب العاصفة وخضت المعمعة ليس معي من أحد سوى الله !فنابذت الشعراء وشاكست اللقطاء وشاتمت الدخلاء فكنت كمن يحاول أن يدخل كهفا للدبابير !وإني لتأخذني في كثير من الأحايين نزوةٌ في طبعي وحِدةٌ في خلقي وكنتُ كمن قال :
لئن كنتُ محتاجا إلى العلم إنني ..إلى الجهل في بعض الأحايين أحوجُ
فمن رام تقويمي فإني مُقوّمٌ ...ومن رام تعويجي فإني معوجُ
ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ ..ولي فرسٌ للجهل بالجهل مسرجُ
وتصورتْ لي نفسي أني داخل على الخليفة وحدي في بلاطه وحوله الجنود من المُتملـِّقة والمتزلـِّفة ! وقد ارتفعت البيارق وبسطت النمارق وحضر قادة الفيالق ,يعلو وجوههم الصفراء , ابتسامةٌ صلعاء عاريةٌ جوفاء , وظن هو أنه من ورائهم محروس ,وأنهم من دونه يبذلون النفوس ,وهم أكذب من نار المجوس ! فإذا بهم ينبحون وليس ثمة منبح ! فلما أشار الخليفة تصاغروا في أنفسهم فلم يبدو منهم ملمح ! وكان أن جلست حيث أشار فابتلعت ريقي وأشهدت الله على روحي وجلست قرب السياف وبيده الصارم البتار ! فلما سمح بالكلام وأذن , انطلق مني ماردٌ لسِن فقلت : سيدي ليس غير الشعر نزهة الأرواح وروضة الأفراح .. يحلو به السمر ويضيء به وجه القمر .. يؤنس في السفر , ويقوى به الخبر , ويقضى به الوطر !
تحدو به الركبان .. وتمشي به الوديان .. يقوى به قلب الجبان فإذا به يهد الصفوف هدا ,ويشد على الأعداء شدا , ولا تحصى لضرباته حصرا ولا عدا ! ويوعظ به البخيل فإذا هو يد بيضاء .. بالخير سحاء , كأنه سارية عطاء , وخيمة سخاء , تتنفس الدنانير في جيوب الفقراء, وترن الدراهم في أيادي البؤساء !
كان وجه الخليفة وأنا أتدفق كالسيل كأنه قد جلس القرفصاء وانكمش كالضفدعة وتلون كالحرباء لم أعبأ بمن حولي وكأني في عزلتي وحدي وأخذت ألوح بيدي : يامولاي ! حاجة الناس إلى الفن ضرورة وميل الناس الى الطرب فطرة وطبيعة وأنت العربي الفطن فما تخفى عنك سريرة ! ما قيمة الماء إذا ازدرده الإنسان وفي أعماقه زهر ظامئٌ لا ينقع غلته ماء ؟!
وما قيمة الغذاء إذا اجترعه الإنسان وفي أغواره بيدرٌ يصرخ من الجوع ولا يجدي معه غذاء ؟!! ذلك أن الله ركب في الإنسان مايوافق نظام الكون من حسن ترتيب وجودة نسق وغاية في الانسجام . ولذلك قالوا عن الإنسان أنه كون أصغر ! جحظت عينا الخليفة ! وبدأ ينق كما ينق الضفدع .. يميل برأسه إلى الأمام مرة ثم إلى الخلف مرة .. ثم استبد به الوجد ,وغليت به الحماسة فغير وتغير , وبدل وتبدل , وأخذ يضرب برأسه عن اليمين مرة وعن الشمال مرة .. إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة ! فطاحت مسبحته من فرط سرعة حركاته , فانفرط عقدها ,وتناثرت حباتها , فتسارعت القيان يلقطن العقود كما يلقط الحمام الصالح من الحبوب .
وخشيت والله أن يظن ظانٌّ أني أتلاعب بالخليفة فالتمست لحظة غفلة وهممت بالانصراف وإذا بالنطع يلقى أمامي وإذا بيد السياف جواري تثبتني مكاني وإذا بالسوط والجلاد ينتظراني ! استروح الخليفة من نفسه نشاطا وخفة فأطلق في الهواء ضحكة تلو ضحكة وتبعه القواد والحراس والخدم والحشم حذو القذة بالقذة .. يضحكون ويرفسون وأحدهم يرش عليه بالماء من الإغماء وآخر قد سقط على ظهره من شدة الضحك يفحص الأرض بقدميه وراحت الستر في الأخبية تلهث بهمسات ضاحكة كأنها النسمات الوامقة في الظلمات الحالكة !
ورحت في نفسي أقول من شدة الغيظ ألا ليتني عليهم أبول ! أأحدثهم عن الشعر ينقذونه وعن الفن ينقدونه وعن الجمال يستروحونه فتركبهم العفاريت فلا نعرف الرجل من المرأة ولا الأمير من الخادم ولا السجف من السقف ولا الستار من الجدار ولا الهازل من الجاد ولا الوقور من الخليع ؟!! تركت القصر في زحمة الأضواء وظلمة الضوضاء وضجيج وصخب وهرج وعجب فامتطيت الريح لا ألوي على شيء ! قلت وأنا بين أسواق بغداد أعس , أزجر في قافيتي وأهس :
كفرت بعهد الطغاة البغاة
وما زخرفوه وما زيفوه
وأكبرت نفسي عن أن أكون
عبداً لطاغية توجوه
وعن أن يراني شعبي الذي
يعذب عوناً لمن عذبوه
أأجثو على ركبي خاشعاً
لجثة طاغية حنطوه
أألعقه خنجراً قاتلاً
لشعبي وأكثر فيه الولوه
أنا ابن لشعبي أنا حقده
الرهيب أنا شعره أنا فوه