الحداثة في الفنّ التّشكيلي اللبناني
بقلم: حسين أحمد سليم
خطت حركات فعل الفنّ التّشكيلي اللبناني خطوات متقدّمة منذ النّشأة الأولى ما بعد زمن الإنبعاث, وتطوّرت حركات فعل النّتاج تطوّرا ملحوظاً, وهو ما يمكن تلمّسه في مجمل النّتاج في نهاية القرن الماضي... وعمليّات الغوص في خصوصيّات نتاج تلك الحقبة في التّسعينات للفنّ التّشكيلي اللبناني, يجب أن تتواكب مع مفهوم ربط هذه الظّواهر المتماهية بجذورها الفنّيّة ومرجعيّتها وزمن ظروفها, ممّا يعني, أنّه لفهم واقع تطوّر هذا الفنّ, يجب علينا أن نتعمّق في دراسة مدى إرتباط واقع الفنّ الحالي بواقع الفنّ التّشكيلي منذ الخمسينات والسّتينات وما بعدها, وذلك بإلقاء الضّوء على إبداعات كوكبة من الفنّانين الأعلام والذين قاموا فعليّا بتطوير الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة وأسبغوا عليها ما يصحّ تسميته بالحداثة...
رعيل ناشط فنّيّا من جيل الخمسينات والسّتينات من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, تفتّقت أذهانهم الفنّيّة عن ولادة فكرة تطوير ملامح الشّخصيّة الفنّيّة التّشكيليّة اللبنانيّة وتأصيل صبغتها الوطنيّة, من خلال محاولات فنّيّة تشكيليّة جادّة ورصينة تبلورت في نتاجهم الفنّي وتمخّضت عن إرساء فلك الحداثة, فصحّت تسميتهم بجيل الحداثة للفنّ التّشكيلي اللبناني...
نذكر من هؤلاء الفنّانين الأعلام... إيلي كنعان, إيفيت أشقر, سلوى روضة شقير, نقولا النّمّار, شفيق عبّود, فريد عوّاد, هيلين الخال, عارف الرّيّس, سعيد عقل, منير نجم, عادل الصّغير, ناديا صيقلي, رفيق شرف, أمل داغر, ميشال عقل, حليم جرداق, أمين الباشا, محمد القيسي, وجيه نحلة, حسين ماضي, منير عيدو, أمين صفير, جان خليفة, جوليانا ساروفيم, حسين بدر الدّين, بيار صادق, موسى طيبا, عبد الرّحيم غالب, مفيد زيتوني, محمود أمهز, أوديل مظلوم, جمال معلوف, سامية عسيران, نيكول حرفوش, لور غريّب وآخرون...
هذا الرّعيل الفنّي من أعلام الفنّ التّشكيلي اللبناني, يعود له الفضل في حمل همّ هواجس ورؤى تطوّر ملامح الشّخصيّة المميّزة للفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, وعملت هذه الثّلّة من الفنّانين جاهدة من خلال نتاجاتها الفنّيّة التّشكيليّة على تركيز وتأصيل وتثبيت الوجه الفنّي الوطني المشرق للبنان, وأعطت صبغة فنّيّة خاصّة ذات نكهة وطنيّة ولون لبناني للفنّ التّشكيلي المحلّي, بحيث أسفرت المحاولات والتّجارب الفنّيّة الجادّة والمركّزة على نضوج وإستكمال ماهية الفنّ التّشكيلي اللبناني, ما هيّأ لهذا الفنّ كلّ الأسباب المستجدّة لإستكمال الماهية والسّمة والهويّة, لدخول الفنّ التّشكيلي اللبناني أجواء الفنّ التّشكيلي المعاصر وولوج فلك الحداثة العالميّة, وهذا ما تجلّى في النّتاج الفنّي لرعيل الحداثة في لبنان, بحيث برزت أولى مظاهر ومعالم الحداثة في اللوحات والمشهديّات التّجريديّة والتّكعيبيّة والسّورياليّة...
إلى هذا, فقد سجّلت أعمال وتجارب ومحاولات الفنّانين الأعلام للبحث عن الهويّة الفنّيّة الوطنيّة اللبنانيّة, والتّفتيش عن الأصالة التّراثيّة المشرقيّة والموروثات الرّوحيّة, والتي شكّل فنّ تجويد الخطوط العربيّة وتقنيّة كتابة الآيات القرآنيّة ورسم الكلمات الحكميّة, محاكاة ومجاراة للتّحوّلات الرّوحيّة وإعادة إحيائها عقب ثورات عديدة, فرضت تشكيلا عصريّا مستحدثا إلى جانب فنّ الأيقونات مشرقيّا ومغربيّا, إضافة إلى تنامي الفنّ الحروفي والأرابسيك الإسلامي والموروثات الشّعبيّة وميثولوجيا الأساطير المتداولة في المجتمعات وفنّ المنمنمات وغيرها منطلقا رحبا لهذا التّحديث والتّطوّر في الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة... وما يفيد في هذه الرؤية التّحليليّة للحداثة الفنّيّة وتطوّرها, لفت الإنتباه إلى أنّ العديد من الأعلام الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين الأوائل مرّوا في مراحل فنّيّة متنوّعة, وحاولوا بذل جهودهم اللازمة في تنمية حركات فعل التّوليف والتّوفيق والّتناغم والتّماذج بين معالم التّقنيّة الفنّيّة التّشكيليّة الغربيّة الحديثة, وواقع مظاهر التّقنيّة الفنّيّة التّشكيليّة الشّرقيّة إنطلاقا من لبنان...
في المحصّلة النّهائيّة للنتائج التّحليليّة لسبر أغوار مصادر الحداثة في الفنّ التّشكيلي اللبناني, لا بدّ من الوقوف مطوّلا عند نتاج الرّعيل الأوّل المتميّز من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين في حقبة الخمسينات والسّتينات, ذلك النّتاج الذي يعتبر بمثابة الأساس لتطوير الفنّ التّشكيلي والمدماك الأوّل في عمليّة ولادة الحداثة وحجر الزّاوية في عمليّة الإنطلاق نحو التّطوّر والإستمرار... وبالتّالي في تشكيل ملامح التّماهي والزّهوّ في مكوّنات الشّخصيّة الفنّيّة التّشكيليّة اللبنانيّة, والتي تعتبر اليوم مصدر إعتزاز وفخر وعزّ من حيث مستوى الرّفعة والرّقيّ في المهارات الفنّيّة والتّقنيّة, وتنوّع وإبتكار الأساليب والطّرق, هذا إلى جانب إنفتاح الذّهنيّة المعرفيّة ووعيها وعرفانها, والإبحار في إمتدادات الثّقافة الفنّيّة الأصيلة, والسّفر في اللامتناهيات على متن الخيال المشبوب بالعاطفة النّبيلة, هذا بالإضافة لدور الإجتهاد الدّؤوب عند الكثير من الفنّانين التّشكيليين البارزين في تطويع التّيّارات الحداثيّة العالميّة لصالح السّمات المحلّيّة وتثبيت الهويّة الثّقافيّة اللبنانيّة كجزء لا يتجزّأ من الثّقافة الشّرقيّة في عالمنا العربي والإسلامي...