لوعة الحرمان
تمدد في فراشه كما يتمدد غصنٌ جافٌ في جذع شجرة قديمة ..فقد طال مُكثهُ في الفراش زمنًا رجاء أن يتعافى من مرضه الذي هدّه فأقعده شهورا..فلم تعد عليه من سيما الصحة خلا عينان جاحظتان تذرعان فضاء الغرفة...سقف تهدّل بعض طلائه الأبيض فبدا قطبًا ثلجيًا، يستجمع برودة كفن الموت... جداران جانبيان كوةٌ تتخلل ذلك الذي يلي عن يمينه ، وجدار آخر أمامه تموضع فيه باب ونافذة يفضيان إلى باحة الدار ، مما يسمح له ضوءٌ خارجيٌ أن يتبين تقلب الجديدين ؛ الليل والنهار .
عينان كانتا فيما خلا من سالف الأيام، ترصعان وجها شابا معادن الجمال، تيهَ صبًا ومفاخرَ الأقران..تخلا عنهما إلى الوراء وجه شاحب إلاّ من عظمتين ناتئتين في خدين تخلى عنهما اللحمُ قاب قوسين أو أدنى للجلد.
..وما أن حلّ موعد طعام الغداء من الساعة الرابعة من بعد ظهر ذات يوم ، حتى تحلّق الأولاد والبنات حول المائدة ، وهم دون سن المراهقة وأمهم،ولدان وثلاث بنات ، فتاركين فسحة لفرشة أو طُرّاحة لطارق باب أو عائد..من جار أو قريب أو صديق.
وبينما تألفت المأدبة من صينية مترعة بالعدس المجروش، وثلاثة أرؤس من بصل وبضعة أرغفة وكأس وإبريق ماء..فقد زاد تشهيها وزينها في عيون المتأدبين، الجوعُ واللعاب ُ الذي يتبلع حلوقهم ويتبلغُ أجوافهم!
حتى إذا تهتك البصل عن إهابه البني وبدت مفاتن طبقاته الداخلية بياضًا للعيون ونفاذ شذى للأنوف، تشهتها الأنفسُ كما تتشهى النفوسُ موائد الملوك! تستحث كل معدة غرثى دواء مسغبة في يوم صائم هاجر طويل، رغم ما في البصل من عاقبة سوء الرائحة للآكلين، ذلك لما يتسترون به أنوفهم وأفواههم عن أنوف الناس وأفواههم، ذوقٌ جرى فيهم وعادة في الناس ًيعتدونها...
فبدواوإنهم ليتولّون الخبز بالتقطيع و التشقيف، والعدس بالتجريف ، والأفواه بالتلقيم، والأسنان بالطحن والمضغ، واللسان بالتحريك والقلب إلى جوف المعدة هنيئا مريئا ..و الماء يسكبونه عليها بردا وسلاما..
يرقبهم عن جنب وهم عنه غافلون.. ولا يستطيع إلى شيء من ذلك سبيلا، إلا من نفس تتشهى ، وعين ترقب ، وأذن أرخت صيوانها، وقلبٌ يخفق بالحسرة..ويد قصّرت عن بلوغ المنى..
حتى إذا تناولت زوجه بضع لقيمات ..تذكرت ..فتلاقت عيناهما، فكفت وسحبت يدها ببطء!
آه لو يستطيع فتمتد يده إلى لقمة من طعام فلا يعاقب عقابَ طفل صغير تمتد يده البريئة إلى جمرة في موقد من نار!
وتفكّرت وتذكرت كيف عيل صبر ها .. ألم تنصحه أن يعود الطبيب أول الأمر؟ فيصف له دواءً يكشف عنه السوء ، حتى بدأ يغالبه المرض فيغلبه تارة و أخرى يغلبه ،..ألم يضرب نصحها عرض الحائط مرات ومرات؟..فقال: أمسكي يا وجه البوم ...ألا تُغلبين؟
قالت: لطالما غالبت لساني باللجم والصمت ..ونفسي بالقهر ..وعيني بالدمع..وغالبت الناس بإجابات معسولة لسيل من الأسئلة التي يرشقونني بها كل يوم..وما رُدُّوا قطُّ عني!
قال: هوه ..الناس!..الناس! ..ما للناس ومالي!..فليذهب الناس إلى الجحيم!
_ ولكنهم يا عز يزي لا يذهبون إلى هناك..بل نحن..!
ما إن يصادفوني في الطريق ..حتى يستوقفوني، حالي مستعجلة، و حالهم مستمهلين ..يسألون فأجيب ..فما أذلني دونهم تجلدني عيونهم الشفوقة الراثية...!
- هذه حالهم دائما ..تستطيل ألسنتهم ويدسون أنوفهم ..وتحتدُّ عيونهم..يريدون علم مالا يعلم ..حتى لو كان بين اللحاف والفراش ..و لو كان بين الجفون والعيون ..لا..لا..لن ألقي بالا لمكرهم وكيدهم!
ولما طال عليه الأمد في الرفض وعدم الرضوخ ..فجاء الفرج بعدعناء ..فتنفست الصُّعداءَ أخيرًا لمّا تآزر عليه الأقارب والأصدقاء والجيران ..فحملوه إلى عيادة الطبيب حملا ، وقادوه إليها اقتيادا.
ولطالما نصحه الأطباء الكفَّ عن معاقرة الخمرة، لمّا حاصروه بالسؤال عن عاداته في الأكل والشراب، فقد كشف لهم عن بعض سرّه ، أمَّ الخبائث التي أحرقت كبده بالتشمع ومعدته بالفناء!
آه لو يستطيع إلى لقمة واحدة تمسح عن عقله لحظة واحدة هم مصارعة البقاء.ومقاربة الموت!
وكيف يستطيع وحلقهُ -حاجز تفتيش للجيش الإسرائيلي على معبر رفح يهلك كلّ يوم فيه الأطفال والمرضى والشيوخ والنساء_ يمنع مرور الماء إلا غَرْفة من نصف فنجان..يتجرعها ولا يكاد يسيغها!
أكان سينجو من مصارعة المرض لو أصاخ السمع ؟..واسترشد طرق الأطباء! فأبى واستعصم رأيه ، واستهتر فكان من الآبقين الهالكين.
أكان سيفلت من عقال المخدة والفراش؟ قفص العصفور الذي نسيه صاحبه مقفلا من حبّ طعام أو غرفة من ماء، أكان سيفلت من عقال عيون الناس التي تلاحقه أهدابها؟.أسواطُ دموع الشفقة وكلمات الرثاء!..ثمّ تنهّد..وتذكَّر...
آه ما كان أجمل صعود درجات السلم التي تفضي إلى سطح البيت الذي يفضي إلى العلية..
العلية.. وما أدراك ما العلية؟..العليةُ غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها المترين.. حرّزها بابٌ بقفل و مفتاح ..كما حرَّزت خزانة لها مفتاح ما بداخلها ..وكان قد منع المفتاحين من أهل البيت حتى زوجه!..
فكان إذا دلف من باب العلية و نفذ إلى الخزانة بمفتاحها استقبله شذى الخمرة فخلبت لبه..قواريرٌ اصطفت تستقبله كجنود اصطفت في استقبال ملك فاتح عظيم!
فاستكان إلى كرسي صغير أمامه خوان ، فأجلس الكأس والقارورة...كما يجلس العروس عروسه في خلوة! ..ثم أدار رأسه يعب الشهد عبًا كأسًا إثر كأس.
لكن صوت الزبال مرَّ في غفلته على أذنيه ..نازلا من السطح هابطا السلالم، وقد أزكمته رائحة الزجاجات الفارغة التي جمعها من السطح ليركمها إلى حاوية القمامة أدنى الشارع من الحارة، متعوذًا يهدر صوته" .. لاحول ولا قوة إلا ّ بالله ..أتأتون في بيوتكم المنكر وأنتم تشهدون! أتخشون الناس والله أحقُّ أن تخشوه ..دنيا فانية!"
فاستوى عائدا إلى رشده وقد أخلي المكان من بقايا مائدة العدس..وانطلق الولدان إلى الحارة يتسابقان حيث الأقران ولعب كرة القدم..بينما انفتلت البنات الى صحن البيت ..تقتلان الوقت بتنظيف البيت ..فإذا فرغن لعبن بالحصى، لما يسمى لعبة " القال"..وهي حصوات خمسة ..تتقاذفها إحداهن في دورهابيدها وأصابعها ببراعة لمسافة أمام عينيها..فإذا أخفقت وانفلت أحد الحجارة، خسرت دورها في اللعب وتعداها إلى غيرها..
..ولربما لعبت معهن ضيفة من أترابهن جاءت زائرة ، أو جارة جاءت غائرة!
آه لو واتته القوة فيتخلى عن علياء سريره فيروم السلم والعلية ذليلا صاغرًا ،ومايهمه بعد ذلك كلام الزبال ..ووسوسة الشيطان للجيران!
..وتذكرّت أحزانها..فانسكبت دمعتان على خديها ..ومرت على خاطرها صورته بعد أن تزوجت ، وجاء الخلف والأولاد ..وهم ينتظرون روحته في المساء..من العمل عند الساعة الرابعة..وقد أخذ الجوع من الأولاد..فأبقاهم من الرمق على قيد الحياة ما يبقي السراب ُ من الماء للتائهين في جوف الصحراء.
حتى إذا جاء أخذ جلسته من صدر البيت ..وقد مُدَّ أمامه الطعام ، تحوطها حراسة أم عينيه ، امتداد يد أو انفلات شهوة من عقالها، فقد التصق الجمعُ بأمُّهم إلى الصدر المقابل ..ينتظرون فراغ َالرّجل من مهمته، والقائد من خوض معركته! وهم يتلوون ألما ويتضورون جوعا..تلك المعركة التي تستغرق نحوًا من نصف ساعة، فإذا أمرع وأترع وارتوى..وفرغ من همّه الكبير منتصرا، أشار لَهُم بظاهر من كفّ يده..أن خذوا عني ما تبقى من حملكم..واقضوا إلى المائدة طعامكم..!
فإذا استند بعد ذلك إلى مخدتين أخرج لفافة تبغ فأشعلها..حتى إذا أتى على آخرها استلقى ساعة أو ساعتين..فإذا أفاق تذكَّر َ العلية ، وما حوته خزانتها من كنوز..فقام من مضجعه الهوينى ..وسار في وقار وتؤدة صوب سلم الدرج ..وأخذ يرتقي.. درجة .. درجة...