هذه مقتطفات من بستان مواعظ الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى ، أسأل الله عز و جل أن ينفعنا بها
اذكر الموت
أكثروا من ذكر هاذم اللذات وتفكروا في انحلال بناء اللذات، وتصوروا مصير الصور إلى الرفات، وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات، واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت، وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة قال الحسن: إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لُب به فرحاً
وقال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع
تفكر في يوم القيامة
تفكروا في الحشر والمعاد، وتذكروا حين تقوم الأشهاد: إن في القيامة لحسرات، وإن في الحشر لزفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوى حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال: فلان مات، وتقول: رَبِّ ارجعوني، فيقال: فات
اندم على ذنوبك
أيها العبد
تفكر في عُمر مضى كثيره، وفي قدم ما يزال تعثيره، وفي هوى قد هوى أسيره، وفي قلب مشتت قد قل نظيره، وتفكر في صحيفة قد اسودت، وفي نفس كلما نصحت صدت، وفي ذنوب ما تحصى لو أنها عدت
قال أبو الدرداء : تفكر ساعة خير من قيام ليلة وقال أبو يوسف بن أسباط: الدنيا لم تخلق لتنظر إليها، وإنما خلقت لتنظر بها إلى الآخرة
امقت نفسك وازدرها
من تفكر في ذنوبه تاب ورجع، ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وتواضع، ومن علم أن الهوى يسكن تصبر، ومن تلمح إساءته لم يتكبر
كان يزيد الرقاشي يقول: والهفاه، سبق العابدون وقطع بي، وكان قد صام إثنين وأربعين سنة
وقال حذيفة المرعشي: لو أصبت من يبغضنى حقيقة، لأوجبت على نفسي حبة
فيا أيها العبد، عُد على نفسك باللوم والمقت، واحذرها، فكم ضيعت عليك من وقت واندم على زمان الهوى، فمن كيسك أنفقت، ونادها يا محل كل بلية فقد والله صدقت
سارع إلى الجنة
إخواني
لقد خاب من باع باقياً بفان، وخطر في ثوبي متوان، وتغافل عن أمر قريب كان، وضيع يوماً موجوداً في تأميل ثان،
أما الجنة تشوقت لطالبيها، وتزينت لمريديها، ونطقت آيات القرآن بوصف ما فيها، وملأت أسماع العباد أصوات واصفيها، كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها يوم القيامة أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريب قبابها
يا نفس
بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشققت ، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرق
يا نفس
أما الورعون فقد جدلوا، وأما الخائفون فد استعدوا، وأما الصالحون فقد راحوا، وأما الواعظون فقد صاحوا
يا نفس
إتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً، كأنك بالتعب قد مضى، وبحرصك من اللعب قد مضى، وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا، لا يطمعن البطال في إدراك الأبطال، هيهات أن يدرك البطل المجتهد من غاب حين النزال فما شهد حفت الجنة بالمكاره فلا يوصل إليها إلا بالمضض، كذلك كل محبوب يلذ، وكل عرض من غير مشقة، وإلا، متى لم يبعد على طالبٍ المشقة: العلم لا يحصل إلا بالنصب، والمال لا يجمع إلا بالتعب، واسم الجواد لا يناله بخيل، ولا يلقب بالشجاع إلا بعد تعب طويل
لَولا المشَقَة سادَ الناس كُلَهُم ... الجود يفقر والإِقبالُ قتَّالُ
أيها العبد
إن عزمت فبادر، وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر، من كان في الصف الآخر
احذر النار
إخواني
لقد خاب من آثر شهوة من حرام، فإن عقباها تجرع حميم آن، وخسر - والله - من أطلق نفسه فيما تريد، بعد أن سمع الزبانية وأغلال الحديد، وهلك كل الهلك وبار كل البوار؛ من اشترى لذة ساعة بعذاب النار
عليك بالخوف من الله
إخواني: من علم عظمة الإله زاد وجله، ومن خاف نقم ربه حسن عمله، فالخوف يستخرج داء البطالة ويشفيه، وهو نعم المؤدب للمؤمن ويكفيه
قال الحسن: صحبت أقواماً كانوا لحسناتهم أن تُردَّ عليهم أخوف منكم من سيئاتكم أن تعذبوا بها
ووصف يوسف بن عبد المحسن فقال: كان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس كأنه أسير من يضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنما لم تخلق إلا له
روض نفسك
طهر قلبك من الشوائب، فالمحبة لا تلقى إلا في قلبٍ طاهر، أما رأيت الزارع يتخير الأرض الطيبة ويسقيها ويرويها ثم يثيرها ويقلبها، وكلما رأى حجراً ألقاه، وكلما شاهد ما يؤذى نجاه، ثم يلقى فيها البذر ويتعاهدها من طوارق الأذى وكذلك الحق عز وجل إذا أراد عبداً لوداده حصد من قلبه شوك الشرك، وطهره من أوساخ الرياء والشك، ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة، ويثيره بمسحأة الخوف والإخلاص، فيستوي ظاهره وباطنه في التقى، ثم يلقى فيه بذر الهدى، فيثمر حب المحبة، فحينئذ تحمد المعرفة وطناً ظاهراً، وقوتاً طاهراً، فيسكن لب القلب، ويثبت به سلطانها في رستاق البذر، فيسري من بركاتها إلى العين ما يفضها عن سوى المحبوب، وإلى الكف ما يكفها عن المطلوب، وإلى اللسان ما يحبسه عن فضول الكلام، وإلى القدم ما يمنعه من سرعة الإقدام، فما زالت تلك النفس الطاهرة رائضها العلم، ونديمها الحلم، وسجنها الخوف، وميدانها الرجاء، وبستانها الخلوة، وكنزها القناعة وبضاعتها اليقين، ومركبها الزهد، وطعامها الفكر، وحلواها الأنس، وهي مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها، وعين أملها ناظرة إلى سبيلها، فإن صعد حافظاها، فالصحيفة نقية، وإن جاء البلاء فالنفس صابرة تقية، وإن أقبل الموت وجدها من الغش خلية، فيا طوبى لها إذا نوديت يوم القيامة: يأَيَّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرضِيَّة
أسال المولى عز و جل أن يهبني و إياكم نفسا مطمئنة حتى تلقى الرحمن راضية مرضية