.
لا أذكر كلمة اقترنت بمشاعر اللوعة و الألم ، مثلما اقترنت بها كلمة ( الرحيل )
لا أذكر كلمة تثير في النفس حزناً و شجناً مثلما تثيره كلمة ( الرحيل )
لا أذكر قراراً يصعب على النفس اتخاذه أو تقبله ، أصعب من قرار ( الرحيل )
و ليس من العدل أن نحاسب هذه الكلمة أو نحاكمها . . فهي مجرد حروف صماء لا ذنب لها في معانيها أو تأثيرها علينا . .
رغم ذلك . . نصّر دائماً على تحميلها كامل مسئولية آلامنا و أحزاننا .
و من سوء حظ هذه الكلمة أنها لا تعبر عن حدثٍ بعينه أو فراق مكان معين أو شخص معين . .
و إنما فقداننا لكل ما أحببناه أو ارتبطنا به ندعوه رحيلا . . أياً كان و مهما كانت أهميته لدى الآخرين ، فهو يمثل لدينا قيمة خاصة تشعرنا خسارتها بلوعة الرحيل و آلامه .
أذكر في صغري أنني كنت أتقاسم نفس الغرفة مع أخي الذي يكبرني عمرا . .
لم تكن هذه الغرفة بالنسبة لي مجرد غرفة عادية . . بل كانت خازن أسراري و رفيق صبايا و مراهقتي. .
كانت هذه الغرفة بالنسبة لي دنياي الخاصة ، التي كثيراً ما وددت لو لم يكن لي دنيا سواها . .
و عندما وصل أخي إلى المرحلة الثانوية . . كانت رؤية الأسرة تتجه لأهمية إتاحة الظروف الملائمة له لمزيد من التركيز و الهدوء . .
فكان الفرمان العائلي برحيلي – أو لنقل ترحيلي – من الغرفة .
كان الشعور برحيلي عن دنياي الخاصة شعوراً أليماً لم أتحمله . .
حاولت بكل ما لدي من أفكار صبيانية أن ألتف حول هذا القرار . .
تمارضت عدة أيام في محاولة أخيرة للتشبث بهذه الدنيا التي لا أعرف غيرها . .
هداني تفكيري الصبياني لتثبيت مكتبي بحيث يصعب نقله من مكانه . .
سقت كل الأعذار و المبررات الواهية لدحض هذا القرار الذي اعتبرته ظالماً و مجحفاً . .
لكن الدوافع و المبررات المنطقية للأسرة كانت أقوى من كل محاولاتي الصبيانية . .
و تم تنفيذ الفرمان العائلي في مشهد ( دراماتيكي ) لا يقل ألماً عن النهايات المأساوية لأفلام سينما الخمسينيات .
سنوات عديدة مرت بعدها و أنا لا أتحمل مجرد الاقتراب أو حتى النظر إلى هذه الغرفة التي تثير في نفسي تلك الذكريات الأليمة للرحيل .
كان يجب أن أبحث عن ( شماعة ) أحملها مسئولية مشاعر حزني و شجوني . .
و لم يكن من الصعب أن أعلق كل آلامي على ( شماعة ) الرحيل .
وعندما اضطرتني الظروف للبعد عن مصر و أنا في الثانية عشرة من عمري . .
عرفت حينها كيف يكون خروج الروح من الجسد . .
كيف نصبح في عداد الأموات ونحن لازلنا على قيد الحياة . .
كيف يمكن أن نتمنى الموت فتحرمنا قسوة الرحيل أن نناله
سنة بأكملها بعيداً عن مصر لا أتذكر منها يوماً واحداً أو موقفاً واحداً أو حتى شخصاً بعينه . .
سنة كاملة أحيا بذكريات ما قبل الرحيل . .
أذكر عالمي الخاص . . غرفتي ، بيتي ، مدرستي ، أصدقائي . . أفراحي و أحزاني
أرفض النزول إلى أرض الواقع مكتفياً باستعذاب لذة الألم . . و تجرع ذكريات الرحيل
وكان منطقياً أن أشير بكل أصابع الاتهام إلى ( الرحيل ) الذي أثار بداخلي كل هذه الشجون .
وحتى أبدو أمام نفسي و أمام الآخرين في صورة العادل المنصف في أحكامه . .
حاولت كثيراً أن أنظر للرحيل نظرة أكثر عقلانية . . نظرة أكثر تفاؤلاً . .
أن أتخلص من قيود العاطفة و المشاعر في نظرتي للرحيل . .
أن اعتبره مفهوماً أو موضوعاً يمكن تحليله أو مناقشته . .
كثيراً ما سألت نفسي :
لماذا نكره الرحيل ؟
لماذا كل هذا الجزع عند سماع كلمة ( الرحيل ) ؟
لماذا ترتبط في أذهاننا دائماً بالألم ؟
أدركت حينها كم ظلمنا هذه الكلمة . . كم تحاملنا عليها . . كم حملناها ما لا ذنب لها فيه . .
فلم يكن الرحيل يوماً هو مبعث حزننا و مصدر آلامنا
فليس رحيلنا ما يحزننا بقدر ما تحزننا ذكرى اللحظات السعيدة التي سبقت الرحيل . .
أو بقدر تذكرنا لأشخاصٍ أحببناهم أو أماكن ارتبطنا بها
أو بقدر ما يحزننا إحساسنا بالندم على لحظات سعادة فرطنا في اقتنائها قبل أن يداهمنا الرحيل
و تبقى دائماً ذكرياتنا في كل مكان أحببناه و بجوار كل من أحببناه هي أقسى ما في الرحيل من مشاعر
ويبقى دائماً ( الرحيل ) بريئاً من كل جراحنا و أحزاننا و آلامنا
فيا أيها الرحيل . .
ألهمنا الله الصبر عليك
و ألهمك الصبر علينا
.