هديل الرّوح ( هَمَسات النّسرين)

قلْ للغيابِ :إنْ قُدّت الأشْواق فيكَ فهيتَ لكَ ..قدْ حَامت غربانكَ حَول حمانَا،فأضْحت ليالينا المشْرقة حَالكات..أفل سِراج لهفتنا و اكُتستحت عتمة الجَفاء سماءنَا..قَدْ خَاب ظنّنا حين قلنا لن نطيق ثانية بُعدِ.فطالت هامةُ الصّبر و انكسر عُود الحنين من فرْط اليَباس .
يا غيابُ " ما كَانَ خطبك حَديثًا يفترى،بل كانَ ديدنًا لكلّ منْ سوّلت له نفْسه في الحبّ الانصياع لصولتكِ .قد قلتَ : من اتّخذني خَليلاً فقَد ارتدّ عنْ شريعة العشق..فالحُضور كالنّبض إنْ توقّف مَات الفُؤاد .

هذا المَساء ليْس كأيّ مَساء، قَدْ فَاحت مِن تلَابيبه رائِحة الشّوق فَدَاعبتْ خَياشيمي بعطركَ الفتّاك؛ و َ أنَا أجالس وِحْدتي; أضبطُ رقّاص قلبي عَلى توْقيتِ الذّكرى، لأتصفّح كتابَ ذاكرتي ، أرتشفُ قهوةً بطعم الوجْد. فللقهوة مَذاقُ الحنين فِي الشّفاهِ و أغنية الّصّبا بلَحن الهَمس،و للبُخار الصّاعد منها رسَائل كتبتْ بصدى الأنفاسِ و خُتمتْ بشَمع الرّوح.

حِين تصحو و في قَلبك احْباط أسْحم يلفّ عينيك،فيجعَلك تفرّ مِن الشّمس كأنّ بك رمد فهذا هو أكبر افلاس ، أنِ تستقبل يومك بلا أمل هُو أكبرُ فاقة للرّوح و شَقاء موجع .
***
نقول بأنّ الأمل خلّ وفيّ يمدّ يده لك دائمًا كلّما استصرخت به.فقط كلّ ما عليك أن تظل متشبّثا به.. لكن يحدث أحيانا أن يمدّك الوهم بأمل كاذبٍ زائف .. حين تكذّب حدسك و تضرب بالبدايات عرض الحائط في انتظار حدوث معجزة تقلب الموازين و ترسم لك النهاية السعيدة،و أنتَ تدرك أنّ عهد المعجزات ولىّ و اندثر..فحتّى الأمل لم يسلم من ادّعائتنا ..نلبسه الثّوب الذي نراه مناسبا و إنْ كان ضيّقا آئلا للتفتّق فقط لنجعل أحلامنَا قريبة منّا.

أنا بكَ أحيا ..إنّي و الأمواتُ سيّان دونكَ .فَكفّ عني رسلكَ و نُذُرك..أشْهدُ أنّك الحيّ في جَسدٍ مُتثاقل النّبض إن غبت عنهُ .و أنّي النابضةُ بالحياة إنْ تنفّستْ رئتي من شذاك .آمنتُ بكَ مِن أوّل العمرِ .مِن الخفقة الأولى و انحناءة الرّوح في رحابكَ ..جعلتني أؤمنُ بأنّ الحب كالرّوح نفخةُ مِن الله تحيي القُلوب الجوْفاء .

ﻫﻠّﺎ ﺃﺑﺼﺮﺕ ﺑﺮﻭﺣﻚ ﻗﻠﻴﻠًﺎ..ﺳَﺘﺮﺍﻫﺎ ﻓﻮﻗﻚَ ﻣﺎﻛﺜﺔ ..ﺗﺘﺒﻌﻚَ ﻛﻌﻴﻦٍ ﺣﺎﺭﺳﺔ .ﻫِﻲ ﻧﺠﻤﺘﻚَ ﺍﻟﺘّﻲ ﻟﺎ ﺗﺄﻓﻞ ﺇﻟﺎّ ﻟﺘبرزَ ﺷﻤﺴًﺎ ﻓﻲ ﺻﺪﺭﻙ،ﻫﻲ ﺍﻟﺪّﻟﻴﻞ ﺇﻟﻴﻚَ ..ﻣﻨﺎﺭﺓ ﻛﻞّ ﺟﺪﺭﺍﻧﻬﺎ ﺗﺸﻲ ﺑﺄﻥّ ﺍﺳْﻤﻚ زيت ﻗﻨﺎﺩﻳﻠﻬﺎ؛كأنّها النّور في ديجور الغياب ،تبدّد كلّ عتمة باشراقة ساطعة،و كأنّ لها أناملَ تمشّط ضفائرا من جدائلِ اللّهفة إذا ما تنفّس القلبُ اشتياقا ،و تصنعُ للقلب رغيفًا من سنابلِ العمر ذُخرا للسّنين القاحلة..تقول : قوّة البصيرة تُختبرُ عند عتمة الشّدائد ..الحبّ يصبحُ أشدّ وضوحا حين تحاصرهُ الصّعاب مِن كلّ صوب ..أغمضْ عينيكَ و مدّ يديكَ ..هاكَ نجمتك فتيل روحك في اللّيالي الحالكة

.

قلتُ أحبّك ،فقالوا : إنّ الهوى ذنبٌ ..كفّري عن خطيئتكِ بالهجر و النّسيانِ .
فقلتُ :أبوءُ بذنبي هَذا.أنتَ خَطيئتي التي أقترفهَا سرّا و جهرًا ..يثنيني عنكِ البعضُ ؛لكنْ يَسوقني إليكَ نبضي ..حتّى أنه كلّما قلتُ تبتُ عنكَ تبرّأ مِنّي كلّي..سآوي إليكَ يا مَلاذي الآمن ..ففي حُضنك الموبوءِ بالآثام طُهْري ..

يا هبة الله لروحي غيمةٌ أنتَ جادتْ بالغيث بعدَ سنيني العِجاف .قدْ كنتُ قبلكَ أجهلُ الحبّ ..و أعجبُ مِن عاشقٍ يهذي؛ أنْ اختطفت قلبهُ عنقاء الفقدِ .و قصمَ ظهر الصّبر فيهِ معولُ الغيابِ .
و عجبْتُ لدمعةٍ مالحةٍ حارقة للخدّ ،تترنّحُ وجدًا تَحت الجفنِ ..كيفَ يجزمُ العاشقُ أنّها كاللؤلؤ المنثورِ في كفيّه..لامعة و تسحرُ الأنظار كقطرة ندى تتمايلُ غنجًا بين البتلات ..
هزئتُ بعين اكتحلتْ باللّيل من فرط السّهاد ..و نأيتُ عنِ قلوب لا تجيدُ إلاّ مُسامرة القمرِ مِن دون العبادِ ..و قلتُ : ويكأنّ الحب محض عذاب ..و حين قذفَ الله باسمكَ في فؤادي شهدتُ بعد الجحُود بأنّ الحبّ نعيم يتراءى لمنكرهِ بأنّه ويلٌ فيهِ سوء العذابِ .

أقولُ :لا تغبْ ..بعضُ الغيابِ إثم ؛و كثيرهُ لعنة إنْ حاقتْ بصَاحبها أرْدتهُ صريعًا في قبو النّادمين .. ففي غيابكَ ُتحتضر الثّواني و يتثاءبُ المساءُ ..فهلّا أتيتَ ليرتدي الوقتُ ميقاتهُ ،و يزهرَ اللّوز في دمي ،و تجودَ بالمطر غيمة تشْرين.

و كأنّك تقولُ :أغيبُ كَي أحبّك أكثر ،كيْ أرى هَشاشتي دُونكِ ،و انغماس قَلبي في ظلال الحنينِ..و انزواءَ روحي في ركنٍ قصيّ تتهجّد بِذكرك بعيدًا عن العالمين.
في غيابك أوقنُ أنّكِ البعث ُلي ..إذْ يتّسعُ الكونُ لنَا ليضيق بغيرنَا .أبْرأ مِن جُرحي بلمْسة منكِ ،و تنتظمُ دورة دمِي بعدَ تصلّب شراييني..فأعودُ إليكِ بكَامل نقصاني مُوقنًا أنّ فيكِ اِكتمَالي،فأنتِ النّصر لي ..فَبِحجْم ضَعفي في غيابك يَكونُ انتصاري في رِحَاب ضعفكِ حين الحضُور.

وَطنٌ بنصفِ مَلامح قَلبي في غِيابك..وَ ذاكرةٌ مثقوبة تتسرّبُ مِنها أنفَاسي كلّما أوْمئ لي الحنينُ بأصبعهِ؛و هَذا الحنينُ قَريني لا يبرحُ نبْضي طَرفة عينٍ،و إنْ غَادرني بُرهةً فإنّهُ يعودُ ليسلّطَ عليّ جندهُ و يتسربلَ بدمي ..فلا خَلاص لي مِنهُ إلاّ باغماضة عين أحسبهَا ملاذي و لكن فيهَا سجّاني ..إذْ بهَا متواطئة مَع الحلم الذّي يَأتيني بكَ.فَلا مفّر منكَ إلّا إليكَ في صَحوي أوْ منامي.

يا شظيّةً سقطتْ من يد الشّهابِ و علقتْ في ضُلوعي ..أمَا سمعتَ أنينَ اللّهبِ الصّاعدِ من جَوفي يستجيدكَ رحمةً؛ فَجمرة مِنكَ كوتْ نيراني ..
يا سيّدي حبّك يفْتلني و يلْويني في عُنق الرّهبةِ ،إنّي أراكَ تبوّأتَ مِن النبضِ نصْفهُ و تركتَ نصفهُ الثّاني لمطرقةِ الحنينِ تدقّهُ دقّا شديدَا .
أعِدني إليّ بكاملِ رُشدي و تَكويني و حَيرةَ الطين في نشأتِي ..أعِدني نجمةً مُضيئةً و أحجيةً أعجزتْ الألباب و مُعجزة اللهِ في نفخة واحِدة ..أعدْني لأوّل العُمرٍ كيْ أحبّكَ ضِعف الحبّ ألفًا؛عمرٌ واحد لا يفيكَ تبتّلاَ و لا يكْفيني لأُشهدُ الدّنيا أنّكَ وريدي..