...أعوام خلت ولم يزرها ، يتقصى خبرها عن طريق رسائل نادرة . كلما تذكرها هفهف قلبه ، ارتعش جسمه فأخرج نفساً عميقا من جوفه وقال :
ـــ ذهبت صغيرة ، بدون شك أنها أصبحت كبيرة وجميلة ..
نادية المشاغبة كما كانت تناديها أمها ، تعودت على نمط عيش أسر كثيرة . تنقلت مرارا ً من بيت إلى آخر، جادت عليها الحياة بخبرة كبيرة ، تسمع عن أخواتها ولا تعرف عددهم ، وأيـن توزعوا ..؟ الشخص الوحيد الذي يتصل بها هو أبوها ولا يأتي إلا ليأخـذ ثمن عملها الشهري ..
مشي وهو يسابق النهار ، مشى ومشى .. حاصرته وساوس فتخيل أن شيئاً ما يعرقـل هدفه . يلتـفت ، يتأمل الطريق التي سلكها . يتابع السيـر وهو يأمل أن لا تفوته الحافلة .. هبت ريح باردة عكرت عليه صفو يـومه ، انقبض قلبه ، وانعقد عرق دافئ على جبهته ..
ركب حافلة مخرومة تـتلكأ في سيرها ، فأحس بأن شيئاً ما ينهش قلبه ، وحصل ما توقعه .. توقفت الحافلة ، سكت محركها نهائياً . الركاب يجـــوقون ، يتطاولون بأعناقهم . يتساءلون في حيرة ، لا أحد يعرف الجواب .. خيم صمت غريب على الجميع ، مضغـوا الكلام في نحورهم ..
ـــ ساعة وتـنطلق الحافلة ، قالها مساعد السائق بنبرة تـنم عـن شك مريب..
كانت الشمس تزحف نحو مغيبها . تجهمت الوجوه ، لفت الحيرة على الركاب . قلت قيمة الحياة في عيني عمار ، فتمنى من أعماق نفسه لو تابع السير بمفرده .. بعض المتطفليــن يعرضون مساعدتهم على السائق ، لكن ثقافتهم الميكانيكية ضعيفة ، فيكـتـفون بالنظر فقط ..
تأكد حدس عمار ، وتأخرت الحافلة . حاصره ليـل ممتد في مدينة موحشة، تخيل أن دماغه سوف ينفلت من رأسه ، في بعض الأحيان ، قد يبيع الإنسان ملابسه بكسرة خبز..
وساوس مقلقة تمر بظلها القاتم بين عينيه . ماء دافئ ينتفض من تحت جفنيه . فقد سمع عن المصائب التي يتعرض إليها الغرباء ، في مدينة تكسـر القوانين بسهولة، وتخرق العلامات الحمراء عمداً ..
الشوارع تتشابه ، والدروب تـتـشاكل ، حاصرته أضواء من كل جانب وحجبت عنه الرؤية .. يشير بيده ، لا سيارة أجرة تتوقف له . أحس أن حياته تنكسر بين يديه ، لم تعد الابتسامة تـشع على شفـتيه ، انطفأ حماسه ، وفترت جرأته..
الساعة تـقـتـل الساعة ، الوقت يقضي على الوقت، الزمن يعلن الساعة الأولى بعد منتصف الليل والشوارع قد خلت من الخلائق البشرية إلا القـلة القـليلة..
تغير مزاج الطبيعة فجأة ، أعلنت غضبها على حين غرة ، مصابيح تستغيث بالقمر ، تعصر أنوارها مختـنقة تحت ضباب أبيض . رياح فبراير تكشط ما تجده أمامها ، وتنشر الحصى دون انتظام ، أوراق فائضة تسقط من الأشجار على دفعات ، مزهريات نوافذ عالية تنكسر، نسغ رمادي ينزل من السماء فانعدم الحوار بين السماء والأرض ، بين الإنسان والطبيعة الغاضبة ....
تلجلجت كلمات جارحة في نفس عمار، تدفعه إلى الاعتراف ببلادته ، عليه أن يتأكد من أحوال الطقس قبل مجيئه إلى هذا الجحيم وهو فلاح خبير بذلك..؟
الليل يسير على مهل، لا ينوي الرحيل .. توقفت الأمطار فانتشرت جياع الخلق في النقط المظلمة ، عويلها يعبر الحارة ، تبحث عن رزقها داخل القمامات ..
تاه في الشارع الكبير بدون دليل ، ما أن خطا عدة خطوات حتى أحس بلطمة تهوي على قفاه .. تجمع عنقه ، وغاص رأسه في جسده .. استدار ليتبين ما حصل ، عالجه جلاده بلكمة قوية على أنفه .. انحلت عمامته وتلطخت جلبابه بدم دافئ .. ازدادت شـراسة عدوه بعدما مرغ جرحه في الأرض اليابس ، وسلبه ما كان عنده من نقود .. لم يستطع أن يستغيث، لكن لا مغيث..؟ استسلم لصمت قاتـل ، قطرات دموع تنسكب دافئة من عينيه بدون انقطاع .. أفاق من غـفوته ،
غـيـر بعيد عنه، عجوز يسعل سعالا حاداً ، يحاول أن يطرد الدرن الخبيث من جوفه .. يحمل صفحة سميكة من الورق المقوى ، يرتدي قصاصات أثواب مثـقوبة ، يسكنها الداء زمناً ، يجس الأرض بقدميه الحافيتين .. نظر العجوز إلى عمار نظرة تـنم عن إشفاق ، فابتسم ابتسامة حمقاء ، وتابع سيره ولم ينبس بكلمة..
زمان يابس يأسر لحم عمار، نسي همه وبقي مشدوداً لعجوز يصارع وخـز الزمن ، فأحس بوتيرة دمه توجد تحت وطأة خوف مرعب ، يصعب على النسغ الأحمر أن ينتفض في أنابيب جسمه من جديد ..
ابتعد عنه و قلبه ينبض خفية .. ازدادت وتيرة نبض قلبه لما شاهد عصابة من المشردين تـتدجج بالسلاسل والهراوات .. ينطــون ، يتوقفون ، يتوجسون كل طارئ ، يقـلبون قمامات الأزبال بأرجلهم ، يفحصون أكوام الورق المقوى ، يثـقبون الأكـياس البلاستيكية.. أيديهم تحمل الدم والجريمة في كل زمان ومكان ..
عمار يراقب الشارع الموحش في توجس ، وهو يدحرج سويعاته نحو الفجر .. جاءت كلاب تصارع القطط ، وفي وقت وجيز تستولي على اللقمة الفائضة ، تغالب الزمن بهراشها المخيف ، ومواء قطط يمزق سكون الفضاء .. قانون الغاب هو السائد في حارة مأهولة بالسكان ..
جاء الصباح يجر أنواره ، اختفت الأشباح ، وحلت محلها شريحة بشرية جديدة ، النهار يتـزحزح على مهل .. برزت المدينة مغسولة الجدران، وتبين له أنه أخطأ الحي، فلم يتجاسر على مُساءلة العابرين ... بحث عن العنوان فلم يجده ، كان يخبئه بين طيات عمامته .. تاه وتاه في الأحياء بدون جدوى..
عاد عمار إلى قريته صباحاً بعدما تجاوز عنه صاحب الحافلة في أداء التذكرة .. كلما سألته زوجته خرقها بنظرات مبتلة ،
دخل بيته ،لا يكلم أحداً من أفراد أسرته ، خلع سرواله وعلقه فوق رأسه ، ارتدى جبة فضفاضة ، تكوم في ملاءة بالية ، من تحتها يحصي ندوب انكساره وحمولة الدموع الدافئة تنساب من عينيه ..
ثوان مرت ، داعب النوم أجفانه .. تسللت زوجته إلى البيت وهو يغط في نومه ، قامت بعملية تفتيش لجميع جيوب سرواله ، الواحد بعد الآخر ، لكنها لم تجد شياً .. توقفت ، نظرت إلي عمار ملياً بعدما بلعت ريقاً يابساً .. وما أن همت إرجاع السروال إلى مكانه حتى سمعت خشخشة ، بحثت مرة أخرى في عمق كل الجيوب ، فما وجدت سوى تذكرة السفر ليوم الأمس ..