كان وجهُها ينطق بالأمل ويدُها تعانق يدَه بشدة ، وعندما تشابكتْ اليدان فوق المنضدة البيضاء المستديرة تباطأت ارتعاشتهما ، كان كأنه يُمنيها بموعد ما ، وقد عقدا الاتفاق وحلفا اليمين بابتسامة راضية وبلغة العيون .
لم يحفلا بأحد ولم يلتفتا الى نظرات الأطباء والعاملين بمركز علاج ورعاية المسنين ، وماذا لو علق أحدهم بسخرية ، أو تطاول آخر بجرأة جارحة على هذه المراهقة التى تأخرت كثيراً جداً .
كانا صامتيْن تعاندُ ابتسامتهما الحالمة كَرْمَشة تجاعيدها ، وتصنعُ مع لون شعره الأبيض الفضى لوحة فنية مجهولة العنوان والنسب والمصير .
فلا أسئلة كثيرة عن كيف ينتميان الى بعضهما وما الذى جذبَ أحدهما للآخر بدون تاريخ ولا ماض ولا جذور ؟
ولا كيف يلتقيان مرضاً على مرض ووهناً على وهن وشيخوخة على شيخوخة ، وما الجدوى وما الهدف والى أين المسير ؟
كان هناك اللقاء وتوطدتْ العلاقة الصامتة ، وتشابكت الأيدى وضحكت العيون .
حضرَ ابنه وكان فى نهاية العقد الرابع بلحية أنيقة ووجه مُرهق وضمير مُنهك من التفكير .
تنتظره زوجته فى السيارة فى شموخ وتأفف ، وقد طلبَ الابنُ من أحد العاملين مساعدته فى نقل أبيه المستغرق فى نومه الى السيارة ، وعندما ناوله بقشيشاً نهَرته زوجته باستعلاء ، مُذكرة اياه بالمبلغ الذى يدفعانه شهرياً للمركز .
قالَ بصوت خافت وتأدب أنه أرادَ له النزهة وقليلاً من الترفيه بعيداً عن مناخ المركز ، عندما تساءلت الزوجة مُبدية امتعاضها عن جدوى اصطحابه ما دامَ مُستغرقاً فى نومه ، وهى تشير فى خبث الى شقيقة زوجها التى لا تزور أباها ولا تصطحبه فى نزهات .
تمنى عليها أن تخفض صوتها حتى يهنأ الوالدُ بالراحة قبل موعد الغذاء .
على طاولة السفرة أجْلسَ أباه فى مكانه القديم فى الواجهة ، وجلسَ هو الى جوار زوجته فى مقابلة شقيقته وزوجها .
وضعَ طبقاً أمامَ أبيه .
سألته زوجته عن السبب ما دامَ نائماً لا يستيقظ ؟
قالَ ربما استيقظ ليجدَ طبقه أمامه .
أعادتْ الزوجة عامدة ما قالته فى السيارة حول تقاعس الشقيقة وزوجها ، وعدم قيامهما بواجب زيارة الوالد واصطحابه فى نزهة .
أنهى الابنُ العراك بصرخة مكتومة بعدَ أن تلقى طلباً بترك البيت المُتنازع عليه وتأنيباً على سوء خلق زوجته ، وفوطتين من فوط السفرة على وجهه .
نهضَ بصعوبة وحملَ والدَه المستغرق فى نومه بمفرده الى السيارة .
فى المركز وضعَ والده بمساعدة أحد العاملين على كرسى نقال .
وفى منتصف الصالة بجوار مائدة بيضاء مستديرة ، التقى بشاب يدفع والدته النائمة وعلى وجهها ابتسامة هادئة .
تركاهما بجوار بعضهما نائمين تماماً وقد ارتختْ يداهما .. وابتسامتهما الغامضة .
قالَ له .. لقد ظلتْ نائمة طوالَ النزهة .
افترقا وشرعَا فى الانطلاق بسيارتهما .
توقفا وعادا معاً فجأة وركضا مذعورين الى داخل المركز بعد استدعاء طوارئ .