الرجل غريب الأطوار الجالس كعصفور يتيم مبتل ، يرتجف من شدة البرد.. متزوج منذ أكثر من عشرين سنة .
- أعلم أنك لن تصدقني ، لكنني سألته وأخبرني بكل شئ عندما أهديته المعطف الخاص بي .
- هل تذكرين ذلك المعطف الجلدي الثمين الذي كنتُ أعتز بامتلاكه .. وأداوم على ارتدائه في الشتاء حتى أطلقوا على ذو المعطف ؟
- خلعته دون تردد عندما رأيت ذلك الرجل جالساً بمفرده ، يرتجف من شدة البرد .
- لم أكن أنوي في البداية إهداءه المعطف ، فأنا لا أستغنى عنه بطبيعة الحال ولا أرتاح دونه بعد أن صارَ جزءاً منى ومن تاريخى .. كنتُ فقط أرغب في تدفئة الرجل ، وبعدها أسترده وأمضي لحال سبيلي ، لكنه لم يتركني أمضى ، ولم يرد لي معطفي .. فرح به كما يفرح الطفل الصغير بلعبة جديدة ، وانتفض واقفاً وهو يقهقه .
- وبعد أن ارتداه وأحكم غلقه جعل ينظر إلى نفسه بإعجاب وفخر ، و بعدها سددَ إلي نظرة غريبة ليس فيها طعم الامتنان ولا رائحة الشكر ، ثم جلس وسألني باشمئزاز : من أنت ؟
- كان جالساً في نفس المطعم .. هنا فى ذات المكان الذي اعتدنا الجلوس فيه كلما جئنا لتناول عشاءنا .. كان جالساً ، بل متكوماً يرتجف جسده وتتراقص عظامه وتصطك أسنانه على نفس الكرسي الذي تجلسين عليه الآن .
- شعرت بالغثيان وبالخوف وبدأ البرد يتسلل الى أطرافى وجسدى .. كنت أرغب فقط في استرداد معطفي لذلك جلست ، وطلبت له شيئاً يأكله ومشروباً ساخناً .
- قدمت له سيجارة وأشعلتها له .
- سألته : أنت ترتاد مطعماً فخماً ، وهذا معناه أنك ميسور الحال .. وأن لديك الكثير الذي ترتديه ليقيك هذا البرد القارس .
- نظرَ إلي باستنكار وظل صامتاً قبل أن يسألني ثانية : من أنت !
- ضحكت دون أن تكون لى رغبة فى الضحك .
- وعندما هممت بذكر اسمي وتعريفه بنفسي قاطعني قائلا : قبل أن نتعرف..اعلم جيداً أننا لن نصبح أصدقاء ولن نتبادل الزيارات ، ولن أحبك يوماً ولن أكون مخلصاً لك فى صداقتى إلا إذا أهديتني هذا المعطف.
- قلت وقد استهوانى غموضه راغباً فى السير معه حتى النهاية : اذن هو هدية لك.
- قال بطلاقة غير متوقعة : فاعلم يا صاحب المعطف ، أنني لست في حاجة لمعطفك هذا ، فلدى الكثير منه ، ولدى ما لا تمتلكه أنت وعشرة من أمثالك .
- سألته : فما هي مشكلتك ؟
- قال كأنه يهذى أو يتحدث أمام مرآة يجاهد فى النظر لحقيقة تعبيراته : ليست مشكلتي أنا.. بل مشكلة زوجتي .
- أغار عليها .
- أحبها جداً وأغار عليها .
- أنا متزوج منذ أكثر من عشرين سنة ، وأحبها كما لم يحب رجل امرأة من قبل .
- جميلة ليس هناك من هو أجمل منها ، إنها أجمل مشهد وقعت عليه عيناي.. كأجمل ما يكون النساء .
- كانت تحضر إلى شركتي وتصحبني في جولاتي .. وتذهب معي إلى الحفلات والعزومات ، واعتدنا المجئ إلى هذا المطعم لتناول العشاء ، وكنا نجلس دائماً على هذه الطاولة التي نجلس عليها الآن .
- إذا وهبك ربنا كنزاً ماذا تفعل فيه ؟
- قلت : أخفيه .
- قال : حاولت أن أخفيها .. ولكنها كانت تتأبى وتصر على الظهور بكامل الفتنة .. هى ليست مُغوية ولا منحرفة السلوك ، لكنها امرأة عصرية فى عصر جائع أخلاقه جاهلية .
- كانت عائدة بسيارتها لى بيتنا قبل عشر سنوات ، فاستوقفها الذئاب واعتدوا عليها على قارعة الطريق
- أخذوا حليها والسيارة ومعطفها الجلدي الثمين وتركوها ومضوا .
- أخرج هكذا منذ عشر سنوات في البرد القارس بدون ملابس تقيني البرد .
- وعندما تصر هي على ارتدائي أحد معاطفي أرفض وتبكى .
- منذ عشر سنوات تتوسل إلي لأرتدي معطفى ، لكنني أرفض .
- أخرج .. أمنح جسدي رخيصاً للريح العاصف والبرد القارص .