نهاية التاريخ والرؤية الإسلامية
" هكذا فهمت التاريخ من خلال الإسلام "
بهجت الرشيد
بين الرؤية الجزئية المحدودة للإنسان والكون والتاريخ ، وبين الرؤية الشمولية ، دروب طويلة ، ومدارج عديدة ، قد يستطيع الإنسان قطعها وتسلقها أو لا يستطيع !
والعقل الضيق لا ينتج إلا فكراً ضيقاً حرجاً ، ومعطيات معرفية سطحية ، والعقل المنفتح خلاف سابقه يستطيع دائماً أن يستلهم ويبدع ويستشرف !
في حكاية التاريخ أيضاً ، نقف إزاء هذه الرؤية أو تلك ، هذا العقل أو ذاك ..
ونحن هنا نتكلم بشكل مخصوص عمّا يسمّى بـ ( نهاية التاريخ end of history ) ، وتعني على حدّ تعريف الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته عن ( اليهود واليهودية والصهيونية ) : ( أن التاريخ ، بكل ما يحويه من تركـيب وبسـاطة ، وصيرورة وثبـات ، وشوق وإحباط ، ونبل وخساسة ، سيصل إلى نهايته في لحظة ما ، فيصبح سكونياً تماماً ، خالياً من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات ، إذ إن كل شيء سيُردُّ إلى مبدأ عام واحد يُفسِّر كل شيء ( لا فرق في هذا بين الطبيعي والإنساني ) . وسيُسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه ، وسيجد حلولاً نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه ) .
ويبدو أن فكرة نهاية التاريخ استهوت الإنسان منذ القديم ، فاليهود أوقفوا التاريخ عندهم ، على اعتبار أنهم شعب الله المختار ، فأحداث التاريخ حسب زعمهم لا تتكرر ولا تتعاقب ، وإنما تتخذ طريقاً واحداً مستقيماً لاستكمال هدف إله اليهود بالعودة إلى أرض الميعاد ، لاستقبال المسيح المنتظر ( الدجّال ) ، والحكم على أمم الأرض ..
وتقترب الفكرة المسيحية من اليهودية في هذا التصور ، فهي تنشد كذلك هذه النهاية في قدوم السيد المسيح عليه السلام ، ورفعهم فوق السحاب ، وبداية معركة ( هرمجدون ) التي تكون على إثرها نهاية العالم ، كما صورها سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي ، وقد شاعت هذه العقيدة وراجت ، فهم ينتظرون هذه النهاية السعيدة كل ألف عام ، بما يُعرف بـ ( الألفية السعيدة ) ! وقد تناولت الكاتبة والصحفية الأمريكية ( غريس هالسل ) هذه العقيدة في كتابيها ( النبوءة والسياسة ) و (يد الله فوق إسرائيل ) .
طرح كارل ماركس نفس الفكرة ، وهي أن التاريخ سيصل النهاية بتحقيق اليوتوبيا الشيوعية ، وبناء جنّة أرضية ، وانهزام الرأسمالية وسيادة العدالة الاجتماعية ، لكن الشيوعية لم تستطع أن تعيش أكثر من عمر إنسان ، فضلاً على أن تكون نهاية لتاريخ البشرية !
وهتلر كان يؤمن أيضاً بالرايخ الثالث الذي كان من المفروض أن يستمر ألف عام ، يتخلص فيه الشعب الألماني من آلامه، ويعيش الرخاء الأزلي !
وجاء المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما ليدّق إسفينا آخر لتثبيت هذه الفكرة ، إثر سقوط المعسكر الاشتراكي ، وتفكك الاتحاد السوفيتي ، فأعلن عن وقوف التاريخ على النموذج الليبرالي الديمقراطي الأمريكي ، وإن حدث في هذا النموذج الأبدي من تغييرات وتطويرات فهي لا تمسّ الجوهر ! بل يزعم أنه ما من أيديولوجية يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي التقدمي !
فماذا يقول الإسلام عن التاريخ ونهايته ؟
التاريخ لا يتوقف ولا يعرف سكوناً ولا نهاية ، إلا بانتهاء الحياة على هذه الأرض ، إنه حركة دائبة مثابرة ، تدافع مستمر يبدأ بالفرد مروراً بالحضارات ، لا يؤمن بالمياه الراكدة ، ولا يؤمن بسلبية الإنسان والتاريخ على هذه الأرض ، ولا بتجميدهما في نقطة ما ..
وبالرغم من أن الإسلام يقدم نفسه على أنه الحقيقة المطلقة ـ وهو كذلك ـ فإنه مع ذلك يدفع الإنسان ( كل إنسان ) ، في الأرض ( كل الأرض ) نحو فاعلية متجددة ، يفتح أمامه الآفاق ، بل ويعطيه سرّ النجاح والتفوق ! ولا يخشى من ذلك ولا يرهب ، فهو يعلم يقيناً مدى قوته وصلابته ، ولذلك لا يخشى من الوضوح والصراحة ..
إن الإسلام لا يعلم الانغلاق على الذات ، وعقيدته مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ، ومستعدة لِتلقِي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة ، إنه لا يقول إن التاريخ سيسكن في لحظة ما ، يتوقف عن الحركة والصيرورة ، بل يؤكد على استمراره وتدافعه عبر مجموعة من القوانين والسنن التي أثبتها الله تعالى في كتابه العزيز ، سنن لا تحابي ولا تداهن أحداً ، لا تتغير ولا تتبدل ، منها :
ـ قانون التدافع ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا )
ـ قانون التداول ، أي التغير دائم ، وعدم الثبات لصالح طرف ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) .
ـ قانون التغاير ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) .
ـ قانون صعود وموت الحضارات ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .
ـ قانون التغيير ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .
وغيرها من القوانين التي أناط القرآن الكريم اكتشافها لبني البشر ..
فليس من سنة الله تعالى الجمود المطلق وانعدام الحركية والفاعلية التاريخية ..
وبذلك نرى اختلافاً جذرياً بين الرؤى القاصرة للحياة والتاريخ ، تنبع من تصورات قلقلة تحاول إغلاق الأبواب دون الآخرين ، وبين الرؤية الإسلامية ، النابعة من صميم المنهج الإلهي ، الذي يفتح الآفاق أمام الإنسان ، ليدفعه قدماً دونما انغلاق أو توقف عن الحياة والإبداع ، ودونما تجفيف للأشواق الإنسانية للمعرفة والترقي والطموح .
إن الإسلام يؤصل للحركة الديناميكية للتاريخ وتدفقه وتجدده ، حركة تتناغم وتنسجم مع حركة الكون نفسه ، ولن تنتهي تلك الحركة إلا بانتهاء البشر أنفسهم !