علاقة خفية تربط بين اختفاء الفريق أول عبد الفتاح السيسى عن المشهد الاعلامى ومشروع تأهله للرئاسة ، بصورة استثنائية ترفعُ الرجل الذى يُراد له أن يكون زعيماً الى الكرسى بفارق كبير عن منافسيه – ان وُجدوا - .
جزء كبير من هذه القضية متعلق بشخصية الفريق السيسى ؛ فهو رجل مخابرات متمرس وذكى ، يُدركُ جيداً فى أى الأوقات يظهر بكثافة ، كتلك التى كان فيها - بالنسبة لمريديه - البديلَ المأمول للسلطة المعزولة والرئيس المعزول ! وكذلك يدرك فى أى الأوقات يتوارى ؛ كتلك التى يكثر فيها اللغط والاضطراب وسوء الأحوال المعيشية والأزمات الحياتية ، وكثرة الحديث حول منافسين من داخل الجيش .
بل انه يدرك متى يرتدى نظارته السوداء التى تضفى عليه هالة من الغموض والتميز – بحسب ما يتصور – كوضعه اياها فى خطاب التفويض المشهور ، ومتى يخلعها كما فى المواقف العاطفية التى تحتاج الى الكثير من الوضوح والتواصل المباشر مع الجماهير ؛ كما فى الاحتفال الأخير بذكرى نصر أكتوبر ، وكما فى بيان 3 يوليو .
وجزء كبير من القضية مرتبط بخطط التجهيز للحدث الكبير ، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية .
ليس خاف أن هناك تجهيز عن كثب على مستوى الاعلام والفن والثقافة وقصائد بعض الشعراء ومقالات بعض الكتاب لما يشبه جمال عبد الناصر جديد ، وهذا فى حد ذاته خرافى وخيالى الى حد بعيد ويضر فى الأساس بمستقبل الفريق السيسى السياسى ؛ لاعتبارات كثيرة جداً أهمها اختلاف الظروف والامكانيات والواقع .
الزعيم عبد الناصر حظى بشرعية يصعب تكرارها هذه الأيام لأسباب سياسية واقتصادية ودولية واقليمية وعربية ؛ وهى ما أُطلقَ عليه وقتها " شرعية المشروع " ، فقد التفت الجماهيرُ العريضة حول عبد الناصر رغم اطاحته بالديمقراطية والحريات بسبب مشروعه الكبير فى العدالة الاجتماعية والاصلاح الزراعى وبناء السد وتأميم القناة ، فضلاً عن مشروع الاستقلال والوحدة العربية .
اليومَ – محلياً وعربياً ودولياً - يصعب انجاز مشروعات بهذه الضخامة للترويج لزعيم جديد من نسل ناصر ، واذا لم يصدق قطاع من الشعب الفريقَ السيسى فى مشروعه الذى وضعه بخارطة الطريق لتأسيس ديمقراطية ودولة مدنية حديثة ، نتيجة الاختلاف حول توصيف ما حدث ، فسيلح السؤال الكبير عن المشروع البديل لاضفاء شرعية فى هذا المناخ المنقسم حول الشرعية ، بل ان الكثيرين من حلفاء الناصريين من داخل البيت العلمانى لا يقتنعون بمجرد التخلص من الاخوان كمشروع ومسوغ للريادة ومؤهل للرئاسة .
لذلك نشط شعراء " الحَبَل " وكتاب " ما شئت لا ما شاءت الأقدار " لاضفاء هالة الغموض ، وليمعن الفريق القائد فى الاختفاء ولا يكتفى فقط بالنظارة السوداء ؛ فالمشروع الآن هو صناعة الزعيم الغامض الخيالى مدهش الصفات صاحب المعجزات ؛ بحيث تتقبله الجماهير وتتعلق به وتناضل لأجل رفعه على سدة الحكم ، لا بعقلها ، انما بأحلامها واستسلامها وعاطفتها .
نادراً ما ارتدى عبد الناصر نظارة سوداء ، وكان ذلك فى فترات الانكسار ، أو عند مباشرة حرب الاستنزاف ، من قبيل تعمية العدو عما ينوى فعله وما يخطط له .
ولم يرتديها السادات ، حيث رغب فى الأريحية مع الشعب والتبسط كابن بلد ، وربما كان هذا مشروعه الأساسى فى السلطة بعد فشله فى تحقيق الديمقراطية الحقيقية ، لكى يكون بديلاً منطقياً لجماهيرية عبد الناصر الكاسحة .
ولم يرتدى الملك فاروق النظارة السوداء الا بعد عام 1945م عندما تبدلتْ أحواله اثر حادث سيارة القصاصين وطلاقه من الملكة فريدة محبوبة الشعب ، ثم تردى أوضاعه على كل المستويات الشخصية والسياسية ، مما أثارَ الناس والمحيطين به فالتجأ للغموض والنظارات السوداء قبل أن يختفى عن المشهد .
انتهكت التسريبات الأخيرة هذه الحالة التى أرادها رجل المخابرات القوى لنفسه ، فكان الاختفاء لشهر كامل من قبيل التعويض ، ليعودَ من جديد بما يُناسب ما تروجه حوله جوقة الشعراء والكتاب والاعلاميين والفنانين .
نصحتُ قبلَ ذلك مراراً ألا يترشح رجل عسكرى أو شخصية اسلامية للرئاسة لفترتين رئاسيتين على الأقل نظراً لظروف المرحلة .
قد يعتبر البعضُ الفريقَ السيسى رجلَ المرحلة وأنه الأحق بالرئاسة لاعتبارات عاطفية ، لكن أين وما هو المشروع لمن يؤمن مثلى بالعقل ولا يقنعه اختفاء ولا يخيل عليه غموض ولا يتعاطى قصائد الحَبَل .