قدم المبدعون الإسلاميون لعقود مئات الألبومات وآلاف الأناشيد الجيدة التى انتشرت على ألسنة شباب الحركة الإسلامية ، لكن هذا لا يمنع أنها تجربة شابها الكثير من القصور ، وبحاجة إلى مراجعة ونقد وطرح أفكار ورؤى مبتكرة ، لتطويرها والوصول بها إلى القاعدة الشعبية العريضة .
هناك بالفعل تجربة غنائية إسلامية – مع التحفظ على المصطلح – لكن ما مدى نجاح التجربة ؟
وما مدى اكتمالها ونضجها ؟
وهل آتت ثمارها المرجوة ؟
دعونا فى البداية نقف مع أنفسنا فى لحظة مكاشفة ، ولا أظن أن أحداً من المتابعين لما قدم فى هذا المجال - منذ أصدر أبو مازن أول أشرطته من دمشق عام 1968م حتى اليوم – يستطيع إنكار أن الإسلاميين ظلوا لعشرات السنين يغنون لأنفسهم عن أنفسهم ، بمعزل عن الجماهير .
إبداعات الحركة الإسلامية لم تبرح قضايا الحركة وهمومها ورموزها ، وانحصر الغناء فى دائرة قضايا الحركة والتعبير عن آلامها وآمالها وقصص محنها وضخ الكثير من الألبومات التى توظف فى بث الحماسة فى ساحات جهادها ونضالها .
غنت الحركة الإسلامية كثيراً وقدمت أصواتاً رائعة وألحاناً شجية ، ولكن لا يعرفها الناس العاديون – من غير الإسلاميين – ولا يحفظها ويرددها أحد غيرهم ؟
أنشد الإسلاميون كثيراً لكن متى نافسوا فى سوق الإبداع ؟
ومتى شكل إبداعهم ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة فنية ؟
ومتى طلب الجمهور الحقيقى يوما إنتاج الحركة الإسلامية الغنائى ؟
وهل يعرف الناس بطول العالم الإسلامي وعرضه شيئاً عن هذا الإنتاج ؟
وإذا حدث وأجرينا استطلاعاً للرأي خارج نطاق الحركة الإسلامية ؛ فمن من الناس العاديين يعرف المبدع أبو مازن ؟
ومن منهم يعرف أبو دجانة و أبو راتب وغيرهم من مبدعى الحركة الإسلامية الكبار ؟
سر هذه الانعزالية كان سبب اهتمامى بتجربة الشاعر الكبير بيرم التونسى رحمه الله .
فهل قدمَ الإسلاميون فناً ؟
هذا ليس صحيح على إطلاقه ؛ فالفن أهم مقوماته الوصول الى الناس ومن ثم تفاعلهم معه وتأثرهم به ، وما قدمه الإسلاميون عجز عن التواصل مع الجمهور العادى ؛ بسبب الإصرار على مخاطبة النفس وجمهور الحركة ، لا الجمهور العام ، الذى هو فى الأساس جمهور الفن .
وبسبب استخدام أسلوب ولغة لا تصلح إلا لمخاطبة النخبة من أبناء الحركة ، وغير قادرة على التواصل مع الجمهور العادى .
وبسبب البعد عن هموم الناس واهتماماتهم وقضاياهم الاجتماعية ومشاكلهم الحياتية ، والتركيز فقط على المدائح والرقائق وأناشيد الجهاد والنصوص التى تندرج تحت عنوان " أدب السجون " .
لا ننكر أن الإسلاميين قد قدموا الكثير فى مجال الغناء أو الإنشاد ، ولكن للأسف كان المُخاطَب به على الدوام هم شباب وأبناء الحركة الإسلامية فحسب .
ولم يفكر أحد حتى وقتنا هذا فى تقديم فن غنائى للجماهير العريضة من الناس ، يناقش همومهم ويتناول قضاياهم ويلمس أشواقهم وعواطفهم من منظور إسلامي .
فن إسلامي شعبى – لا نخبوى – يتحدث بلغة العامة ويخاطب المتلقى لهذا النوع من الإبداع على قدر عقله وثقافته .
قد يتوقف البعض أمام الظاهرة ويتساءل عن فشل التجربة الغنائية الإسلامية فى الوصول إلى الناس والتأثير فيهم !
ونحن نؤكد أن التجربة الغنائية الإسلامية لم تكتب ابتداءاً للناس ، حتى تصلهم وتؤثر فيهم .
فنشيد حزين مثل " أبتاه " وآخر مثل " السجن جنات ونار وأنا المغامر والغمار " ، هما من حيث الموضوع واللغة والايقاع لا يصلحان لمخاطبة الجماهير العادية ، لكن دوره ينحصر بين جدران السجون حيث أجواء المحنة الأليمة التى يعيشها السجناء تحت سياط سجانيهم وبين أيدى معذبيهم .
ونشيد حماسى مثل " لبيك إسلام البطولة كلنا نفدى الحمى " وآخر مثل " قد تملك سوطاً يكوينى وتحز القلب بسكينى .. فاصمد فى الحرب لأشبال يعطونك درساً فى الدين " أو " ماض وأعرف ما دربى وما هدفى .. والموت يرقص لى فى كل منعطف " ... وغيرها الكثير .
كل هذه الأناشيد تصلح لساحة القتال أو لمحنة السجون ؛ حيث نبث فى قلوب المجاهدين والمرابطين فى سبيل الله روح الحماسة والاستشهاد والصبر والثبات .
لكن لا تصلح بحال هذه الموضوعات بتلك اللغة لتأسيس مشروع غنائى إسلامي جماهيرى قادر على المنافسة وقابل للانتشار بين الجماهير والشعوب .
على المستوى المصرى – على سبيل المثال – هناك محمود بيرم التونسى ، وهو واحد من أهم وأنبغ من كتبوا بالعامية المصرية ، ولا تحتاج أشعاره وتراثه الغنائى الثرى - الذى لم يوظف بعد التوظيف الأمثل - إلا لمطرب موهوب وموسيقى بارع قادر بامكانيات بسيطة على امتاع الناس بفن إسلامي راق ، قابل للانتشار والصمود جماهيرياً .
عن طريق أداء يرقى برسالة الكلمة ويرفع من قيمة اللحن ويؤمن بأهمية ما يقوم به من أجل الدعوة الى الله ونشر منهج الإسلام وقيمه المجتمعية وأخلاقه وآدابه .
الكثير من الممكن تقديمه لجمهور الأغنية الإسلامية الراقية بأشعار المبدع بيرم التونسى – ومن نسج على منواله من الشعراء - .
بيرم مع تمتعه بحس إسلامي وطنى ، مهموم بالشعب وقضاياه ، ولم يجلس فى برج عاجى منعزلاً عن الناس ليكتب أشعاره ، بل كتبها بعد أن اكتوى بنار الظلم والاضطهاد ، وبعد أن عانى آلام الغربة والمنفى ، وبعد أن ذاق طعم الجوع والبرد والمرض وعاين آلام المهمشين وأوجاع المنسيين والمستضعفين والفقراء .
بيرم أيضاً – مع إيمانه بالحل الإسلامي – عليم بمشاكل المجتمع المصرى وغيره من المجتمعات العربية ، خبير بأسبابها .
وهو لا يطلق شعارات جوفاء ولا صيحات عنترية ، بل يقدم حلولاً منطقية وعلاجات واقعية ، فى ثوب فنى راق وبلغة سهلة بسيطة كتبت خصيصاً لتناسب الأغنية الشعبية .
أشعار بيرم التونسى – كنموذج - قادرة على تحميل الموضوعات الجادة والقضايا الكبيرة فوق حروف كلمات بسيطة وبأسلوب هزلى ساخر قادر على الامتاع والاقناع معاً .
وكلماته أهم ما يميزها أنها تحمل النهج الإسلامي لكنها موجهة إلى الناس فى الشوارع والأزقة والحوارى و"الميكروباصات" و"التكاتك" ، وليس فقط إلى النخبة والمثقفين .