[center] عمّي المجذوب
إعتاد عمي المجذوب أن يزور قريتنا كل ليلة من السابع والعشرين من رمضان.عمّي المجذوب درويش رث الملابس، أشعث أغبر ذا طمرين، بهي الطلعة. لا أحد يعرف إسمه ولا موطنه.يلقبه الجميع بعمي المجذوب منذ العهود الغابرة. أذكر أنّ أبي حدثني عنه قائلا نقلا عن أبيه:
يأتي عمي المجذوب مرّة مع السحاب قطرات غيث ويأتي مع السنونو المهاجر نسيما بحريا ويأتي مع شعاع البرق صاعقة..يجيئ كل عام ما تأخر أبدا..كما الهواء يجيئ، كما المطر والموت والليل والنهار يجيئ..حاملا معه بعض الأغراض الملفوفة وعصا يتكئ عليها وله فيها مآرب أخرى ..لم يتغير شكله..يحب النوم في المقابر مردّدا "مكاني الروضة" والروضة عنده هي الجبانة.يأتي مع الأصائل وحين يعسعس الليل ويتنفس الصبح يتجمع حوله الصبية يصرخون في ضوضاء" عمي المجذوب يا عمي المجذوب ماذا أحضرت لنا؟!..هذا هو عمي المجذوب يابني.)
يبدأ عمي المجذوب كما كان يبدأ كل مرة.كلما جاء أسمعنا حكاية غريبة غرابة شخصه ورحلاته. كانت له مقدرة خاصة في لمّ إنتباه الحضور مثلما يفعل الخياط بأطراف الثوب. لم يكن الحضور يقتصر على الأطفال. حين يبدأ الحديث يتحول الضوء ظلمة والوجوه تغيب ويرتفع جسمه في الهواء وينبعث منه قبس شعاع كأنه على ركح ركزت الأضواء عليه.يبدأ خيالك برسم الصور وينسلّ منك جسمك وأنت تراه سابحا مع الكلمات في فضاء الحكاية وملكوت المعنى.ها أنا أنخطف مثل البقية وأنا في كل عام أشهد حضوره.لكن ككل مرة بإيهاب جديد بل أنه يزداد قربا لنفسي وبراعة في الولوج للسراديب الحالكة داخلي رغم أني قرأت الكثير لكن عمي المجذوب حين يبدأ ، يسري كلامه داخلي سريان السحر كالدم في الشرايين .
-عمي المجذوب يا عمي إبدأ الحكاية
يصيح الجميع حتى الشيوخ والعجائز.مع البدء تراهم وكأن الطير على رؤؤسهم.
( من عهود الخلق الأولى، من وهج التأمل والليالي الطويلة نُِسجت الحكاية الأزلية فجئتكم مسكونا بها..حملتني إليها خطوات السفر..كان ولوجي في ليلة ليلاء جبّانة منسية تملئ أطراف واد قاحل..صليت العشاء وأنا أروم راحة ونوما..بغتة بدأ البعث والنشور وأخرجت الأرض أثقالها..كانت منازلا كما في الدنيا مأهولة بعضها شعّ منه نور قوي والآخر نور خافت..ناديت في غيهب الدجى وأنا بين خيط رقيق من الحلم واليقظة."من أيّ الدارين أنتم؟! فأنا غريب لا زاد ، مرادي سقفا يأوني قرّ هذا الليل "..هلّلوا مرحبين كأني نبي جاء أو ولي من أولياء الله الصالحين..وفي صوت كورالي صاحوا:"أهلا بضيف الرحمان..أهلا بأخ الدار الفانية"..جرّني رجل قوي مهيب إلى بيته..عند الباب صاح:"ضيف جاء أوقدن النار وأولمن"..في البهو كانت إمرأة معلقة بحبل من مسد تصرخ:"لحقنا الضيوف حتى في قبورنا".. في رمشة عين ضربتها عصا من سجيل حتى غابت عن الوعي ..ثم وجدنا إمرأة يعذبها كلب أسود اللون وإمرأة صامتة إنتبذت مكانا قصيا بقربها كبش أبيضا سمينا..أخرج الرجل سكينا لامعة حادة خيّل إلي ساعتئذ أنه ذابحي.. لكنه ذبح الكبش وسلخه وقطّّعه .. وضعته المرأة الصامتة في فرنها وبعد هنيهة خرج الكبش كما كان حيّا.. حين لا حظ مضيفي ما إنتابني طمأنني إلا أن رجلا ملطخ الصدر بالدم، يحمل عصا، إنهال عليه ضربا وهو يصيح:" خذ يا قاتلي في دنياي ..خذ يا قاتل الروح!!"..أحسست أن ضرباته إنّما هي وقوع الزلازل..حاولت أن أثنيه دون جدوى..مضت ساعة على هذه الحالة..بعد إنصرافه قال مضيفي:"هذا الذي جنيته في دنياي ..فهذه نفس قتلتها بغير حق ، وهذه المعلقة أمي لا تحب الضيوف و لا تكرمهم، وتلك امرأتي عذّبت كلبنا حتى مات وهذا مشيرا إلى الكبش ورزم من صوف وبلح وقمح رشاو كنت أتباهى بها في دنياي." أجبت:"طب نفسا سأقرأ عليك ما تيسر من تنزيل" فصاح صوت خفي:"يا هذا لك أرض فأحرثها وأتركها سبع حجج لعابري السبيل والنمل والطير والوعل يأكلون منها ربما أمحت خطيئته"..
خرجت فزعا مما رأيت وفي الطريق مررت بجنازتين: جنازة لرجل مهم تقلد المناصب الكبيرة برزت يداه فارغتين من نعشهما وراء حشد عظيم..وثانية لرجل يضحك كنت أعرفه وأنا صغير، إسمه "سليمان طمطم" ، بسيط وفقير.. لا دار ولا ولد خلفهما..كان دعاؤه الوحيد "اللهم أمتني ميتة أمير"..بينما كان في صلاة الجمعة فاضت روحه في وسط جمع عظيم..سار وراءه الفقراء والمحرومون ..ذهبت لأشهد الجنازة..بدؤوا بحفر قبر الرجل المهم ..كلما ضربت الفأس الأرض إشتعلت النار..كأنما تأبى..هتف شيخ من أقصى اليمين:"إدفنوه حيث مرمى حجر.."رموا حجرا فسقط خارج المقبرة..وفي الطريق قالوا مستهزئين :"إياكم وعناء الحفر فالأرض التي رفضت هذا الرجل المهم لن تقبل حثالة مثل هذا"..لكنّها كانت عجينا طوع الحفار..
في سبيلي للخروج وجدت أخدودا من نار داخله ألسنة رجال طويلة..كتب على جباههم بخط من نار(هذا الذي جناه علي لساني قد كنت أخوض مع الخائضين في أعراض الناس وقتب القاصي والداني)..هرولت أمتطي عصاي وأنا تائه لا أعرف هل هذا البرزخ وهذا التداخل في أزمنة الليل والنهار محض سراب..أم أن خيوط الحكاية موصولة في كل مكان..
في هذه اللحظة أفاق الجميع وأدركوا أن عمي المجذوب أنهى الحكاية..ففي نبرات صوته إنجذاب بين البدء والمنتهى..ما درى الجميع إلا والصبية إستداروا به يأخذون الهدايا راكضين في جذل وحبور عبر كل الجهات..وتعود القرية لحياتها لا أحد يسأل كيف غاب عمي المجذوب..هل هو البراق إمتطاه غفلة؟! أم هل محاه ضوء النهار الذي محا عبوس الليل ؟! وتبقى الحكاية على كل الألسنة..حكاية الروضة المنسية وقبلها الصخرة المفقودة..كل عام وعمي المجذوب يأتي في موعده، في هيأته القديمة، يتغير الزمان ولا يتغير..
[/center]