مستويات تحليل النص الأدبيالنص الأدبي مؤسسة معرفية قوامها بنيتان:خارجية شكلية وداخلية مضمونية وتتوسل هذه المؤسسة إلى المتلقي بصياغات جمالية توسع الضيق وتضيق الوسيع وتمجّز الواقع وتوقّع المجاز لجعل (التماثل في اللاتماثل) في مشغل الخيال المنطلق وفق حسابات الموهبة والخبرة والتجربتين العقلية والعاطفية . وعلم تحليل النص سبيل القارئ المختص إلى إدراك مزايا النص الكامنة في حقوله المؤتلفة والمختلفة؛ والعلاقات الواضحة والمغيبة استناداً إلى مستوى ممنهج يصلح قناة محكمة بين المنتج والنص والمستهلك والشفرة، وسنقدم بين يدي هذا الفصل عدّة طرق لتحليل النص، تلك التي تعين المتلقي: الاعتيادي والمتخصص في كشف الغامض وتقعيد المنفلت وتأثيث الفوضى وسبر أعماق المتخيل وصولاً إلى إعادة إنتاج النص وتمثل تجاربه ومآزقه الفعلية والمتخيلة.
1. المستوى التركيبي:
يحيل هذا المستوى المحلل (كسر اللام الأولى المشددة) إلى الابتداء بدراسة الوحدات الصغيرة في النص. ثم ملاحظة أوجه الاختلاف والائتلاف بين الوحدات بغية تبويبها واستنباط العلاقات الفاعلة بينها، ودراسة الوحدات الصغيرة يثمر معرفة الوحدة الكبيرة (النص)؛ فالقصيدة مثلاً متألفة من أسطر وجمل وكلمات وإيقاع وصياغة ولا يمكن معرفة القصيدة بشكل كلي إذا لم تكن المعرفة الجزئية سبيلنا إلى ذلك والكتاب بوصفه نصاً لا يمكن تكوين فكرة متكاملة عن برنامجه الكلي مالم نصل إلى ذلك من خلال قراءتنا الكلمات فالجمل فالصفحات فالفصول.
2. المستوى التفكيكي (الجشتالتي):
وتحليل النص وفق جشتالت يبدأ من الكل إلى الجزء، فلابد إذن من تحليل النص إلى وحدات صغيرة ومن ثم تشريحها بمنظور كلي وصولاً (بالاستقراء) إلى استنباط قوانينه الظاهرة والغاطسة، والفكرة التي يستند إليها أتباع هذا المستوى أن طبيعة النظرة الإنسانية تبدأ من الكل ثم تصل إلى الجزء لاحقاً..
3. المستوى الفني الجمالي:
ويسعى هذا المستوى إلى تأشير مواطن الجمال والقبح في النص وتعليل الإشارات وفق قناعة مسبقة تقوم على أن النص الفائق هو النص الذي يبهج الروح ويشرك المتلقي في مشاغله الفنية الجميلة، ومحلل النص غالباً ما يعتمد على ذوقه ومرجعيته الشخصيين. أما القواعد والأصول التي يعتمدها فهي مقتبسة من النصوص المتميزة عبر العصور، وقلما يستعين الناقد بعلم من العلوم في تقويم النص .
4. المستوى البنيوي:
اتجاه نقدي استند في بداياته على دراسات العالم السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913) وقد سعى إلى دراسة النص من حيث هو كائن لا من حيث ينبغي أن يكون! وربما جاءت البنيوية بوصفيتها ثورة على الاتجاه المعياري؛ فكان أن جعلت وكدها في المعمار اللغوي للنص وسبيلها إلى تفكيكه هو البحث عن البنية بوصفها علاقة بين الذات والآخر؛ لكن البنيويين اليساريين هاجموا البنيوية اللغوية وطرحوا البنيوية التوليدية بديلاً منها .
5. المستوى اللغوي:
اتجاه في نقد النص عرفه العلماء العرب في القرنين الهجريين: الأول والثاني، وتميز فيه عمرو بن عبيد ت114هـ وأبو عمرو بن العلاء ت154 وحماد الراوية ت155 والمفضل الضبي ت168 وخلف الأحمر ت182هـ، ويعتمد هذا المستوى في تحليل النص على اختبار صياغة المبدع للعبارة وتشريح بنيات الاسم والفعل والحرف، تقديماً أو تأخيراً!! وقد استنبط الجاحظ ت255هـ فيما بعد نظرية النظم من آراء اللغويين والبلاغيين الذين سبقوه، ومازالت نظرية النظم وسيلة مهمة من وسائل المستوى اللغوي في تحليل النص .
6. المستوى النفسي
ضرب قديم من ضروب النقد الأدبي، أشار إليه أرسطو ت322ق.م والشاعر الروماني هوراس 8ق.م ولم يغب المستوى النفسي عن الذهنية النقدية قبل الإسلام ، وولع الشعراء بمناجاة النفس!! قارن أوس بن حجر (جاهلي):
إن الذي تحذرين قد وقعا أيتها النفس اجملي جزعا
وأبو ذؤيب الهذلي:
وإذا ترد إلى قليل تقنع والنفس راغبة إذا رغّبتها
وعنتــــرة:
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
واهتم النقاد العرب في القرون الهجرية الأربعة الأولى بالعاطفة وأثرها وقد استجد نوع جديد من الأدب بسبب الفتوحات الإسلامية هو أدب الفتوح الذي ينضح مشاعر الغربة والشكوى من الدهر.. فإذا جاء العصر الحديث برز سيجموند فرويد (1856-1936) بنظرية الدافع الجنسي ومقولات العقل الباطن المتألف من (هو) ذي الدوافع اللاواعية و(أنا الأعلى) الرقيب الذي يكبت! وقد انحاز كثير من أدباء العالم إلى الفرويدية مثل جيمس جويس ولورنس ومارسيل بروست وأندريه جيد !! ، والاعتراض على هذا المستوى هو انه يفترض العصابية والاكتئاب والعقد النفسية لدى المبدعين فكأن المحلل طبيب والمبدع مريض والنص عينة تحلل داخل المختبر
7. المستوى الاجتماعي الواقعي:
تفرد عدد من النقاد ذوي الميول اليسارية في هذا الميدان! فالأدب عندهم تنقيب في الواقع عن الواقع وتأشير الشروخ التي تحيق بقضيتي الحرية وتوزيع الثروة، ومحلل النص يحمل منتجه أعباء رسالة مؤداها أن الأديب مطالب بأن يسهم في رقي مجتمعه من خلال كشف عيوبه وتناقضاته والنأي عن روح التفاؤل التي تهوّن الخطب وتصور الواقع بصورة الحلم! وشعرنا العربي منذ وهلته الأولى نتاج واقعه الاجتماعي، والشاعر الجاهلي أسهم في تعرية الظلم والعسف اللذين يسمان العلاقة بين الزعيم وأفراد قبيلته، ولنا أن نستذكر الشعراء من الصعاليك والغربان والذؤبان؛ فإذا أشرق الإسلام التزم شعراؤه بمبادئه وسلطوا الأضواء الكاشفة على هموم الناس ومشاكلهم! وما يقال عن ذلك العصر يمكن أن يقال عن العصر الحديث فقد ظهر الكثير من المبدعين والنقاد الذين نادوا بارتباط الأدب العربي بالواقع والتعبير عن همومه . أما في الغرب فقد تبلورت الواقعية غب الثورة الفرنسية عام 1830م ثم تبلور اتجاهها عام 1880م لكن ثورة اكتوبر في روسيا 1917 وجهت الواقعية نحو خصوصية جديدة إذ اتجه المبدعون ومحللو النص نحو الواقعية الاشتراكية التي هوّنت من شأن الأسلوب والمجازات واعتدتهما ترفاً امبريالياً- وفي أحسن الأحوال- ترفاً برجوازياً! وقد احتج الشاعر (مايكسوفسكي) وكان أحد دعاة الواقعية على الغوغاء التي سادت الحياة الأدبية وتدخل السلطة بذرائع حماية الطبقات الفقيرة، فانتحر وأحدث انتحاره شرخاً كبيراً في معمار الواقعية، وتطرف الأدباء العرب المتمثلون لأطروحة الواقعية ففضل الكثير منهم هوية النص على ماهيته، وانتماء المنتج على فنيته، حتى أن بعض نقاد هذا المستوى أشاد بأعمال هابطة فنياً وتجنب تحليل نصوص إبداعية عالية القيمة بسبب الأهواء الحزبية والعصبيات الفكرية!!
8. المستوى التاريخي
طالب النقاد الجاهليون الأدباء بأن يوفروا في نصوصهم إشارات لماحة عن حياة الناس وحروبهم حتى شاعت مقولة (الشعر ديوان العرب) وحين أضاء الإسلام بنوره آفاق الحياة العربية، عبّر الأدباء المسلمون عن مفردات الحياة الجديدة خير تعبير حتى عدّ أدب المغازي والفتوح فناً جديداً، ولا ضير في ذلك لأن الشعر تعبير عن الضمير الجمعي للأمة كما يقول يونغ! أما الأدب الغربي فقد شهد تبلور المستوى التاريخي في أعمال سانت بيف وتلميذه تين وتحددت ثلاثة عناصر لتشكيل هذا المستوى وهي: الجنس والعصر والبيئة وهذه العناصر مؤثرة في النص! وقد دعا سانت بيف إلى دراسة المبدع وفق حياته العائلية مع ملاحظة رغباته ورهباته وصلاته مع أصدقائه وطبق آراءه المستقاة من آليات التحليل التاريخي على فكتور هوجو! وعيب هذا المستوى من التحليل أنه يدرس شيئاً ويغفل آخر أو أنه يعمم الجزء على الكل كما فعل طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) حين وسم العصر العباسي بالمجون ظاناً أن عدداً محدوداً من النصوص الماجنة كافٍ لوسم عصر كامل يمتد من 132هـ -إلى- 656.
9. المستوى الصوري (الصوفني):
يستثمر هذا المستوى جماليات الصورة الفنية بوصفها معياراً فنياً قادراً على معرفة قيمة النص، وقد مرّ بنا ولع النقاد العرب الجاهليين بمعيار الصورة! وإذ استمر هذا الولع مع احتراز ديني من إيماءات الصورة في البعد الجاهلي الوثني، اضطر الناقد إلى أن يسمي الصورة وصفاً مرة ورسماً أخرى ومشهداً ثالثة ثم تفرّد الجاحظ فنص في كتابه الحيوان 1/144 أن (الشعر جنس من التصوير). ومازال قسم مهم من محللي النص مهتم بمعطيات الصورة ، حتى أولئك الذين زعموا أن الصورة تضلل المحلل وتلهيه عن قيم النص المركزية! وكان ازراباوند قد أولى المستوى الصوري قدراً مهماً من اهتمامه، حتى أطلق على نفسه وتابعيه: جماعة الصورة، وهؤلاء يعرفون الصورة على أنها لحظة تشابك بين عشرات الصور الجزئية المتخيلة والواقعية، وقد ظهرت منذ الخمسينات وحتى شهر ديسمبر 1999 عشرات الكتب العربية والمترجمة التي تعزز هذا المستوى. أما شعراء الصورة فقد تأثروا بجماليات قصيدة الهايكو اليابانية (قصيدة الصورة)
10. المستوى الفطري:
ذائقة المحلل هي المعوّل عليها في معرفة النص وتقويمه دون حاجة إلى إقحام الآليات العلمية في التحليل؛ وغالباً ما تكون أحكام الناقد ذاتية تتجاوز المنطق الموضوعي وربما النص نفسه فتسبغ عليه ماليس فيه أو تغفل فيه العناصر الأسلوبية المهمة، ويمكننا القول أن عقدة محللي النص المحدثين هي نفي تهمة أتباع الذائقة الذاتية عنهم، فهم يغلفون أحكامهم الذاتية بلبوس ثقيلة من الادعاء العلمي! وقد شاع هذا الضرب من الهرف في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ولكنه خرج إلى الناس -كما ألمعنا- متجلبباً بالعلم والموضوعية فنال علم تحليل النص حيف كبير كما نال النص مثل ذلك وزيادة! إذ تسلّط عليهما (النص/تحليل النص) أقلام ركبت الموجة ولم تتخل عن معامل الرغبة والرهبة! وقد أطلق عليه د.كمال نشأت (المستوى الفني) وما نراه هو أن المستوى الفطري لا يمت إلى المستوى الفني بأية صلة مقنعة مع أننا نقر أن النقاد العرب (منذ أبي تمام ت232 وحتى ابن معصوم المدني ت1120) كانوا ميالين إلى استعمال ذائقتهم الذاتية في معرفة النص وآية ذلك أننا أحصينا مواقف خمسة وعشرين ناقداً من نص ابن الطثرية ت126 المشهور فوجدناها ثلاثة مواقف: مع النص/ ضد النص/ لا معه ولا عليه، ومع اختلاف المواقف فإنها تمتلك قاسماً مشتركاً مهما بينها وهو الذائقة الذاتية..
11. المستوى التكاملي:
ويسمى أيضاً : التوفيقي أو التلفيقي و مؤداه إن نجاح محلل النص في كشف أسرار النص كامن في عرض النص على مستويات التحليل كافة من تركيبي وتفكيكي وفني وبنيوي ولغوي ونفسي واجتماعي وتاريخي...الخ!! ونحن نرجح أن دعاة هذا المستوى متأثرون بالمنهج التعددي التاريخي الذي أثبت نجاعته في تحليل النص التاريخي بعد أن ألحقت فردانية المنهج وسطوته أذىً كبيراً بالحقائق التاريخية فتعين على ذلك خضوع نفر كبير لسطوة الوهم واستعدادهم لإيذاء أي جماعة تؤول التاريخ على نحو مختلف! فجاءت التعددية في التحليل والتأويل والترميم منقذاً من الضلال التاريخي ومنقذاً لدراسة التاريخ العلمية؛ ولكن الأمر مختلف مع النص الأدبي وكثرة مستويات تحليله تبدد شحناته وتشتت امتيازه ويكون هاجس المحلل استعراض ثقافاته ومواهبه والتنطع أمام القراء قبل هاجس خدمة النص (سيد العملية)، ونحن في عصر العلم ومن أول مبادئ العلم الاختصاص، بينا يتطلب المستوى التكاملي تعزيز آليات التحليل بخبرات كل المستويات والاختصاصات وذلك مالم يتيسر لواحد من البشر العقلاء!! وقد أطلق ستانلي هايمن على هذا المستوى (مدرسة النقد المتكامل) وتحمس له ودعا مريديه إلى تكريسه في تحليلاتهم للنصوص الأدبية،. ويمكن النظر إلى سيد قطب على أنه من أكثر النقاد العرب تأثراً بآراء هايمن ودعوته التكاملية وما كتاب السيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) إلا أطروحة عربية قائمة على هذا المنهج وقد حبذ الدكتور كمال نشأت معطى هذا المستوى ورأى أن (باستطاعة الناقد الواسع الثقافة العظيم الخبرة المدرب الذوق أن يضع النص الأدبي في ضوء المدارس النقدية المختلفة ويستعين بوجهات نظرها المتباينة في تفسيره وتحليله وتقييمه على قدر ثقافته وجهده وبذلك تتحقق وجهة نظر نقدية متكاملة في دراسة النص الأدبي) .
12. مستوى منهج اللامنهج:
ربما جاءت الدعوة إليه بسبب الأصولية المنهجية والأصولية النصية اللتين مارستا إرهاباً على محللي النص، والأصوليتان تجهّلان أي ناقد إذا حاول الخروج عليهما وتشككان بنواياه وقيمة منجزه التحليلي، ويرى د.عبدالعزيز المقالح أن الناقد هو الذي ينجح في تحليل النص فلا يعتسفه أو يحوّل وجهته عن مسارها الطبيعي. وهانحن ننقل رأي د.عبدالعزيز المقالح بالناقد د.عبد الملك مرتاض (إنه ليس بنيوياً ولا أسلوبياً؛ ولا هو من أتباع أي منهج من المناهج الاجتماعية أو اللغوية أو الفنية، إنه ناقد مفتوح القلب والوعي، وهو صاحب رؤية نقدية ليس لآفاقها حدود؛ وهي بالضرورة رؤية شمولية ترفض أن تدرس النص الأدبي دراسة جزئية. كما ترفض أن تعالج جانباً واحداً منه أو حتى عدة جوانب. وهذه الرؤية هي التي أطلق عليها الكاتب اسم أو وصف العطائية نسبة إلى ما يمكن أن يعطيه إيانا نص أدبي ما من خلال البحث في مكامنه وزواياه -العطائية- فإن أمرها يتلخص في السطر التالي من كتاب النص الأدبي من أين وإلى أين، والسطر هو وبعبارة صغيرة ولكنها جامعة؛ (إن اللامنهج في تشريح النص الأدبي هو المنهج)؛ العطائية إذن هي منهج اللامنهج في دراسة النص الأدبي الذي يتحدد وينبعث من خلال كل قراءة يقوم بها قارئ .
(منقول)