مبتعث فوق جسر البوابة الذهبية
لم يكد راغب يدخل في المعطف و يجمع طرفيه على صدره بأزراره تلك حتى أحس كأن شخصه قد تغير، و كأنه قد خرج من طور من أطوار حياته و دخل في طور جديد..بدا حرا طليقا ..حليفه التوفيق.. يلتصق تراب الذهب بقدمه. فور وصوله إلى أرض الأحلام ..بعد أن قطع شوطا طويلا في دراسته التي تفوق فيها على كثير من أقرانه لينال شهادته الجامعية و كان معظم الأساتذة يلقون محاضراتهم مرتين بسبب الأعداد الضخمة من المبتعثين ..و لم ير الطلاب بهذا بأسا .كانوا يستبقون ليسمعوا الأستاذ في محاضرته الأولى،فمن حيل بينه و بين ذلك انتظر المحاضرة الثانية. جذبت انتباهه فتاة تدعى عائشة تدرس معه نفس المجال العلمي تتحدث بلهجة تونسية عذبة ...كانا يهيمان على ساحل المحيط ، تأخذهما ألوان الحديث فيها قليل من جد و كثير من العبث ..
كانت عائشة حلوة الشمائل ، عذبة الحديث ..نحيلة ، شائقة الدعابة ..ملكت عليه أمره و استأثرت بهواه ..لا يجد في فهمها التواء أو عسرا..سألها ذات يوم في معرض حديثه عن وطنه: لو أنك قبضت على طير طليق و أودعته في قفص من ذهب ، و أطعمته كل يوم أغلى ما لديك ..ثم جئت في يوم و تركت باب القفص مفتوحا..فهل يظل الطير في القفص أم سيهرب منه؟
نظرت إلى عينيه وكأنها تريد إيصال كلماتها قبل أن تنطق بها..
ثم قالت : بتفوقنا العلمي قد نصبح أحد هؤلاء الذين يدخلون التاريخ دون أن يكون ذلك هدفهم ..بل يسعى التاريخ إليهم و هم عنه في شغل كبير ..فمقاصدنا أسمى من رؤية اختلافات الثقافات و تناقضات العادات و التقاليد ..لقد أتيحت لنا فرصة تحصيل العلم لننفع به أمتنا و بلادنا عندما نعود أدراجنا .. بالعزيمة و الإصرار نحقق أهدافنا ..انظر إلى الأفق الذي تتناهى عنده أبصارنا مغلفة بأعلام مرفرفة ..هي أعلام الوطن و الوطن وحده..تحملنا إليه اللهفة لتولي مسئوليتنا في تعمير بلادنا و نهضتها ..
وتكرر سيرهما على جسر البوابة الذهبية يتبادلان حديثا عقلانيا ليس بحديث المنذر المحذر من الرسوب و الفشل إنما حديث المشجع المؤمل يتحدثان بيقظة و أمل في المستقبل ..في القلب ثقة و في الخيال أمل ، و أمامهما غاية يريدان الوصول إليها ، و طريق يقطعانه في صبر و تضحية ووفاء..بعد اجتيازهما الامتحان ظفر كل منهما بالتفوق.. كان دائما يتفحص عائشة طويلا.. حينما تتكلم يخيل إلى السامع أن عهدها بالنوم غير بعيد حتى حين انقطع عنه صوتها العذب الرقيق لمقدم الصيف..كان الصوت يصحبه دائما ، لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
لتلك النبرات التي كانت تلج إلى قلبه فتملؤه رضا و غبطة و سرورا.. و أدرك أخيرا أنهما عبرا البوابة الذهبية بخطى واثقة..