جلس متكئا على يده اليسرى ينظر إليّ من خلال أهداب عينيه وهو يقول:
تحبني كثيرا كما كانت تقول دوما، لكنني لا أرغب في العودة إلى ذلك المنزل، أجبر نفسي على الرغبة في العودة وأحبب الأمر إليها علني أنتعش في صنع القرار ، هناك شيء يقذفني بعيدا، ويرمي بي في حلاوة الأيام بعيدا عن المنزل، لا أدري ارى نفسي مخطئا لكنني لا أرغب في العودة .
انحنى إلى الأمام ، مد يده ببطء نحو الطاولة أمامه، أخذ رشفة من كأس الشاي الذي صنعته له ثم أردف:
أرى أنها تراكمات بعد تراكمات، الأمر ليس لحظة غضب ثم تلاشت أو شجارا ثم انتهى أو تنابذ ثم ذهب مع الريح وإنما اشياء صغيرة بدأت دون وعي وأخذت تحفر طريقها كجدول الماء في الصخور يوما بعد يوم وأمرا بعد آخر رأيت أن نفسي تعاف المواجهة، وتخاف من عمل أي شيء خشية الانتقاد أو التوبيخ، كانت تقول على سبيل المثال:
أنت لا تنفع لشيء
ابن عمك أفضل منك
جارتنا جاءت لزيارتنا وكان ابنها مطيعا باراً ليس مثلك
تعذبت معك كثيرا ولا فائدة
لمن أعمل كل هذا وأنت جاحد
أن لا تفهم أنا أريدك أفضل من كل الأولاد
لماذا لبست البنطال الأزرق ، أراك تعاندني بشكل مقصود
ولعلي أتذكر أشياء أخرى إن أسعفتني الذاكرة. والحق أقول لك يوما بعد يوم بدأت بالعمل السري ، لا أطلعها على أخباري أو همومي أو تفكيري، أنا في طريق وهي في طريق آخر من التفكير.
ثم كبرت قليلا وعرفت أنها تحب نفسها وتحبني أيضا على طريقتها ، وتريد أن ترى في المثال الأكيد لنزواتها في التربية والمثال الجيد في الولد المطيع البار الأمثل الذي لا يلعب ولا يجعل ثيابه متسخة ولا يحضر صديقا إلى المنزل ولا يعرف كيف يولد الاطفال، وبدأت أعد الأيام التي تجعلني أرحل إلى معاركة الحياة، أريد أن أتعلم وأعيش حياتي دون قيود، كنت أصلي وهذا لا اعتراض عليه وأصبح عندي بعض الشعيرات على وجهي عندما أصبحت يافعا ، ولكن واخجلتاه أصبحت في نظرها (الشيخ) الذي لا يتكلم مع بنات الجيران ولا يجلس معها في جلسات النساء الصباحية في المنزل ، وتعرضت للاستهزاء، هي لا تعني الاستهزاء بمعنى الكلمة الكامل ولكن شعور اليافع آنذاك لا يحتمل كثيرا من النقد حتى يحمل على قائله مهما يكن ويشعر في تلك الأثناء أنه أصبح شخصا ذا قيمة في الدنيا. شعرت بأنانيتها وأنها تنظر إلي من خلال نفسها فقط أما أنا وما أرغب وما أريد فلا اعتبار لي في قاموسها. أنا لا أنكر حبها لي ولكن من الحب ما أفسد الحال وعكر صفو الحياة ، وأنا في رأيي أن الحب علاقة متبادلة بين روحين حتى وإن كانت بين أب وابنه أو أم وابنها، أما أن يقتحم الشخص عالم الشخص الآخر بما فيه من النفس والتفكير والتداخلات ليقحمه على الأسلوب ويتمثل له في كل حدب وصوب فهو نوع من الاختناق وإعادة الهيكلة المنبوذة، فحيّز الحرية يضيق ويضيق.
لا أرغب في العودة مثلما أحب أن أراها فهي أمي وكرهها من العقوق والعياذ بالله من ذلك.