بسم الله الرحمـن الرحيم
رسالة إليـكِ
تحية قطفتُها من قلبي
يسرى، يازهرة الجلنّـار
عدتُ إليكِ، وقد سكنتْ غضبةُ آلامي، وغادرَتْني أوجاع الجسد التي نقشتْ على جبيني هاته الليالي أغاريدَها، فمنعَتْني الكتابة..لكنّ النجمةَ الأولى، رفيقتنا وأنيسةَ بوحنا، أحضرتْ لي، سراًّ، يراعا من نورها لأكتبَ لكِ، في هاته الساعة المتأخرة بعد منتصف الحزن، فضعي يدكِ بيدي مرة أخرى، ولنجلسْ قليلا قرب البحر، لنعترفَ مرة أخرى بشوقنا لزمن الإحساس، وبأمانينا التي سكبناها بين موجه.. والأملُ الرقراقُ بشرفاتِ الحلم يكاد ينطق درّا..
البردُ قارسٌ هنا، قارسٌ جدا..والملحُ يهصرُ فاكهتَه من مقلتينا ليحظى باعتراف...لكنه لن يكون الاعتراف الأخيـر..
يسرى، دثّريني بالحلم والورد، لملِمي هذا الزمنَ المرتعشَ على كتفيّ، إنه يزرع بأوردتي نباتَ الوجع، ويفتح لأزمنةٍ أخرى تشبهه كل نبضةٍ مغلقة بأقصى القلب، سأعترفُ لكِ، بأنني للمرة الأولـى، أتمزّق باشتعال..ولكن ليس استسلاماً لزمنِ الرماد، ولاخوفاً على مصير قافلةِ الحلم التي بدأتْ للتوّ حُداءَها، بل بسبب قلوبٍ اغتالت الإحساسَ ودفَنته على مقربة منّي، ومازلتُ أنفض عني سخريتها وأتدثّرُ بالورد والحلم، فمهما زرعتْ في طريقي الشوكَ، وعلّقتْ زمنَنا الجميلَ بنخلةِ الموت، إلاّ أننا لن نهجرَ مزارعَ القمح ..أليس كذلك؟
أتعلمين يسرى؟ قبلَ أن أجلس إلى مكتبِ الحرف لأكتبَ لكِ، أطفأتُ سراجَ الصمت، ونزلتُ من قلعةِ النجوم لأجلسَ إلى البحر، أعلم أنه قد اشتاق إلى اعترافاتي، واشتاقتْ رمالُه الحانية إلى عزلتي بمدائن نبضـه..ظللتُ مختبئةً خلف صخرة الشاطئ تلك، أرقب رحيل المعترفينَ عن منصة بوحـه، كنتُ أسمع دون قصد، كل ماأهرقوه بين يديه من أشجان، وكانت دموعي تغسلُ زمنَ الأحلام، مع أم الملحَ حجبَ عني رؤيةَ الأزهار التي نبتتْ هنا..وحين مرّتْ خطواتُ الراحلين قربي، تسلّلْتُ إليه لأحتمي بحقول اللازورد التي نبتتْ بضفافه..اقتربتُ من قلبه، اقتربتُ كي أبوحَ له سرّاً، ولم يكن بيدي سوى منديـل البوح، أنسجه بخيوط قوس قزح النائمة، وبعناقيد الصمت الواقفة قربنا، وبحديثِ النجوم..
أكتبُ لكِ يسرى، والقمـرُ لم يعدْ بعدُ..وحده المطـرُ ساهرٌ معي الليلة، وقد أمـر النجمةَ الأولى وصويحباتها بأن يقرن في بيوتهن، وجلس يناجيني خلف زجاج النافذة، وهو يغسل وجهها من أشجاني..
البردُ قارسٌ جدا، حتى الخوفُ انزوى بركن حجرتي يرتعد برداً، لكنه سرعان ماعاد ليشعلَ يراعي..تشتعلُ المسافاتُ كلُّها..يبعثرني الصمت، أخيط البيت جيئةً وذهاباً، فيبعثني الصوتُ المبحوحُ لساعة الحائط على وجه السرعة إليكِ.. تهربُ مني الحروف، فألهثُ وراءها لأكتبَ لكِ ولوْ كلمةً واحدة، كلمةً تطردُ شبحَ النبض الذي اغتيل، وركبتايَ قد خاصمتَا خطوي.. تهجرني الدموع لحظةً.. ثمّ تعود لترتمي بين أجفاني ..مطراً..
يسرى، أنصِتي معي لعزف الأمواج على إيقاع الحلم الجميل، حلمنا الذي يفتح لنا بواباتِه وبيديه شمعةٌ، أجمـلُ مافيها رسالتها النبيلة التي اضطلعتْ بها، أن تنيرَ للخائفينَ دروبَ أرواحهم، وتحرقَ الخوفَ بشموخ..أجل يسرى، لستُ خائفةً من هجمةِ الأحزان، ولا من الشوكِ المتناثر هنا وهناك، لأنّ (وقتَ الحلم لم ينتههِ ولن ينتهي)، إنه مكتوبٌ على خطونا بمداد الإرادة، وبنبض الروح الذي غدَا نوْراً لفاكهةِ الغد الأجمـل، لن نسمح لأحدٍ بأنْ يكتبَ على بوابةِ أحلامنا: (عفواً انتهى وقت الحلم)، فالمكان هو الحلم والزمان هو الحلم، والقلبُ شراعهما، والزهرُ قافلتُهمـا..وسننزع الشوكَ الذي يرصد خطونا، بابتسامة..وسنجعلُ الحلم والصحو يتقاطعان، حتى وإن كانت سجلاتُ الزمن منقوشةً بالجراح، وبوابةُ الشجن لاتفتح ذراعيها إلاّ للراحليـن..ضعي يدكِ بيدي كلما أورَق الحزنُ ووقفنا معاً على عتبات الليل الأعشى، فقد صرنا روحاً واحدة، وحلما واحداً ويدا واحدة وابتسامةً واحدة، ابتسامةً تكبر كلما توغّل الحزنُ بمساحات قلبيْـنا..
لقد عادت الشمس من النهر القريب، حيث كانت تستحمّ ليترقرقَ نورُها زلالا..سأقطفُ لكِ باقةً من حنانها وأبعثها لكِ، مع أول سرب من النوارس..فانتظريني على صخرة الشاطئ حيثُ الحلم والصحو لايفترقان، وحيثُ الشمس لاتخلف موعدَها، وهذا قماشٌ أحضرتُه لكِ من أرض القمر، موشّىً بالليلَك، مصنوع من نبات الصبر الجميل، سنتدثّر به كلما عوتْ رياحُ الزمن المرّ، وسنحتمي بدفئه كلما نزفتْ أوراقنا، أو عطستْ آلاماً..وسيكتبنـا البحـرُ بماء الورد دائماً، لأننا أزمعنا الرحيل..إليـه، ولم نضيّعْ حقائبَ عشقنا للزمن الأجمـل..
يسرى، أيتها الجميلةُ روحاً، المرهفةُ إحساساً، أشكركِ على حديقة بنفسـجٍ هي قلبُك..وعلى الجمـالِ الذي هو أنتِ..
أحبكِ في الله ..