طلل
و على مدار مجموعة "حروف الجب" تتنوّع أغراض القصائد و أشكالها التصويرية ، بينما يربط بينها سهْمٌ إبداعيٌّ و احد ، يغزله الخيط الأسلوبي بشاعريةٍ مُتدفقة ،
و مابين الشكل العمودي للقصيدة و التفعيلي تأتي الومضة كمقذوفٍ يُغير مسارات الأحلام الزائفة ، و يُوجِّهُها نحو العدل بعد ارتدائها ثوب الثورة الهادئة و العزف بحروفٍ شامخةٍ رغم الطلل النازف حنيناً إلى الماضي المجيد ، و يرنو شاعرنا إلى مستقبلٍ يكون لحرفه فيه شأنٌ مُستحقٌّ ، و مكانةٌ تليقُ بأصالته ..
في قصيدة "طلل" نقرأُ سهماً له ثلاثة أسنّة مُدببة ، أمّا الأول ، فهو مُوجّهٌ لتعرية جرائم القوات الغازية ، و الثاني لتحريك المياه الراكدة في عروقِ الإخوّةِ العربية و الإسلامية و الإنسانية الدولية ، بينما يكون الثالث إعلاناً لقوة المقاومة و قُدْسيتها
يستهلُّ القصيدةُ بخبرٍ مُقدّمٍ على المبتدأ "واهمٌ" ، و جاء هذا الخبر المُقدم على هيئة اسم فاعل ، أما المبتدأ فهو الجملة التي تبدأ بالاسم الموصول "مَنْ قال ..." ، و ما هذا القول الذي جعل صاحبه في نظر شاعرنا واهماً .. ، إنه النهي عن الكتابة حول الطّلل ..!
و لدى الشاعر براهينه عى وجود هذا الطلل ، و الذي أصرَّ شاعرنا أن يأتي به نكرةً ، و غير مُعرّف رغم أنه عنوان القصيدة/ السهم و جوهر الهدف ، و خاتمته الداعية إلى رسالة التعمير و إعادة البناء
و أول هذه البراهين هو ذبْح الشعر على الطلل الذي خلّفة الاحتلال الغاشم لأرض العراق الحبيب ، و تدميره لكلّ الأبنية عدا روح المقاومة ، و التي لم يستطع زيف الاحتلال النيلَ من حقّها الشرعيّ في التحرير ، و تحقيق الأمن القومي
لقد دمّر عدوان الاحتلال الأبنية ، و حتى الصخور استوتْ قمَمُها بقاعدتها ، و لم يعد هناك مجالٌ لقصيدات الغزل الموصولةِ بالتراث ..!
دمّرتْ أحلامُ الاحتلال في السيطرة - و لو بتصريحاتٍ زائفة أطلق عليها اسم الحداثة - دمّرت كل علاقات التواصل بين الأزمنة (ماضيها وحاضرها ومستقبلها) من ناحية الشكل ، و في ظل هذا الطلل ، و أتلال الرماد و الجثث يأتي التبجّح لِيسمّي هذا الانقطاع/الانفصال جمالاً ..!
أيّ جمالٍ في هذا العرشِ المُدمّرة أركانه ، و تاهتْ حوله عقول السلاطين الدولية؟!
و أي حداثةٍ تلك التي غطتْ بجهلها و حربها الضروس على الحرب التي قامت بين قبيلتي عبسٍ و ذبيانٍ ، واستمرت أربعين سنة بسبب سباق بين فرسين (داحس و الغبراء)؟!
و قدْ استخدم الشاعر هنا لفظة "ألغى" بمعنى غطّـْى غطاءً شديداً للدلالة على أن جهالة هذه الحرب و القائمين عليها أكبر بكثير من حرب الفرسين داحس و الغبراء ..
إن في الحرب على العراق عودةٌ للجهالة ، و تعطيل العقل الإنساني ، و تفريغ لشحنات ازدواجية المعايير ، و قلْب للموازين/ القوانين الموروثة ، و التي كفلتها وثائق حقوق الإنسان الدولية .. يقول شاعرنا :-
وَجَمالٌ لِلْحَداثَهْ
نَوَّرَ الحَرْفَ وَأَلْغى
عَصْرَ ذُبْيانٍ، وَعَبْسٍ
وَقوانيْنَ الورَاثَهْ
وَبَنى عَرْشَ قَصيْدٍ
حَوْلَهُ تاهَتْ سَلاطيْنُ الدّولْ
و يعودُ شاعرنا ليؤكّدَ هذا الخبر المُقدّم في قوله "واهمٌ" لأن هذا الخبر من أهم الأنباء و أجْدرها بالتحليل و إيجاد الحلّ السريع .. ، و إذا كان في أول القصيدة كان المبتدأ المؤخر هو الاسم الموصول "مَنْ" ، فإن شاعرنا عند إعادة نشر الخبر و توكيده يجعل المبتدأ ضميراً مُستتراً تقديره "أنتَ" ، ليفصح عنه بقوله "ياصاحبي" للتقريب و الدعوة للعقلانية في تقييم الأمور ، واتخاذ الحلّ/الموقف المناسب ..
يقول محمود فرحان حمّادي :-"واهِمٌ يا صاحِبي إنَّ بِلادي
أَصْبَحَتْ في جَبَروْتِ المُعْتَدي
مَحْضَ رَمادِ
مابِها غَيْرُ بَقايا لِطَلَلْ"
و في هذا الجزء يحذف علامات الترقيم ، و يدخل مباشرةً "إن بلادي .." حتى لا تكون هذه العلامات حائلاً بين الشاعر و صاحبه/ المتلقى بشتى أنواعه .. ،
و يؤكد الشاعر للمرة الثالثة أن ماتبقى سوى "بقايا أطلال" ، و هذه البقايا إنما هي مانجحت فيه المقاومة لتمنع المحتلّ الغاصب من استكمال مآربه في القضاء نهائياًّ عن البطولات ، و رجال نُصرةِ الحقِّ ،
و كما جاءت حروف القصيدة/ السهم "طلل" ، فقد أكدت قصيدة "حروف الجب" هذه الرسالة ، و تفاصيل/ براهين أُخرى للطلل الذي خلّفه هذا الاحتلال .. يقول في مطلع "حروف الجب" : - على جدران أحلام الطغات .... دفنت بمعولي وجهَ الحياةِ
و بالتدقيق بين هذا البيت الذي يستهل به قصيدته العمودية "حروف الجب" و استهلال قصيدته التفعيلية الومضة "طلل" يُمكننا ملاحظة التقديم و التأخير في استهلال القصيدتين ، فهو إذْ قدّم في الأولى الخبر ، فقد قدّم في الثانية شبه الجملة من الجار و المجرور "على جدران .." ، و هكذا ، فهو يبدأ بماهية الخبر ، ثمّ يأتي ، بالتفاصيل ، و لعلّ عمل شاعرنا "محمود فرحان حمّادي" بالصحافة أكسبه هذه الحرفية في شدّ القارئ ، و كذلك نجد إصراره على تعرية وشجب الاحتلال الطاغي ، فهو إذ يعتبر مآرب هذا الاحتلال أحلاماً ، فهو يؤكّد أن مَنْ يتستر عليه واهمٌ لأنه هناك المقاومة و الصمود ، و عدم الاستسلام
و الشاعر إذْ يدعو إلى تحريك المياه في العروق ، هو أيضاً يُعلن عن هذه المقاومة "و دفنتُ بمعولي وجْه الحياةِ" .. ، مِمّأ يؤكد اعتزازه بنفسه و هذا المِعول الذي يدفن به وجه الحياة ، و هذه الحياة إن كانتْ للمحتلّ فسيدفنها ، و إن كانتْ له مقابل التستر على العدوّ ، فسيدفنها أيضاً لأجل إتمام مايؤمن به ، و هو تحقيق العدل و الحرية و البناء في أرض العراق المجيد
و بالتدقيق أيضاً بين كل قصائد المجموعة -وكم هو واضح سلفاً- نجد حرص الشاعر على استمالة الشعور الوطني ، و استدعائه للتفكير ، و استخدامه للبراهين عندما يُدخل العام في الخاص سواء كانتْ القصيدة مديحاً أو رثاءً أو حتى تتميز بالشمولية الترميزية غير الهلامية ، و أرى كذلك أن تخصّصه في الهندسة المعمارية قد ساعده على البرهان التخيّلي ، و اتشييد للمعاني بألفاظ رصينة ، و تصميم حديثٍ ، و تفكيرٍ يُناسب مساحة الموضوع .. ، كما نلاحظ في هذه المجموعة تكرار عدد من الألفاظ بعينها ، مِماَّ تعدّ قاموساً لغوياًّ لهذه المجموعة الشعرية "حروف الجبّ" و لمبدعها الشاعر العراقي العروبي و المهندس الصحفي محمود فرحان حمّادي
و يبقى .. كانتْ هذه فقرة من دراستي حول المجموعة الشعرية "حروف الجب" للشاعر الصديق محمود فرحان حمادي ، و قد اقتطفتُ هذه الفقرة لأنها بصدد قراءتي لنص "طلل"
تحية و تقدير لشاعرنا ، و لإخوتي من أعضاء رابطة الواحة الثقافية
باقات ودٍّ و احترام