ما الذى يجعل فارسا مقداما ومقاتلا جسورا وبطلا مغوارا ينفض الغبار عن روحه الرقيقة ونفسه المفعمة بالعذوبة وقلبه المعذب الموجوع ؟
ما الذى يضطر رجلا عزيزا ذا بأس شديد كان بالأمس يعتنق الأهوال ويسطر البطولات ، ويخوض البأس .. يرق اليوم ويسطر أحزانه وآلامه ويفصح عن مراراته ويعلن على الملأ أنباء انكساراته ويؤرخ للحظات ضعفه ؟
وما الذى يجعله بعد أن كان يناوش النمور والذئاب والوحوش ويلاعب الحيات والثعالب ، يحاور حمامة ؟!
الذى يعرف أبا فراس جيدا يعرف عماذا نتكلم ؟
نتكلم عن رجل كبير فى بطولاته ، عظيم الهيبة موفور الوقار ، عاش فارسا ومحاربا وأميرا ، فما الذى يكسر فؤاده ويصبغ أوزانه وقوافيه بلون الحزن والألم ؟
وما الذى يجعله هكذا باكيا بلا دموع متألما حسيرا ؟
ما الذى يجعله يبدع قصائد لم يسبقه أحد بمثلها فى الشكوى والتألم والحنين ؟
وما الذى يجعل شدوه يميل من نبرة الافتخار والاعتزاز الخالصة ، ليصبح ممزوجا بألحان الحزن والأنين ؟
قصة هذا الأمير الذى لم يضعفه الأسر ولم ينل من كبريائه وعزة نفسه ، سطرها فى أجمل وأروع ما كتبه من شعر عندما أسره الروم فى احدى المعارك ، فسميت تلك القصائد بالروميات نسبة الى الروم ، والأسريات نسبة الى الأسر الذى قضى فيه زهاء أربع سنوات من عمره القصير .
شاعرنا الآن فى أسر الروم بعد أن كان يواجههم فى الميدان وينتصر عليهم ويذيقهم صنوف الذل والهوان .
وهو الآن يعانى من تجاهل أمير حلب ابن عمه الأمير سيف الدولة رغم استعطافه له ليفديه من الأسر بعد أن خاض الى جانبه الحروب والمعارك ضد الروم .
وهو الآن يتحسر على قائد وفارس وأمير مثله : كيف تكون نهايته بين أيدى الأعداء ؟
وهو يئن ويتألم ويتوق للخلاص والحرية ويتمنى الفرج القريب ويطلب المساعدة ويستعطف للفداء ، الا أن نفس الفارس وروح المحارب لا تفارقه ؛ فيؤكد أنه ما تذلل لطلب الفداء الا ترفقا بأمه ورحمة بحالها يقول أبو فراس :
لولا العجوز بمنبج ما خفت أسباب المنية
ولكان لى عما سألت من الفداء نفس أبية
لكن أردت مرادها ولو انجذبت الى الدنية
أرد مرادها ، ومرادها أن يخرج وأن يعود بعد سنوات الأسر الطويلة ، لكن لا أحد يسمع ولا أحد يسعى فى فك أسره ، فيبيت يكتنفه الأسى ويعتصره الألم ويناجى السماء ويحكى همومه للقمر والنجوم .
موج الحزن والانكسار والضياع يجرفه بعيدا ، الا أنه يصارع الغرق بكبرياء الفارس وعزة نفسه وتاريخه النضالى المجيد .
تتناوشه الجراح وتجاهد فى تعريته ذلة الأسر وهوان الحبس فى يد الأعداء ، الا أن ثياب الفارس وأسلحته ودروعه مسبوغة عليه ملتصقة بجسده ، تأبى الفكاك عنه ويأبى الفكاك عنها .
معنا اليوم واحدة من روميات أبى فراس التى اعتبرها القيروانى " قصائد لا تناهض ويصعب الاتيان بمثلها " فهى تجمع بين صدق الاحساس والتصوير الواقعى والعذوبة والرقة والحزن والحنين وروح الفارس الفخورة التواقة الى الحرية والخلاص من أسر الأعداء .
القصيدة هنا أصدق تعبير عن حال وواقع وتاريخ الحمدانى الذى أجملناه ، وهى قصة واقعية تحمل تفاصيلها روح الفارس الذى يصارع الحزن والألم ، ويستنكف أن يضبطه أحدهم مدانا بالذلة والانكسار والبكاء .
انه لا ينفى عن نفسه الحزن والألم ، لكنه لا يقر بالهزيمة والانكسار .
الحمامة لا ندرى لماذا تبكى وقد وصفها الشاعر بالطليقة على غصن نائى المسافة عالى ؟
الا أنها على ما يبدو قد رقت لحاله ؟
وهو أيضا لا يدرى الا أنه لا يصدق أن تكون هذه الحمامة التى تبكى وتنوح بالقرب منه قد ذاقت ما ذاقه من آلام البعد عن الديار والأحباب ، ولا كان يصدق يوما أن طائرا ضعيفا يحمل كل هذه الهموم والأحزان .
أبو فراس هنا يعرض على الحمامة الحزينة صفقة غير مسبوقة ، بعد أن أكد لها أنه جدير بالهم والحزن بسبب ما يعانيه من أسر ؛ فروحه أيضا تتعذب ونفسه تتألم .
انه يعرض عليها أن تقاسمه الهموم ( تعالى أقاسمك الهموم تعالى ) !
فالحمامة من ناحيتها ضعيفة لا تتحمل ، وشاعرنا من ناحيته عصى الدمع فى النوائب والمحن .
كأنه يقول لها : لك نصف الهموم ولى نصفها ، لكن لتعلمى منذ البداية أن البكاء والنواح والدموع عليك أنت ، ودعى لى الباقى !
بالطبع للنص قراءات أخرى ، الا أننى أجد هذه القراءة المتواضعة أقرب لروح أبى فراس وألصق بطباعه وأليق بتاريخه .
انه نص لأبى فراس الحمدانى .. اقتنصته لأرسله الى عموم العالم الاسلامى .. لأذكرهم بعزة وشموخ أسرانا الكبار فى سجون الأعداء .
تعالى أقاسمك الهموم تعالى .. لأبى فراس الحمدانى
أقول .. وقد ناحت بقربى حمامة أيا جارتا .. هل تشعرين بحالى
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالى
أتحمل محزون الفؤاد .. قوادم على غصن نائى المسافة عالى
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالى أقاسمك الهموم تعالى
تعالى ترى روحا لدى ضعيفة تردد فى جسم يعذب بالى
أيضحك مأسور وتبكى طليقة ويسكن محزون ويندب سال
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعى فى الحوادث .. غال