"أنا" وأعوذ بالله من"أنا".. ضمير منفصل انفصالا تاما عن الواقع، ومتقوقع على ذاته، متشرنق في كينونته التي تميزه عن غيره في سلوكه وتصرفاته، التي لا تمت الى ما يحيط به من (الأنا الجمعية)، بل تتركز في (بؤرته)، وتدور حول (نواته) تماما مثل الالكترونات والنيوترونات حول نواة الذرة.
وهذا الضمير، قد يكون متصلا، اذا اتصل بفعل ما او اسم ما، او استشعر نفعا ما من وراء الاتصال، ويكون في هذه الحالة اسما على مسمى (ضميرا متصلا)...وقد يتوقف الأمر على إعرابه إعرابا لغويا سليماً من احد النحويين من خلفاء سيبويه او أبو الأسود الدؤلي.. محددا موقعه "ووضعه" بدقة في الجملة..
وقد تشاء ظروف هذا "الضمير" أن "يستتر" ويختبيء "بين الحروف"، وفي هذه الحالة سيحتاج إلى"قارئة فنجان" مقتدرة، قد تستطيع الوصول إليه وكشف أسراره، ومعرفة ما يخفيه من "بلاوي". وقد يقتنع بأنه "أولا" ، فيقف على رأس الطابور فرحا بكونه الأول، وعندما تحين منه التفاتة إلى الخلف، يكتشف أنه يقف وحده، ولا يوجد اصطفاف ولا ما يحزنون، وأنه منفصل انفصالا دراميا عن غيره من الأنات"جمع أنا" التي استفزها انغلاقه، فانفضّت من حوله تاركة إياه وحيدا في أرض بلقع قفر، لا نبت فيها ولا حياة.. عندئذ لا يجد مناصاً من أن يصيح: أنا "الوحيد".. و..تقوم القيامة، ولا يدري هذا «الأنا» من أين نبتت له الضمائر «التي كانت مستترة على ما يبدو» تصيح كلٌّ على حدة باستنكار: بل أنا الوحيد.. ويسقط في يده، ولا يدري من أين أتت كل هذه «الأنات» رغم أنه كان قبل قليل وحيدا.. وهكذا لم يعد الوحيد ولا الأول.. فملايين «الأنات» تحيط به وتتحلق حوله.
عندها يبتسم ابتسامة ماكرة ويصيح: «أنا المركز». وهو يظن أنه سيكون «كعبة» تطوف حوله كل هذه «الأنات».. فتتصدى له مرة أخرى: لا، لست أنت.. أنظر إلى موقعك الجديد.. لست في المركز، ولسنا دائرتك!!.
ماذا يريد هؤلاء؟. لقد أصبح وحيدا و"ليس الوحيد" وشتان بين الوضعين.. إذن لا بد له من الاتصال.. بمن؟ وكيف؟. ينظر «الأنا» حوله، ويبدأ في سبر أغوار«الأنات» الأخرى التي من حوله، ويلاحظ تشابها بينه وبين بعضها،لا يصل حد التطابق، ولكنه سيكون كافيا- هكذا شعر- للتلاقي في منتصف المسافة.. وتنجح مساعيه، ويجد أن مجاميع متشابهة من «الأنا» قد التفت حوله(ذلك ان الانات على أشكالها تقع) فيضحك في سره.. ويقول: نجحت..
وعندئذ يقوم «أنا» من هذه المجاميع خطيباً، ويبدأ لأول مرة باستعمال كلمة« نحن» فيقول: نحن الآن..
وقبل أن يكمل جملته يأتيه صاروخ احتجاج أرض - أرض: بل أنا.. فيجيب الخطيب: حاضر.. ولم لا؟ أنا.. فيقاطعه متوعداً:
- لا لست أنت.. بل«أنا».
فيحتد الخطيب:«أنا» ..أتحدث باسم كل هؤلاء.
- و«أنا» أتحدث باسم من؟
- ومن قال لك أن تتحدث باسم أحد أصلا؟
-لأنني..«الأنا». وهنا تتعالى صيحات الاحتجاج من كل حدب وصوب، ويبدأ اللغط، والتلويح بالقبضات الذي يتحول إلى عراك واشتباكات بكل أنواع القبضات والقسي والعصي والهراوات، ناهيك عن الشتائم و«المسبّات»، ويمتلىء الجو بأصداء «الأنا» التي تشق عنان السماء.. بل أنا.. أنا.. أنا..أنا.. لا بل أنا... لا أنا ولا هو.. بل أنا..أنا..أنا.. أنا.
-بل « أنا» ومن بعدي الطوفان. و.. تهمي دموع السماء، وتتلبد الغيوم، وتتجمع السحب في المكان.. وتبدأ «الرمي» رعودا وبرقاً.. وصواعق.. وتخرج الأرض ماءها.. الينابيع تتفجر، والسواقي تفيض، والسيول تتدفق، وتنغمر الارض، ويرتفع منسوب المياه في كل مكان، فلا سهل ولا جبل، ولا جودي ولا سفينة.. وتختفي الاصوات تدريجيا إلى أن يسود الصمت إلا من تلاطم أمواج الماء.. وإذا به يتخبط «وحيدا» في الماء -لأنه لم يتعلم السباحة- وهو يصيح «أنا»... أنااااااا أغرق.. أغرررررررق..ق..ق.. ويختفي دون أن يترك إلا بضع فقاقيع من الهواء .. لا تلبث أن تتلاشى..