الفرق بين الحقن والهضم
د.أشرف يوسف
تستمد التربية مفهومها في أي مجتمع من العقيدة أو الفلسفة السائدة فيه ، سواء أكانت عقيدة دينية أو فلسفة مثالية أو مادية، ويتأثر مفهوم التربية بعوامل عديدة منها الحضارة السائدة، والأهداف السياسية والاجتماعية.
وفي إطار هذه العوامل يمكن الإشارة إلى أن التربية هي بناء الشخصية ، فيجب أن تكون تربيتنا هي بناء الشخصية الإسلامية ، عقلية ونفسية لأبناء الأمة ، وذلك عن طريق غرس الثقافة الإسلامية ، عقيدة وأفكاراً وسلوكاً في عقولهم ونفوسهم .
وبما أن التربية تتميز بأنها عملية اجتماعية في أساسها ومفهومها وأغراضها ووظائفها ، فالمجتمع بكل مقوماته يمثل المجال الذي تتم فيه هذه العملية، فتوجهات التربية في الماضي والحاضر باتجاه تنشئة الأفراد تنشئة اجتماعية سوية تساعده على تنمية شخصيته على نحو يمكنه من النمو والاتزان، والتكامل مع ذاته والتكيف الايجابي مع المجتمع وثقافته ، لذلك ينظر لعملية التربية على أنها من العمليات المهمة في المحافظة على المجتمع وتطويره ، فهي عملية اجتماعية ووظيفية أساسية يحافظ بها المجتمع على مقومات وجوده واستمراره، لذلك أصبحت ضرورة ملحة للمجتمعات والأمم على اختلاف حضارتها ودرجة تمدنها.
والاعتماد على التربية في توجيه السلوك الاجتماعي وضبطه، ليس بالأمر البسيط بل يتطلبُ تكاتف الكثير من الجهود أثناء الشروع في تحقيقه، لأنه يخص الإنسان بوصفه أفضل ما في الكون من مخلوقات، وميزه الله سبحانه وتعالى عن كثير من المخلوقات، فقد خصه بالعلم والعقل، وخلقه في أحسن تقويم ، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين:4) ، واستخلفه الله سبحانه وتعالى في الأرض لتعميرها، وسخر له ما في السموات والأرض قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾( لقمان:من الآية 20) ، قال تعالى: "﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء:70) ، وبناء على ذلك يمكن إبراز دور التربية كعملية اجتماعية ، فدور التربية في تنمية الفرد والمجتمع أصبح اليوم من الحقائق المسلم بها بين المربين والاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين ، حيث أصبحت نظرة هؤلاء جميعاً إلى ما يصرف على التربية والتعليم على أنه نوع من الاستثمار والتنمية للموارد البشرية ، الذي لا تقل أهميته في قيمته عن الاستثمارات في تنمية الموارد المادية .
وهذا يحتم علينا كتربويين أن ننوع في الأساليب التي نتعامل بها مع الأفكار والمفاهيم التي نعلمها لأبنائنا ، حتى يتسنى لهم هضم الأفكار والمفاهيم ، فلنحذر من عملية حقن عقولنا وعقول ناشئتنا بالأفكار ولا نهضمها ولا ندربهم على هضمها فتكون النتيجة قتل التفكير والابتكار .
والفرق بين هضم الأفكار وحقنها كالفرق بين الحقن بالطعام وهضم الطعام ، فلو أن شخص قال لنفسه لماذا اتعب نفسي بغلي الحليب وشربه وملئ معدتي به دعني أصبه مباشرة في شراييني لينقله الدم إلى حيث يراد ، لكانت النتيجة إفساد تركيب الدم ولربما قُتل هذا الشخص ، أما حين نتناوله لتهضمه معدتنا فإنه يمر عبر عمليات دقيقة من التحليل والتركيب والفرز ، ثم يوزع ما كان صالحاً منه على أعضاء الجسم وما كان غير صالح يطرد خارج الجسم .
وكذلك الفرق بين هضم الأفكار والمفاهيم والحقن بالأفكار والمفاهيم ، فهضم الأفكار يمررها أولاً على عقول الدارسين والمتعلمين لتقوم بتحليلها وفرزها وتركيبها بما يلاءم معتقدات المجتمع وحاجات الزمان والمكان ، ثم يستبعد ما لا يلاءم المعتقد والفلسفة السائدة في المجتمع وما لا يلاءم أياً من الزمان والمكان ، ثم يطبقها في واقع الحياة ثم يقّوم النتائج ، أما حقن الأفكار فهو يتناولها مباشرة من مصادرها ويصبها في عقول الدارسين والمتعلمين وتكون النتيجة إفساد التفكير عندهم وتشتيتهم بين ما يتعتقدونه وما يناسبهم ويناسب مجتمعهم وبين ما يتعلمونه .