بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

في ذكرى استشهاده الرابعة :

ما الذي يدفع الأميركان الى الإستمرار في محاولات التعرّف على شخصيته حتى الآن؟
إنهم يعيشون هواجس ظهور صدّام آخر عما قريب

شبكة البصرة

نبيل أبو جعفر
غريب أمر الأميركان. تتغيّر إداراتهم ولا تتغيّر مواقف رؤسائهم وعقلية أجهزتهم. جمهوريوهم ألعن من ديمقراطييهم والعكس صحيح. وها هم بعد عشرين عاما من الحرب الدولية ضد العراق عام 1991، ثم حصاره فاحتلاله، ما زالوا يجترّون الكلام وبثّ التسريبات حول "عبقريتهم" في اكتشاف جديد لشخصية الرئيس صدام من خلال دراسات عديدة أجروها في الماضي، كما أجروا بعضها حتى بعد استشهاده. وكان قد وصل بهم الحال مطلع العام 2001 الى حد تسريب خبر يقول ان مخابراتهم مهتمة بكتاب صدر حديثا في العراق يتردد ان الرئيس صدام هو الذي ألّفَهُ، وأنها تسعى للحصول على نسخة منه "للإطلاع عليه". ثم سرعان ما طلعت علينا بعد ذلك إحدى صحف "طوال العمر" الصادرة في لندن بخبر يقول أن جهاز المخابرات الأميركية ينكبّ على دراسة رواية "زبيبة والملك" التي يُقال أن الرئيس صدام هو الذي ألّفها، وأنه يحاول من خلال ذلك التعرف على شخصيته بعد عشر سنوات من الحرب والحصار.
وبالتدقيق بين الخبرين بدا واضحا من الوهلة الأولى أن الذين سرّبوا الخبر الأول وجدوا في صيغته القائلة
"تسعى للحصول على نسخة منه" ما يهزّ الصورة المأخوذة عن إمكانات القوة الأكبر في هذا العالم، ويشكك بقدرة أجهزتها في الحصول حتى على أبسط ما تريد، وإلا فكيف يمكن أن تقف الولايات المتحدة عاجزة عن الحصول على نسخة من هذه الرواية، وهي التي تحارب العراق بأحدث وسائل التدمير التكنولوجي منذ عقد من الزمان، وتحاول أن تجرّ وراءها أكثر ما تستطيع من الدول الحليفة، وما فائدة تجنيدها للعديد من الدكاكين العراقية العميلة تحت لافتة المعارضة، وصرف عشرات الملايين لها وعليها، إذا لم يكن بإمكان هذه الدكاكين تلبية الحدّ الأدنى من احتياجاتها ولو تمثّلت بمجرد نسخة من كتاب؟!


تفاديا لأي إحراج أو استهزاء، ارتأت "السي آي إي" ضرورة استدراك الخطأ من خلال نشر تسريب جديد يُصححه عن طريق إحدى الصحف العربية (الدولية) التابعة لها ــ يصدرها "طويل عمر" آخر- يفيد بأن الرواية قد وصلتها منذ فترة وأنها بصدد دراستها.

دراسات تلو أخرى!
عند هذا الحد يبدو الموضوع شبه طبيعي، ذلك لأن رواية الرئيس الشهيد التي لم تحمل اسمه بل نُسبت ل "كاتبها" كما هو معروف، كانت نسخها الأولى محدودة التداول قبل أن يجري توزيعها بعد ذلك على نطاق واسع. أما غير الطبيعي فيه فهو: هل الولايات المتحدة وبعد كل سنوات الصراع مع العراق، ما زالت فعلا بحاجة لدراسة شخصية الرئيس صدام من خلال رواية، وهل حقا لم تقم بهذه الدراسة من قبل، علما بأنها هي نفسها قد أعلنت في السابق أنها درست شخصيته جيدا قبل أن تشنّ حربها الدولية عليه تحت ذريعة تحرير الكويت، وأنها وصلت الى قناعة مفادها أن هذا الرجل إذا ما مُسّت كرامة بلده أو استُفزّ بشدّة فلا يمكن أن يسكت على ذلك. وبناء عليه تتالت استفزازات حكام الكويت التي استوجبت الرد العراقي فالعدوان الدولي، ثم المواجهة المستمرة، حتى بعد احتلال البلد واغتيال قائده.

الغريب أن حنفية هذه التسريبات والدراسات لم تتوقف من يومها لليوم. ففي أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي 2010، خرج علينا معهد واشنطن لسياسة الشرقٌ الأوسط بما اسماه مضمون دراسة حديثة توصّل إليها من خلال الوثائق التي صادرها الجيش الأميركي بعد احتلال العراق، وقد أظهرت له ـ كما جاء على لسان الجنرال كيفن لودز، وهو أحد الذين شاركوا في إعدادها أن "صدام كان عبقريا في إدارة شؤون العراق الداخلية، لكنه لم يكن كفؤا في إدارة شؤونها الخارجية "!!،
والشيء نفسه تقريبا حصل قبل ذلك، حيث أعلن في منتصف العام2009 عن "نتائج" دراسة أميركية أخرى أدّت الى التعرّف أكثر على شخصية الرئيس صدام، استنادا الى قراءة عشرين استجواب رسمي وخمس حوارات شخصية أُجراها معه في معتقله عميل ال" إف بي آي " اللبناني الأصل جورج بيرو، وقد توصّلت إلى "اعترافه" بأنه يقف ضد أي شخص كان يتعاون مع الغرب ضد مصلحة بلاده (وكأن ذلك سرّا جرى اكتشافه!)، كما توصّلت حسب "اعترافه" أيضا إلى أن إيران تمثّل ــ كدولة جارة ــ أكبر تهديد للعراق. وتوقّف معدو هذه الدراسة أمام لفتِ الرئيس الشهيد انتباه بيرو الى غرابة ما يعنيه تطوّر قدرات إيران التسليحية بشكل دراماتيكي، في الوقت الذي كانت فيه عقوبات الأمم المتحدة تجرّد العراق من أسلحته وتفرض عليه حصارا شاملا.

لغز "قرآن صدّام"

أما الأكثر لفتا للإنتباه في الآونة الأخيرة، وهو ما لم يجر الإفصاح عنه حتى الآن، فيتعلّق بما يجري تداوله منذ فترة حول اهتمام أجهزة دولة الإرهاب الأكبر بما وصلها من معلومات عن نسخة القرآن الكريم المكتوبة بدم الرئيس صدام، سعيا وراء فك لغز هذه "الظاهرة". وقد حصل ذلك قبل فترة غير قصيرة من قيام الواشنطن بوست والغارديان وغيرهما بنشر ما وصلها مؤخرا عمّا أسمته " قرآن صدّام ".
فإذا علمنا أن للولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب ــ كما لسائر أنظمتنا العربية بالطبع - أقلاما مخابراتية مفرّغة للردّ على ما يمسّ أنظمتها في الصميم، أو ينال من هيبتها فيما يُنشر بوسائل الإعلام، لأدركنا من خلال تعليقات بعضها ردا على ما نُشر لاحقا حول هذا الموضوع، دوافع هذا الإهتمام في كشف ما لم يُكشف بعد في شخصية قائد تم اغتياله جسدا، إلا أن الدلائل تشير الى وجوده روحا فيمن هم على وصفه وتركيبته.
لقد حيّرهم الرئيس صدام في حياته، كما حيّرهم بعد استشهاده أيضا، وها هو يشغلهم الآن في فك "شيفرة" ما يرمي إليه هذا القائد العربي المسلم، اليساري الإشتراكي، غير المتعصب ولا المذهبي، من وراء كتابة نسخة كاملة من القرآن الكريم بدمه. ولهذا انصبّت تعليقات الأقلام إياها على التساؤل بصيغ مختلفة وفي صحف عديدة من بينها الغارديان، عن سرّ ذلك وتفسيره، مستهدفة من وراء ذلك إشراك أكبر شريحة من الناس معها في محاولة استكشاف الجانب المستعصي على الأجهزة فهمه.
لا نملك صواريخ تصل واشنطن.. ولكن

نعم، حيّرهم الرئيس صدام قبل حرب الكويت، وأثناء الحصار، وقبل الحرب الإحتلالية الأخيرة، وحتى بعد استشهاده، ولم يكن غريبا أن تأتي كل الحروب التي شنت ضده في سياق ما روّج عن عناده وموقفه "الإرهابي" من الأميركيين، وعلى خلفية تقييمه الجريء وغير الباطني لمواقفهم وأدوارهم، وهو ما عبّر عنه ـ على سبيل المثال ـ أثناء اجتماع موسع مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الراحل أبو عمار، عقد مساء 19 نيسان 1990 الذي صادف في شهر رمضان،وقد بدأه باستعراض مسهب للوضع السياسي تضمن قوله بالحرف : " لقد كانت السنوات الماضية ـ أيها الأخوة ـ مليئة بالمرارة. حوصرت هذه الأمة بكامب ديفيد ونتائجه، واستنزفت في حروب ومواجهات ما زالت مستمرة حتى الآن. يجب علينا نحن العرب أن نفقه لغة سياسية أكثر وضوحا وصلابة بعد الآن، وإلا لماذا تُعقَد القم العربية. إذا كانت لأجل البيانات (نحن لا نريدها)، نريدها أن تواجه التحدي بتحدّ مقابل. في رأيي أن كابول ليست أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بل هي القدس، ويجب أن تضرب المنظمة بالعصا على رأس هذه الأنظمة لأخذ حقوقها وليس بأسلوب الترجّي". (كانت هذه الإشارة الى كابول إبان الحرب الأميركية التي شُنّت تحت لافتة المجاهدين ضد الإتحاد السوفييتي الذي انهار في الشهر الأخير من العام 1991).

وفي نهاية استعراضه للوضع كاشَفَ الرئيس صدام الحاضرين بمضمون تهديد ضمني أبلغه إياه وفد من الكونغرس عبر رسالة رسمية تقول أن أميركا تعتبر الصواريخ العراقية (التي هدّد بضربها على إسرائيل) تهديدا لمصالحها، ثم تابع قائلا : "تمام، ولِمَ لا ما دامت أميركا هي سند إسرائيل المعتدية على الشعب الفلسطيني والأمة العربية. إن علينا أن نستعدّ لمواجهتها، وأن نجهّز أنفسنا لهذه المهمة. نحن ليس لدينا صواريخ تصل الى واشنطن، لكننا نستطيع الوصول بطرق أخرى، فصاحب الحق لا يخاف وعليه أن يقاتل من أجل حقه، ونقول لهم ردا على ما أبلغوه لنا : سنضرب إسرائيل ولن نعتذر لأحد عمّا أعلناه".

بقي على عهده بوعده

يبقى القول، إذا كان هذا الكلام الموثق في محضر رسمي يعكس بوضوح شخصية الرئيس الشهيد التي واظب الأميركان على دراستها سنين طويلة، فما هو الداعي إذن الى انشغالهم بدراسة رواية تحكي قصة ملك وفتاة فقيرة من بنات الشعب؟
الجواب على ذلك يمكن قراءته فيما تضمّنته "زبيبة والملك" من مواقف وآراء صيغت بمفردات مميزة كثيرة تشكّل جزءا من شخصية صدام، إضافة الى ما تحمله من رسائل موجهة للأصدقاء والأعداء، ولهذا تمّت قراءتها مليا قبل وأثناء فبركة الأكاذيب وتزوير الوثائق و الصور التي هيّأت لحرب احتلال العراق دون أي غطاء شرعي.

لا ريب أن كل من انكبّ على قراءتها قد استوقفه حديث كاتبها على لسان زبيبة عن الغزو واحتلال البلاد، وكيف يرضى الحاكم بدور للأجنبي يغتصب حرية بلده وكرامة شعبه، وما عليه أن يفعل في هذه الحالة. كما استوقفه ردّها على جواب الملك : "يقول الملوك من حولنا أن هذا (الرضى)أحسن... "، بالقول : لماذا أحسن يا صاحب الجلالة؟ إنهم يُدخِلون أصحاب العيون الزرق القادمين من بعيد الى معابدهم، ثم يحرمونها على من له حق أسبق من حقهم فيها (ص92). ثم، من أين لملوك هذا الزمان تصوّرات وخطط، أليس كل شيء موضوعا من الخارج وما عليهم إلا أن يُنفّذوا طائعين؟ إذن يبقى الإغتصاب هو الأقسى، سواء كان اغتصاب رجل لامرأة أم اغتصاب جيوش الغزاة للأوطان. ولكن الأقسى هو التسليم بالإغتصاب "... وصولا الى قولها له : يكون الحاكم كأنه امرأة تنام مع رجل غريب في سرير واحد عندما لا يقود جيوشه دفاعا عن بلده ضد أجنبي يجتاح بلده.
هذا هو صدام حسين الذي كانوا يخشون عودته من فوهة بندقية المقاومة، الأصدق إنباء من الإنتخابات وكل أشكال ديمقراطيات الغرب والشرق، وهذه هي مواقفه ورؤاه التي عاهد أمته على الإلتزام بها، وقد أوفى بعهده حتى اللحظة الأخيرة التي استحقّ فيها الشهادة برجولة قلّ نظيرها في التاريخ.