البدلة الجديدة إهداء له من زوجته بمناسبة عيد ميلاده..هي الآن رهن إشارته.. أعدتها له فوق كرسي خشبي بمحاذاة المرآة الممتدة أمامه بعرض الحائط من أجل ارتدائها على الفور..يرمقها بنظرات اشمئزاز وتلكؤ..كيف لا،وهو الذي يمقت البدلات وربطات العنق والجلابيب والبرانس وما شابه ذلك من الأردية ..!!
زوجته المهووسة بالطرز والمطروزات والأزياء وأصناف من الأقمشة،كانت تنتقي له من الألبسة ما يناسب قامته القصيرة وجسده البدين..كانت تنفض عن أثوابه،حين وقوفه أمام المرآة، ما علق بها من بقايا ذرات الغبار وشعيرات دقيقة قد لا يلحظها لاحظ ثم تعمد إلى رشه بنوع من العطورالرجالية المناسبة بالرغم من محاولاته الانفلات من قبضتها..دوما كانت حريصة على أناقته وحسن مظهره، وخاصة بعد أن أصبح قبل أيام معدودات موظفا في منصب حكومي هام،لكنه كان يمانع ويقدم أعذارا فتصر هي على موقفها بكل الوسائل والطرق..
****اللحظة يشعر باستياء كبير..يتردد في ارتداء البدلة الماثلة أمامه..تتراءى له النظرات الحادة والصوت الصارخ لزوجته فيستسلم في نهاية المطاف..محشوا بداخل شمْلته،يتطلع الى المرآة مستعينا بكرسي صغير، يصعد فوقه متفحصا بإمعان هذا الهندام الجديد من كل الزوايا والأبعاد..يبدو من خلال المرآة وقد تدلت كرشه من فوق حزامه كقربة تمتلئ ماء..داهمته ابتسامة هازئة يطبعها قنوط لا يوصف..عض شفتيه ماقتا وتساءل في غور ذاته :" من هذا الذي أراه أمامي..؟؟..تفو..الله يلعنها سلعة..!! ".
****زوجته تسلّم له ربطة العنق المناسبة للبدلة والتي أعدتها بنفسها :
- عليك بارتدائها على الفور..
قالت ذلك وهي تطوق عنقه معدّلة من وضعية ربطة العنق..
- يا امرأة دعيني لحالي..أبعدي عني هذه " المِخْنقة "..!!
- اتق الله يارجل..منصبك الحكومي الجديد لا يسمح لك بارتداء ما تشاء..
تردد قليلا ثم أذعن لمصيره ..تناهى إلى بؤرة مخيلته، وقد انعكست صورته في الإطار الزجاجي،كما لو أنه من فصيلة آدمية لا تحتمل أو مخلوق من كوكب آخر :
- عزيزتي..انظري ..انظري..كيف أبدو..ألستُ كما برميل محشو بداخل كيس من الأكياس ..؟ أنت مطمئنة الآن ؟
- أنت..عزيزي.. مرغم باتباع كل البروتوكولات المفروضة عليك من الآن..
لم يبال..هز رأسه الى المرآة من جديد ..كاد أن ينزع عنه البدلة ويتخلص من "مخنقته" كما أسماها..لكن الزوجة كانت له بالمرصاد..انتابه احساس بعدم الرضى ..قال في دخيلته وقد عكست المرآة قامته القصيرة : " تفو..الله يلعنها سلعة"..
*****الصبيحة،صبيحة يوم عيد من الأعياد الدينية.في الشارع المجاور دبيب غير عاد للرائحين والغادين..وجوههم تطفح بالبِشْر..بعضهم يتبادلون تحيات العيد وآخرون يتأبطون سجاداتهم في اتجاه المصلى..
فور انتهائه من حلق ذقنه، تسمرت زوجته على مقربة منه ..عانقته بحرارة وحيّته بتحية العيد ثم ناولته جلبابا ناصع البياض :
- لقد حان وقت ذهابك لصلاة العيد ..عزيزي..
- يا امراة ..أنا لم أرتد قط جلبابا ..وانت أعلم مني بذلك..
- هل جننت يا رجل..؟ ألم تدرك بعد أنك مطالب بهذا ؟
- مالي وللجلابيب يا امرأة ..دعيني..!!
- جرّبه أولا.. إنه على مقاسك..لا خوف عليك..
تردد طويلا،غير آبه، غير أن زوجته حدقت إليه بنظرات صارمة مرعبة،منبّهة إياه إلى أن وظيفته الحكومية تحتم عليه ذلك شاء أم أبى..
شرع في ارتداء الجلباب على مضض وهي تراقبه ..صعد فوق الكرسي المعتاد لاستجلاء شامل لأجزاء من هندامه..طفق يلوي عنقه يمينا ويسارا وفي كل الاتجاهات..
- انظري يا امرأة..ألم أقل لك..ألا أبدو لك مثل رُجيْل وسط هذا القماط السخيف..؟؟
تتابعت ضحكات الزوجة :
- كفاك احتقارا لذاتك..بل أنت رجل يا أحمق..!!
انصاع لمصيره المحتوم..وردد في عقر نفسه : " تفو ..الله يلعنها سلعة..!!"...وفي خطوة غير محسوبة العواقب، حاول النزول من الكرسي، إلا أن طرفا من الجلباب التوى حول ساقه فأفقده توازنه ثم كبا كبوة ليخر إلى الأرض بجسده الممتلئ متهاويا على قنة رأسه..انهارت زوجته فوق الجسد المحموم وأطلقت صرخة مدوية تردد صداها في أرجاء المكان...
****حُمل الرجل على التو إلى مشفى المدينة..أجريت له فحوص طبية دقيقة ولبث هناك لبضعة أيام..وفي آخر يوم،حاوره الطبيب :
- الحمد لله..لقد كانت العاقبة سليمة..
- هذا من أفضالكم يا دكتور..
- عليك أن تدرك أن الإيحاء الذاتي في النفس الإنسانية قوة سحرية لتحقيق الأهداف ..لكنها بالنسبة إليك مع الأسف تستعمل في الاتجاه المعاكس..
- كيف ذلك يا دكتور ؟
- أنت توحي لنفسك بالدونية ..بل بما هو أسوأ..!!
- لم أفهم سيدي..
- أنت رَجُل ولست رُجيْلا..!!
" رجل..؟؟ " رددها مع نفسه لمرات..لم يسمعها قط إلا من زوجته..وهاهو ذا الطبيب يعيدها على مرأى من مسمعه..كاد أن يقبّل رأس الطبيب، لولا أن زوجته التى جاءت لمرافقته أبطلت مفعول مبادرته التي عدتها صبيانية بعد أن أدركت قصده ..شعر بابتهاج لايوصف..ابتسم ضاحكا مطمئنا ثم انصرف لحاله وقد جللت كيانه فرحة عارمة غير معهودة...