الإفطار
قصة قصيرة
محمد النعمة بيروك
أمشي بخطى حثيثة في صراع حقيقيٍّ مع الشّمس، ليس مجازا، إنه صراع حقيقي.. هل تغرب هي أوّلا؟ أم أصل أنا بيت خالي قبل أن يُؤذَّن لصلاة المغرب؟
لا أثر لسيارة أجرة على امتداد هذا الشارع الطويل، ولا أمل في الوصول إلى محطة الطاكسيات مع هذه الحقيبة الثقيلة..
كأنني وحيد في هذه المدينة، أستطيع تخيّل المدينة مهجورة تماما، إلا من سيارات قليلة تسير بسرعات هائلة..
لم يعد من حلّ سوى البحث عن مكان لإفطار مدفوع الأجر.. ربما هو بحث أيضا عن أمن بين الناس أيضا، فلا يدرى المرء متى ينبلج عليه قاطع طريق في هذا الفضاء الموحش..
أجرّ الحقيبة بصعوبة لأطلّ على زقاق واسع يتقاطع مع الشارع على وقع صوت الآذان..
من حسن الحظ يلوح مقهى أو مطعم على طرف زقاق آخر على بُعدٍ مقبول..
"لابدّ أن فيه ما يسدّ رمق مسافر صائم مثلي"..
أوّل ما يلفت انتباهي في المكان وأنا أقف على المدخل متلمسا مكانا للجلوس، هو أنه ليس مطعما شعبيا، فكلّ شيء فيه حديث الطراز عصريّ اللمسة، ومع ذلك ألمح بعض الناس في هيأة مشرّدين، ينادون على الطلبات ويأكلون ويشربون..
يُقدم نحوي نادل عشرينيٌّ حليق وأنيق، بسروال أسود، وحذاء براق في لونه، وقميص أبيض، مع ربطة عنق على شكل فراشة سوداء أنيقة، ويُشير لي بيديه حيث مائدة عليها اثنين غيري.. لم يكن الوضع مناسبا للاعتراض، فربما كثرة الزبائن في وقت الإفطار تفرض شيئا كهذا..
أجلس على كرسي وثير، وقبل أن أعتدل في ثانيّتيْن، أجد النادل قد غادر بسرعة البرق، قبل أن أعرض عليه طلباتي..
اضطرّ إلى قطع الصيّام بجرعة ماء من القنينة الموضوعة أمامي، فيما يأكل الرّجلان اللذان يجلسان قبالتي بنَهم.. أستغلّ هذا الفراغ في حشر الحقيبة بيني وبين المائدة لحمايتها من أي اعتداء محتمل..
يُقْدِم النادل بعد هنيهة بدتْ دهرا، فلا أجد ما يمنع أن أبدي له اعتراضي في بضع كلمات..
-تتركني وتذهب دون أن تعرف حتى ما أريد..
لكنّه لا يردّ سوى بابتسامة غامضة، وهو يرفع قنينة الماء، ويمسح الحيز الموالي لمقعدي من المائدة، ثم يصفّق لآخر جاء يحمل طبقا كبيرا وضعه أمامي..
تسمّرت متأمّلا الطّبق..
جرّة حساء، تمر، قطعة خبز، بيضة، حلوى في شكلين مختلفين، عصير ليمون، كأس حليب..
أقرّرُ تغيير بعض المعطيات في الطّبق، لكنني أجد النّادل قد اختفى مرّة أخرى..
أبدأ إفطاري على مهل في انتظار أن يظهر ذلك النادل العصفور.. ألمحه يمرّ حاملا طلبات الزبناء دون أن يعيرني أي اهتمام، رغم أني أرفع يدي لمرّات عديدة..
ما يلفت انتباهي أن رجلا في هيأة متسول يطلب المزيد من الحساء..
"لطالما سمعتُ أن المتسولين يجمعون من المال في أسبوع، ما لا يحصل عليه موظف حكومي في شهر"..
أخيرا يلاحظ النادل يدي ويُقْبل نحوي.. حيث أبدي له اعتراضي على كلّ شيء.. ومع ذلك لا يفقد ابتسامته..
-كيف تذهب وتتركني، قبل أن تعرف ما أريد وما لا أريد؟
- معذرة سيدي..
- ثمّ أشير لك بيدي دون تلتفت إليّ..
- الزحام.. كنت سآتي على كل حال.. كيف أخدمك سيّدي؟
-أنا لم أطلب حليبا، ثمّ أن الخبز قليل..
-حاضر يا سيّدي..
وكالعادة يحمل كأس الحليب من أمامي، ويختفي بسرعة، قبل أن يعود وهو يحمل قطعتيْ خبز، وكأس عصير أحمر لم أتبيّن طبيعته..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. أنا لم أطلب عصيرا يا أخي..
-لا بأس.. "خاطركْ".. هل تريد شيئا آخر بدلا عن الحليب؟
-لا..
لا شيء يشغل بالي الآن غير ثمن هذا الإفطار الذي رجوتُ الله خالصا ألا يكون باهظا جدا..
ألاحظ أنّ الحساء مالح أكثر من العادة.. أنادي النّادل لأبدي اعتراضي مرّة أخرى.. لكنه ينعطف بالحديث في اتجاه آخر..
- أتحب قهوتك بالسّكر أم من غير سكّر؟
"كم هو بارد هذا النادل"..
-من قال لك أني أريد القهوة أصلا؟
- طيّب سيدي.. فهمت..
ثمّ يختفي مجدّدا..
أسرّ لنفسي وأنا أتأمل حجم الناس الذين بدأ يقلّ عددهم..
"تُرى كم يكسبُ صاحب هذا المطعم من مال؟ عشرات وجبات الإفطار كل يوم، تُصرف عليها دراهم معدودة، فتُباع بأضعاف أضعافها.. ناهيك عن كؤوس الشاي وفناجين القهوة على طول الليل في رمضان، وعلى مدار اليوم خارجه؟".
يقطع هذا التأمّل عودة النّادل يحمل إبريق شاي وكأسين..
أستغرب كيف يأتي بما لم أطلبه، لكنني في حاجة فعلا إلى كأس شاي.. ومع ذلك أقرّر ألّا أفوِّت الأمر دون إبداء الملاحظة..
-أنتم تفرضون الطلبات على الزبائن.. لا بأس، سأقبل شايكم مرغما..
وبدون رد يختفي مبتسما من جديد..
أستمرّ في تأمّل كل شيء في هذا المطعم الأنيق وأنا أتناول الإفطار على مهل، في انتظار أن يستعيد الشارع حيويته وأمنه ..
كم هو منعش عصير البرتقال بعد هذه الوجبة..
الآن، لم يبق غير المناداة على النادل من أجل الحساب.. أتلمّس جيبي وأنا أتوقّع ثمنا باهظا..
أشير إلى النادل، فيُقْبِل بسرعة هذه المرّة.. أسأله..
-الحساب لو سمحت؟
فيجيب بابتسامته المعهودة:
-كلّا يا سيّدي.. نحن هنا نُفْطِرُ الصّائمَ مجّانا..