المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحبّ الأعرج



سعيد أبو نعسة
12-11-2006, 02:30 PM
الحبّ الأعرج

اعتلت سدة الهرم
تنصب أهدابها صوب المطلق ، تناجيه ،وتغرف من ينبوع سحره نورا يضيء ظلمة الطريق
يقيها العثرات، يؤنسها في وحدتها، يشد من أزرها،ويعينها على نوائب الدهر .
نور عجيب رافقها أنّى ذهبت و حيثما حلّت.
كل يوم تسأل نفسها هذا السؤال: كيف يمخر البشر عباب هذا النور ، يكنزون من عطائه، ثم يمضون عنه غافلين ؟!
تبحث عن فارس الأحلام ، تروح تستقصي ويجهدها المسير، تسخّر المنطق و الفلسفة علّ النّـور يسعفها بمقياس دقيق .
تسألها عن مواصفات فتاها ، فتجيب: أبحث عن ( الإنسان )
- وهذه الملايين من الذكور؟!
- زيتهم لا يضئ !! أية قيمة لمخلوق همّه الأوحد إشباع رغبات مخارج جسده!!
- أنتِ تبحثين عن صورة طبق الأصل لذاتِكِ !!ما رأيُك اذاً بالاستنساخ؟!
- ليس الأمر بهذه السذاجة؛ لقد جاهدتُ و أتلفتُ عيوني بحثا عن خيط يشد عرى الوجود
ورحت أرتقي مدارج السالكين بصبر و أناة حتى كُشف لي الغطاء وشعّ النور في داخلي
وهكذا، فالأمر متاح ! لست في عجلة من أمري ، فالزواج ائتلاف أرواح لا التقاء أجساد
ابتكرتْ تعريفات نهائية لا تقبل النقاش لكل المفاهيم وحددت الأسماء كلها فيما يشبه نظرية فلسفية خاصة آمنت بها ، و ملأت عليها كيانا ضجّ سعادة وحبورا، رضى و قناعة ، و أَترعت حياتها بالعمل و التأمل ، الدراسة و الراحة، ووسمت طبعها بالعناد و التحدي .
وتولت عيناها الذابلتان ترجمة ما يعتلج في صدرها من مشاعر إنسانية فياضة طبعت قسماتها ببسمة عذوب و أفترت عن نظرة عميقة الأغوار ترصد باتساعها حركة الكون وبخضرتها نسغ الحياة ، و ترفد نظريتها الفلسفية بالدليل تلو الدليل على صحتها و شموليتها في تضافر مبادئ الحق و الخير و الجمال في العمل من أجل سعادة الإنسان .
أطلق الفكر حرّيتها فتخلّصت من قيود العبودية و نضت عنها أسمال التحجّر و التطرف وأقنعة الرياء الاجتماعي ، و عقدت صداقة متينة مع كل ذي روح ، بشرا كان أم حيوانا أم نباتا .
تغدو في مشيتها أقرب إلى الرقص وهي تقفز كحجل صغير . و تختار من الثياب ما لا يعيق الحركة ولا يحدّ السرعة ولا يظهرها بمظهر أنثوي ضعيف خانع ، منقاد تابع .
تنضح الأنوثة الشامخة و الأمومة السامقة من أسلوبها في التعليم ومن جرس كلماتها المنتقاة بدقّة و إحكام ، فلا تجد أمامها سبيلا لك غير الاقتناع .
تفعل في العلن ما (تتوشوش) النسوة عليه في السر ، و لا تأتي من السلوك ما يشين ولا من الخطأ ما يهين .
تعرف نفسها حق المعرفة فليس يعيبها عصبية مزاجها وهي تصطدم بتيار من العلائق البشرية الحذرة ، و المكر و الخبث المستشري بين جمهور الممثلين الفاشلين على مسرح الحياة .
مفهوم واحد لم يتسنّ " لنور" أن ترسم حدوده وتتصور أبعاده التي لا تتضح إلا بالتجربة
ذاك هو ( الحب ) ، كعاطفة تولّد تيارا من التواصل بين الرجل و المرأة.
استخلصت من التجارب التي اطلعت عليها زيف ادعاءات المحبين حين يصبح الحب لديهم قناعا يشفّ عما تحته من الأنانية و الرغبة بامتلاك الآخر و اللهفة الجنسية الجامحة ، دون امتداده إلى العزف على أوتار الروح . لكنها في المقابل ترفض الاعتراف بعقد زواج لا يكتب بمداد القلب ، و لا يمهر بالدموع ، ولا ترقص كلماته على وقع أنغام حرفين صغيرين شكلاً
عظيمين فعلاً هما ( الحاء و الباء )
لا تعترف بحب يبعث منذ النظرة الأولى إن لم تتكاتف الثقافة و العلم و المعرفة و الاختبار والسلوك اليومي في تشكيل بنائه لبنة لبنة في رحلة متأنية مع الخيال و التحليل والتأويل رغم أنه يولد بمحض الصدفة ويشرق نتيجة استشراف سهمين من نور يهيمان في الفضاء و يندر أن يجود الزمان بلقائهما ، لذا فقد أرسلت عيون قلبها و قرون استشعارها في كل مكان وطئته قدماها ، حتى أنها كانت تقود سيارتها بعين واحدة بعد أن خصصت عينها الأخرى لالتقاط ذاك الشعاع .
قابلَتْه ذات صباح رائق جميل يقود سيارته أيضا بعين واحدة حيث أفسح لها الطريق بأدب رصين و بسمة واثقة نمّت عن الخيط الأول من خيوط الفجر .
توقف السائقان بعيد مسافة و رحل كل منهما في دهاليز ( لاوَعْيِـِه ) للتمتع بمشهد اتحاد الشعاعين ( الحاء و الباء ) . تنهّدا من بعيد على أمل اللقاء الثاني .
و انهمكت ملائكة الحب في ابتداع أساليب الجمع بين القلبين ، فتكرر رصد العيون وتبادل البسمات و التحيات الخرساء ، و قامت أضواء السيارتين بعملية الغمز نيابة عن العيون فلا سنّهما يسمح و قد تجاوزا عتبة الثلاثين و لا عقمت الألسنة
كان ملاكه شجاعا و يعلم علم اليقين أن حياء المرأة يمنعها من اتخاذ الخطوة الأولى
ألقى في روع ( س) أن يجهّز رسالة شاعرية بانتظار أول فرصة للتعارف ، و استهل رسالته بهذه الأبيات : لماذا أكتب اليكِ ؛ أسألُ نفسي ؟! أم أسألكِ؟!
إن كنت أسألك فما يدريكِ أو كنت أسألني ، فما يعنيك ؟!!
قادها ملاكها إلى إنجاز معاملة في مؤسسة قريبة من مكان عمل (س)
و انبرى ملاكه يحثه على الإقدام و (س) يستجمع جرأته و يجلد لسانه كي يهدأ ولا يتلعثم حين يواجهها . وقف أمامها كالطود ملقيا التحية ، فما كان منها إلا أن ترجّـلت من وراء المقود و صافحته مصافحة العارف ذي الشخصية العصامية القوية ، و طار لـبّه حيث كانت البادئة بسؤاله عن اسمه مما أهرق السكينة في نفسه وساعده على تسليمها قصيدته الأولى ، و غاب في شعاب المدينة شطرا من الوقت ، ليجدها في انتظاره أمام مقر عمله ، سعت إليه قائلة :
" لو لم تكن رسالتك شعراً لما وافقت على الاحتفاظ بها "
استضافها لحظة كانت كافية للتعارف ، و تواعدا على تكرار اللقاءات حسب الظروف .
سأل ( س) نفسه : لماذا يطرق الحب بابي وأنا على مشارف خريف العمر ؟
هل تراه يحمل بشائر سعادة افتقدتها مع أم أولادي ؟
أويضحك الدهر لي بعد أن جرّعني كؤوس الإملال و أظهر منّي شقي الحيواني فيما مضى من سالف الأيام ؟
صار (س) إنسانا بعد أن غزاه النور ، فخطّ لها رسالته الثانية و قال في الختام :
قبل أن ألقاكِ ، كنتُ شيئا ساكنا
لكنني بعد أن قابلتكِ ، يا أنتِ
صرت أنا
تابعها كظلّها ، فعل مراهق حرم الحب و الحنان ، و تدفق شعره مشحونا بعاطفة جياشة ومشاعر صادقة ، و قام يختلق المناسبات للقائها و إغراقها بالقصائد .
كبّـلها هذا الحب المفاجئ و أعاد خلط الأوراق في ذهنها ، و غامت الرؤية أمامها وراحت تقـلّب الأمر على وجوهه في جوٍ متشنّج تحكمه ظروف الولهان (س) و ظروفها الشخصية وكلام الناس ، و الخوف من المستقبل المجهول ، و تساؤلات لا حصر لها .
خاف (س) من الإبحار في الظلام إذا أفل الشعاع ، فصارحها بحبّه ، تاركاً لها حريّة القرار
بل ولج دارها ذات يومٍ محتجا بكتاب قد ينفعها في تحضير رسالة الماجستير ، خطوة ، رآها
(س) ضرورية للتعرف إلى عائلتها ، و قرأتها (نور) بمنظار آخر هو التسرع .
هل ترفض(نور)الحب للحب،و لا تؤمن بحب لا يفضي إلى الزواج ؟ أم العكس هو الصحيح؟
وأي زواج هذا الذي تصبح معه ضرّة مرّة ، تلوكها الألسن و تقذفها سهام أطفال (س) ؟** عاهدته على اللقاء وواعدته جانب الأماكن العامة ، و سهرت مثله الليالي ، و ناجت القمر ، و ربما ذرفت دموعا حرّى وهي تحتضن وسادتها الخالية كما فعلَ . لكن هذا شئ و الزواج شئ آخر تماما

سنة ؛ سنتان و الأمر على حاله من المراوحة ، و اختلاق الأعذار و التفكير الممل
قال لها :( الحب جذوة ملتهبة وقودها الشوق و الآهات ، الوصل و اللقاءات ؛ تيار كهربائي قطباه موجبان إذ لا مكان للسلبية مع الحب و إلا صار حباً أعرج مآله دارالمعوقين )
أنزلها هذا الحب من برجها الحالم و غمسها في حمأة اليومي المُعاش ،غبّش أحلامها الوردية وعكّر صفاءها النفسي ، فانقلبت حالها إلى ما يشبه( الفصام ) ، و ندّت عنها تصرّفات غير مفهومة و عبارات غير مبررة ، لم يجد (س) إزاءها إلا التحلي بالصبر و التحمل باحثا لها عن أسباب تخفيفية
كان متأكدا من أمر واحد ، انه يحبها حباً جما**ً، و أنها تحبه ، لكن عقبات كثيرة تحول بينها و بين التصريح بحبها له .
كانت من الرفعة الإنسانية بحيث لا يقف اختلاف مذهبه الديني عن مذهبها ، و جنسيّته الفلسطينية المغايرة لجنسيتها اللبنانية حائلا دون اكتمال قصة الحب .
هل كانت تخضعه لاختبارات تلجأ المرأة إليها دائما لسبر حب الرجل و مدى تعلّقه بها ؟
فرغم أنه تخطّى الامتحان بنجاح باهر نال رضاها و جعلها تمنحه درجة كاملة إلا أنها بخلت بتقديم هديّة النجاح إليه ؛ كلمة أحبك **
عذّبه هذا الحب ، فلا هو فاز بثمرة نضاله ولا احتفظ بماء وجهه أمام عياله .
كان مستعداً أن يرحل معها خلف النجوم وأن يفرد لها في قلبه مكان الصدارة جنبا إلى جنب مع أولاده ، و أن يعيش معها في عشٍ منفصل يتردد في جنباته تغريدهما ، لكنها نصحَته على
الدوام بالتريث و الانتظار .
لم يكن (س) أول رجل تخضعه (نور) للإمتحان ، لكنه كان الفائز الوحيد .
وهذا ما قضّ مضجعها و أدخلها في غيبوبة القلق ، و شلّ قدرتها على اتخاذ القرار .
الإنتظار هو خيار (س) الوحيد بعد أن ألقى في حضرتها أوراقه كاملة .
ولم يكن أمام (نور) إلا الهرب إلى الأمام و الانشغال بالعمل و العمل ، تعويضا عن التأمل الذي افتقدته و السعادة العرجاء ، و الحظ الذي أخرج لسانه في وجهها .
جرّت أذيال الخيبة منهوكة محطمة و حاولت أن تقفز صعودا إلى قمة الهرم ، بيد أنها عجزت وراحت تدبّ دبيبا ، ناصبةً عينا على المستقبل القاتم ، و أخرى على شعاع حبيب لمس شغاف قلبها و أنار الجزء المعتم من كيانها ، و دسّ في نفسها خوفا ما كانت تعرفه يوماً**.
حاولت التمرغ بين أحضان الطبيعة و معانقة الأشجار ، و الحيوانات الأليفة كدأبها فيما مضى
لولا أن أشاحت هذه المخلوقات عنها و لسان حالها يقول :
(من يرفض النور لا حاجة له بالعيون)

أيقنت أنها لم تعد اسما على مسمى ، وأنها لا تنظر إلى أبعد من موطئ قدمها ، رغم أنها عطشى و الماء وفير يحمله على بعد أمتار قليلة رجل اسمه(س)
كان بودها لو تملك الشجاعة وتتحدى الكون لتبوح له بحبها وتحقق اتحاد النور وتكمل دورة الزمان ،لكنها ولّت وجهها شطر القمة .
وحين تربعت لاهثة على صهوة الهرم ، سألها ملاكها : ماذا فعلتِ؟؟
زفرت زفرة عميقة وقالت بحسرة : وجدته ؛ و لكن ......
===============

مجدي محمود جعفر
12-11-2006, 03:00 PM
الكاتب الجميل / سعيد أبو نعسة
( الحب الأعرج ) من القصص اللافتة والتي عالجت الحب من زاوية جديدة ورؤية عميقة وكشفت عن جانب مهم من حياة رجل وحياة امرأة ظل مسكوتا عنه طويلا ، فالنفس البشرية تنطوي على أسرار لايكشف عنها إلا الشاعر أو الأديب الموهوب ، وقد سبرت غور نفس البطلة ونفس البطل وأبنت بجلاء عن حالة إنسانية ، حالة من حالات الحب الذي يأتي في المكان الخطأ والزمان الخطأ ، وأظن أن القصة تحتاج إلى عودة أخرى وهذا ما أنتويه - مررت فقط للتحية

رضا ابراهيم
12-11-2006, 03:48 PM
كما قال الأخ مجدي فإن قدومي كان للقراءة وضرب التحية لأعود لقراءة هذه الدرة على مهل
تسجيل الإعجاب كان ضرورة سيدي
أختك رضا

سحر الليالي
12-11-2006, 11:46 PM
للله ما أروع القصة!!!!

بحق أعجبتني جدا

أستاذي العزي سعيد:

سلم قلمك ونبضك أيها الكبير

قصة رائعة ومؤثرة حد البكاء

تقبل خالص إحترامي وتقديري وباقة ورد

عبدالرحيم الحمصي
13-11-2006, 01:13 AM
العزيز سعيد ابو نعسة ،،
اعتبر هذا النوع السردي من قصص الواقع
او شبهه الى حد كبير الا ان الملفت فيه هنا
انك وظفت جمالية القول الابداعي باسلوب
سلس منساب من قلم يجيد حبكة التطويع اللفظي
سلم قلمك ايها القاص الجميل ،،،
عبدالرحيم الحمصي

زاهية
13-11-2006, 07:21 AM
حكاية شدتني من الألف إلى الياء دون ملل أتعرف لماذا؟
لأنها حقيقة من صلب الواقع , فأنا أعرف من حاملات النور هذا
من يعلقن بمثل بطلنا هذا, ويرجعن بخفي حنين, وهن في حقيقة
الأمر مسكينات أدعو الله أن يفرِّج عنهن, ويرزقهن الزوج
الصالح الذي يريح بالهن لازوجا له من المسؤوليات مايزيدها
تعبا..تذكرت ماينشر غي الصحف والمجلات بين
قوسين (س) وكأنها فضيحة أتراها كذلك؟
دمت مبدعًا تفتح للعقول منافذ ضياء:0014:
أختك
بنت البحر

خليل حلاوجي
13-11-2006, 08:57 AM
أبحث عن ( الإنسان )


\

هذا النص يحمل دلالة عميقة
وهو نص خرج فيه قاصنا المتألق عن رمزيته المعهودة

وضع الحروف موضع الدواء وهو يشرح لنا قصة عقمنا

حين باغتنا القساة وسرقوا انسانيتنا من انساننا

ومسكين هو حرفنا حين يبكي الدماء للابرياء فوق ارصفتنا

والحرف والله .... شرياننا

\

أجدت وابدعت .... أيها السامق

سعيد أبو نعسة
13-11-2006, 06:31 PM
أديبنا الكبير مجدي محمود جعفر
الأخت رضا ابراهيم
الأخت سحر الليالي
الأخ عبد الرحيم حمصي
الأخت زاهية
الأخ خليل حلاوجي
=========
أعتز بآرائكم كثيرا و بقراءتكم المتأنية الواعية
لطالما قلت : القارئ الواعي هو الوجه الآخر لعملة نادرة اسمها الإبداع
أعتذر عن الرد الجماعي بسبب ضيق الوقت
دمتم في خير و عطاء