حسنية تدركيت
28-10-2007, 01:50 AM
فهذه سلسلة تراجم بعض العلماء , والمحدثين من هذه الأمة , التي حباها الله مجدا وعلوا إلى قيام الساعة..نركز فيها على الجوانب الخاصة والعامة من حياة هؤلاء العلماء ؛ من صفات وأخلاق وآداب وعلم ودين وعبادة , فما أحوجنا إليها في هذه الأزمان , فلا عود لعزٍ ومجد لما كانت عليه هذه الأمة ؛ إلا بالرجوعِ لما كان عليه الأول من هذه الصفات , وإحياء ما مات من هذه الخلال .
فإن سير هؤلاء ظلت غائبة عند كثير من المسلمين , فضلا عن غيرهم ممن لا ينتسبون لهذا الدين , فظل المشعل الهادي للحيارى منطفئا , ينتظر من يشعله ليضيء الطريق . فإن الناس ملّوا سماع الكلام , الكل يريد الآن أن يرى واقعا لهذا الدين , كما كان واقعا عند هؤلاء العلماء ومن تابعهم من المسلمين , قائما قد اختلط بقلوبهم وعقولهم , وامتزج باللّحم والعَصب , لقد كانت أنفاسهم لله وحركاتهم لله وسكناتهم لله . إن تكلموا فكلامهم لله , وإن سكتوا فسكوتهم لله . أناروا الدنيا بدينهم وعلمهم وعباداتهم وعملهم , فإن نظرت في سلوكهم وأخلاقهم , قلت هذه آداب وأخلاق الأنبياء , وإن قرأت عن بيعهم وشرائهم وتعاملهم مع الناس , رأيت ترجمة لكتاب الله , وواقعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونبدأ بسيرة [سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ] هذا العلم الشامخ ، والضوء اللامع الذي أنار الدنيا في زمانه علما وعملا , وأحيا ما غاب واندثر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , والذي تبوء في قلوب المسلمين مكانة لا يبلغ النجم مداها ؛ رغم هروبه من الشهرة والمنصب والجاه , إلا أن القلوب كانت تنشده وتهواه , والكل كان يتمنى أن يقترب منه ويراه .
اسمه ونسبه ومولده :
هو : أبو عبد الله سفيان الثوري - ينسب لثور مُضَر لا إلى ثور همدان - الكوفي الفقيه , أمير المؤمنين في الحديث .
مولده :
قال الذهبي : ولد سنة سبعٍ وتسعين اتفاقا .
شيوخه وطلابه :
لو تأملنا العصر الذي نشأ فيه سفيان لوجدنا ازدهارا في العلم ؛ وخاصة العلوم الشرعية , فقد كان الخلفاء يَحُثُّون على ذلك ويَحُضُّون عليه , ويشجعون العلماء وطلبة العلم , وربما بذلوا الجهد في التقرب إليهم , وطلب الرضى منهم , وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس .
فهذا العصر برع فيه العلماء ؛ وانتشروا بين الأمصار يعلمون الناس وينشرون ما عندهم من علم ودين , وكان لا يعترضهم أحد ، فكان لهذا الأثر في كثرة العلماء وطلاب العلم , ومن ثَمّ نجد أن شيوخ سفيان كُثْرٌ وكذلك طلابه , ربما يعجز المرء عن إحصائهم .
شيوخه :
لقد كان سفيان رحمه الله رُحَلَة في طلب العلم , لا يسمع بشيخ في أطراف الأرض إلا ورحل إليه , ساعده على ذلك خِفْةُ الظَّهْر وعدم الشاغل .
فعن حميد بن الأسود قال : قال لي سفيان تجيء حتى نخرج إلى يونس ابن يزيد الأيلي فقلت له : أنت فارغ , وأنا علي عيال .
وقد ساق بعضهم الذهبي في السير , ورتبهم على حسب المعجم فمنهم :
الأسود بن قيس , وأشعث بن أبي الشعثاء , وأيوب السختياني , وبَهْزُ بن حكيم , وثور بن يزيد , وجامع بن شداد , وحبيب بن أبي ثابت وهو من كبار شيوخه , وحُميد الطويل , وخالد الحذّاء , ورَبيعة الرأي , وزياد بن عِلاقة وهو من كبار مشيخته , وأبو حازم : سلمة بن دينار , وسلمة بن كُهيل وهو من كبارهم , وسليمان الأعمش , وسليمان التيمي , وعاصم الأحول , وعبد الله بن سعيد المقبري , وعبد الله بن عون ، وعطاء بن السائب , وعكرمة بن عمار , وعمرو بن دينار , ومحمد بن المنكدر وهو من كبارهم , وهشام ابن عُروة , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وأبو إسحاق السَّبيعي . ويقال إن عدد شيوخه ست مائة شيخ . وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله وابن عباس و أمثالهم .
تلاميذه :
فهم خلق عظيم أيضا ؛ حتى ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفا . وتعقبه الذهبي بقوله : وهذا مدفوع ممنوع , فإن بلغوا ألفا فبالجهد . وما علمت أحدا من الحفاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك , وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين ألفا وأربع مائة .
وقد حدّث عنه جماعة من مشيخته وغيرهم خلق , منهم : الأعمش , وأبان بن تغلب , وابن عجلان , وخصيف , وابن جريج , وجعفر الصادق , وجعفر بن برقان , وأبو حنيفة , والأوزاعي , ومعاوية بن صالح , وابن أبي ذئب , ومِسْعر , وشعبة , ومعمر , وكلهم ماتوا قبله .
أصحُّ أسانيدِ الثوري .
فأصح الأسانيد عن ابن مسعود رضي الله عنه : سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود .
وقيل أصح الأسانيد إلى عائشة رضي الله عنها : سفيان الثوري عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة .
وقال الإمام أحمد : ليس بالكوفة أصح من هذا الإسناد : يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان الأعمش عن الحارث بن سويد عن علي رضي الله عنه .
سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وإليك بعض أقوال أهل العلم منها :
ما قال شُعبة , وابن عيينة , وأبو عاصم , ويحيى بن معين , وغيرهم : سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث .
وعن شعبة قال : ساد سفيان الناس بالورع والعلم .
وقال أيضا : سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وقال ابن المبارك : كتبت عن ألفٍ ومائة شيخ , ما كتبت عن أفضل من سفيان .
وقال أيضا : ما نُعِتَ لي أحدٌ فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري .
وعن إبراهيم بن محمد الشافعي قال : قلت لعبد الله بن المبارك : رَأَيْتَ مثل سفيان الثوري , فقال : وهل رأى سفيانُ الثوري مثلَ نفسه .
عن أبي داود قال : قدمت المسجد الحرام فرأيت حلقة نحوا خمسمائة - أقل أو أكثر - ورجل في وسطها نائم , قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا أمير المؤمنين , هذا سفيان الثوري , فرأيت رأسه في حجر زائدة , ورأيت رجله في حجر سفيان بن عيينة , ورأيت رجله الأخرى في حجر زهير , قلت : ما له ؟ قالوا : أصابته مَلِيلة -يعني حُمى .
سفيان آية في زمانه .
وقال ورْقاء وجماعة :لم ير سفيان الثوري مثل نفسه .
وعن شعيب بن حرب قال : إني لأحسب أنه يجاء غدا بسفيان حجة من الله على خلقه . يقول لهم : لم تدركوا نبيكم ؛ قد رأيتم سفيان .
قال ابن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه , والشعبي في زمانه , والثوري في زمانه .
قال علي بن المديني : لا أعلم سفيان صحَّف في شيءٍ قط , إلا في اسم امرأةِ أبي عبيدة , كان يقول : حُفَيْنَة , الصّواب : جُفَيْنَة -بِجِيمٍ .
وروى المرُّوذِيّ , عن أحمد بن حنبل قال : أتدري من الإمام ؟ الإمام سفيان الثوري , لا يتقدمه أحد في قلبي .
وعن ابن عيينة : جالست عبد الرحمن بن القاسم , وصفوان بن سليم , وزيد بن أسلم , فما رأيت فيهم مثل سفيان .
عقيدته ومنهجه :
كان رحمه الله على عقيدة أهل السنة والجماعة , متبعا للأثر ناصحا للأمة , قائما بالحق , ولقد منَّ الله على سفيان في أول الطَّلب برجلين من أشدِّ الناسِ موافقة للحق واتباعا للسنة ؛ وهما أيوب السَّختياني , وعبد الله بن عَوْن ، فأخذا بيده وأقاماه علي عقيدة أهل السنة والجماعة , خلافا لما كان عليه شيعته وعشيرته بالكوفة .
فعن زيد بن الحباب قال : خرج سفيان إلى أيوب , وابن عون , فترك التَّشَيُّع .
وكان دائمَ الثناءِ عليهما رحمه الله .
وقيل أيضا يونس وسليمان التيمي .
فعن يحيى بن يمان قال : قال سفيان الثوري
كانت الخشبية([1]) قد أفسدوني , حتى أنقذني الله بأربعة لم أرى مثلهم , أيوب ويونس وابن عون وسليمان التيمي الذين يرون أنه لا يحسن أن يُعصى الله .
وكذلك هو رحمه الله كان له فضلٌ ومنة على طُلَّابهِ في اتباع عقيدة السَّلف ، فقد كان سببا في إنقاذ الأمام يوسف بن أسباط من ضلالتينِ !! القدر والرفض ، وظلّ بعد ملازما لسفيان كظله 0
قال يوسف بن أسباط : كان أبي قَدَريا ، وأخوالي روافض ، فأنقذني الله تعالى بسفيان .
اتباعه للسلف .
وكان مُتَّبعا لمنهج السلف في الاعتقاد , والأقوال , والأفعال :
قال أبو نعيم : سمعت سفيان يقول : الإيمان يزيد وينقص .
وعن ابن المبارك أنه سمع سفيان يقول : من زعم أنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص 112/1] مخلوق فقد كفر بالله .
وعن عبد الرزاق قال : سمعت مالكا والأوزاعي وابن جريج والثوري ومعمرا يقولون : الإيمان قول وعمل , يزيد وينقص .
وقال معدان : سألت الثوري عن قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }؟ [سورة الحديد 57/4] قال : عِلْمه .
قال محمد بن يوسف الفريابي : سمعت سفيان يقول : إن قوما يقولون لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيرا , ولكن علي أولى بالخلافة منهما . فمن قال ذلك ؛ فقد خطَّأ أبا بكر وعمر , وعليا , والمهاجرين , والأنصار , ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء ؟!.
قال عبد العزيز بن أبان : سمعت الثوري يقول : من قدَّم على أبي بكر وعمر أحدا , فقد أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , توفي رسول الله وهو عنهم راض .
قال عطاء بن مسلم : قال لي الثوري : إذا كنت بالشّام , فاذكر مناقب علي , وإذا كنت بالكوفة , فاذكر مناقب أبي بكر وعمر .
حفظه وسيلان ذهنه :
كان سفيان رحمه الله قد حباه الله ملكة عظيمة في الحفظ , حتى كان موضع دهشٍ من شيوخه وأقرانه , بل بمجرد ورود الكلام على أُذنه يعلق به .
قال عبد الرزاق وغيره , عن سفيان : ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني .
وعن يحيى بن يمان قال : سمعت سفيان الثوري يقول : ما استودعت أذني شيئا قط إلا حفظته , حتى أني أمر بكذا -كلمة قالها - فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول .
وقال : أمرُّ بالحائكِ يغني فأسدُّ أذني .
قال ابن المبارك : كنت إذا أعياني الشيء , أتيت سفيان أسأله , فكأنما اغتمسه من بحر .
قال مهران الرازي : كتبت عن سفيان الثوري أصنافه , فضاع مني كتابُ الدّيات , فذكرت ذلك له , فقال إذا وجدتني خاليا فاذكر لي حتى أُمْلِه عليك , فحجَّ فلما دخل مكة , طاف بالبيت وسعى , ثم اضطجع , فذكَّرته فجعل يُمْلي عليَّ الكتاب , بابا في إثر باب , حتى أملاه جميعه من حفظه .
قال الأشجعي : سمعت من الثوري ثلاثين ألف حديث .
أثر العبادة على حفظه .
فالعبادة والزهد غالبا يُؤَثِّران على طبيعة الشخص وحفظه وذكائه , وقد تغير جماعة من العلماء بسبب غلبة العبادة , ورغم كثرة عبادته وزهده رحمه الله ؛ لم يُؤثر ذلك في حفظه وروايته للحديث ، بل لقب بأمير المؤمنين في الحديث , بل بإمام الدنيا في زمانه .
قال يحيى بن سعيد القطان : كان سفيان الثوري ؛ ما شئت من صلاة وقراءة , فإذا جاء الحديث فكأنه ليس الذي كان .
وكيف بقولِ أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج وهو يقول : سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وقول ابن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه , والشعبي في زمانه , والثوري في زمانه .
العلم أفضل من مُلك الدنيا .
فطلب الكفاية من العيش للانشغال بالعلم أولى من الانهماك في الدنيا والانشغال بها , فالدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة , فمن يسر الله له سبل العيش ورُزق العلم النافع فهذا خير له من مُلك الدنيا .
قال سفيان رحمه الله : لما أردت أن أطلب العلم ؛ قلت : يا رب إنه لا بد لي من معيشة , ورأيت العلم يدرس , فقلت : أفرغ نفسي لطلبه .
قال : فسألت ربي الكفاية والتشاغل لطلب العلم , فما رأيت إلا ما أُحب إلى يومي هذا .
وعن وكيع قال : رأيت سفيان الثوري أملى على رجل شيئا ؛ فقال : هذا خير لك من ولايتك الرَّي .
وعن ضمرة بن ربيعة قال : كان سفيان ربما حدَّث بعسقلان يبتدئهم يقول : انفجرت العين , انفجرت العين , يعجب من نفسه , وربما حدث الرجل الحديث فيقول له : هذا خير لك من ولايتك عسقلان وصور .
حثُّه على طلب العلم .
وكان رحمه الله يحث على تحصيل العلم , وبيان فضله , والاستفادة منه ؛قبل ضياع العمر وفواته .
فعن زيد ابن أبي الزرقاء قال : خرج سفيان ونحن على بابه نتدارى ([2])في النسخ , فقال : يا معشر الشباب ! تعجلوا بركة هذا العلم ؛ فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه , ليفد بعضكم بعضا .
وعن يوسف بن أسباط قال : سمعت سفيان الثوري يقول : الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم .
وكان رحمه الله شديد الخوف على كتبه من التغيير والتبديل ؛ حتى ربما دفنها خشية عليها من عبث العابثين .
وعن أبي عبد الرحمن الحارثي قال : خاف سفيان شيئا فطرح كتبه , فلما أمِنَ أرسل إليّ , وإلى يزيد بن توبة المرهبي , فقال : أخرجوا الكتب . فدخلنا البئر فجعلنا نخرجها , فأقول : يا أبا عبد الله وفى الرِّكاز الخمس , وهو يضحك فأخرجنا تسع قمطرات([3]) كل واحد إلى ها هنا - وأشار إلى أسفل ثَنْدُوَتِهِ ([4]) قال : فقلت اعْزِلْ كتابا فحدثني به . قال : فعزل لي كتابا فحدثني به
احتساب الولد في طلب العلم .
وربما هون على أهل طالب العلم , بما ينكرونه من حال ولدهم , وانشغاله بالعلم , الذي ربما يحول بين الطعام , والشَّراب , والنوم , فينزعج الأهل من حال ولدهم فيأمرهم باحتسابه .
فعن إبراهيم بن سليمان الزيات قال : كنا عند سفيان الثوري فجاءت امرأة فشكت إليه ابنها , وقالت : يا أبا عبد الله أجيئك به تعظه , فقال : نعم جيئي به . فجاءت به فوعظه سفيان بما شاء الله , فانصرف الفتى , فعادت المرأة بعد ما شاء الله , فقالت : جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله -وذكرت بعض ما تحب من أمر ابنها -ثم جاءت بعد حين , فقالت : يا أبا عبد الله ابني ما ينام الليل , ويصوم النهار , ولا يأكل , ولا يشرب . فقال : ويحك مم ذاك ؟ قالت : يطلب الحديث . فقال : احتسبيه عند الله .
شدة انشغاله بالحديث .
وكان له انشغال عجيب بالحديث ؛ حتى عند سكرات موته رحمه الله .
فعن فرقد إمام مسجد البصرة قال : دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه ؛ فحدثه رجل بحديث فأعجبه ؛ فضرب يده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحا له فكتب ذلك الحديث . فقالوا له : على هذه الحال منك ؟ فقال : إنه حسن , فقد سمعت حسنا , وإن مت فقد كتبت حسنا .
وقال بكر بن خلف , حدثنا مؤمل قال : رأيت سفيان في المنام , فقلت يا أبا عبد الله ! ما وجدت أنفع ؟ قال الحديث .
وكان رحمه الله بنصح من يطلب العلم بالتعفف , والنفقة على نفسه , فإن لم يكن عنده نفقة أوصاه أن يطلب معاشه أولا .
عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي قال : كنا عند سفيان الثوري ، فكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله : هل لك وجه معيشة ؟ فإن أخبره أنه في كفاية من العيش ؛ أمره بطلب العلم ، وإن لم يكن في كفاية ؛ أمره بطلب المعاش أولا .
مكانته في الفقه :
لقد تبوء سفيان مكانة عالية في الفقه حتى أصبح أحد الأئمة المتبوعين ممن يرجع إليهم في الفقه والفتيا .
مكانته في التفسير :
وكان رحمه الله آية في تفسير القرآن , وقد استشهد بأقواله أئمة التفسير , حتى لو تتبع أحدٌ أقواله في التفسير لأخرج مجلدا كاملا , قال عبد الرزاق : سمعت سفيان يقول : سلوني عن القرآن فإني به عالم , وسلوني عن المناسك فإني بها عالم .
كراهيته للشهرة :
وكان رحمه الله لا يحب الشهرة ويخاف منها على نفسه ويهرب ما استطاع .
فعن سفيان بن عيينة قال : قال سفيان الثوري : كنت إذا رأيت الرجال يجتمعون إلى أحد غبطته , فلما ابتليت بها ؛ وددت أني نجوت منهم كفافا لا علي ولا لي .
وعن خلف بن تميم قال : سمعت سفيان الثوري يقول : لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني .
وعن أحمد بن يونس قال : سمعت سفيان يقول : ما رأيت للإنسان شيئا خيرا من أن يدخل في جحر ، قال ابن يونس : اليوم ينبغي أن يدخل في قبر .
قال الثوري رحمه الله :
العلماءُ إذا عَلِموا عَمِلوا ، فإذا عَمِلوا شُغِلوا ، فإذا شُغِلوا فُقِدوا ، فإذا فُقِدوا طُلِبوا ، فإذا طُلِبوا هَرَبوا .
[سنكمل فى المرة القادمة إن شاء الله ، ملخصا من كتاب الشيخ "سفيان الثوري" طبعة دار السلام]
--------------------------------------------------------------------------------
1 - فرقة من الشيعة .
2 - نخفي ونمنع .
3 - القِمَطْر : الصندوق الذي يصان فيه الكتب .
4 - أي اللحم المحيط بالثَّدي .
منقول[/QUOTE]
فإن سير هؤلاء ظلت غائبة عند كثير من المسلمين , فضلا عن غيرهم ممن لا ينتسبون لهذا الدين , فظل المشعل الهادي للحيارى منطفئا , ينتظر من يشعله ليضيء الطريق . فإن الناس ملّوا سماع الكلام , الكل يريد الآن أن يرى واقعا لهذا الدين , كما كان واقعا عند هؤلاء العلماء ومن تابعهم من المسلمين , قائما قد اختلط بقلوبهم وعقولهم , وامتزج باللّحم والعَصب , لقد كانت أنفاسهم لله وحركاتهم لله وسكناتهم لله . إن تكلموا فكلامهم لله , وإن سكتوا فسكوتهم لله . أناروا الدنيا بدينهم وعلمهم وعباداتهم وعملهم , فإن نظرت في سلوكهم وأخلاقهم , قلت هذه آداب وأخلاق الأنبياء , وإن قرأت عن بيعهم وشرائهم وتعاملهم مع الناس , رأيت ترجمة لكتاب الله , وواقعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونبدأ بسيرة [سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ] هذا العلم الشامخ ، والضوء اللامع الذي أنار الدنيا في زمانه علما وعملا , وأحيا ما غاب واندثر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , والذي تبوء في قلوب المسلمين مكانة لا يبلغ النجم مداها ؛ رغم هروبه من الشهرة والمنصب والجاه , إلا أن القلوب كانت تنشده وتهواه , والكل كان يتمنى أن يقترب منه ويراه .
اسمه ونسبه ومولده :
هو : أبو عبد الله سفيان الثوري - ينسب لثور مُضَر لا إلى ثور همدان - الكوفي الفقيه , أمير المؤمنين في الحديث .
مولده :
قال الذهبي : ولد سنة سبعٍ وتسعين اتفاقا .
شيوخه وطلابه :
لو تأملنا العصر الذي نشأ فيه سفيان لوجدنا ازدهارا في العلم ؛ وخاصة العلوم الشرعية , فقد كان الخلفاء يَحُثُّون على ذلك ويَحُضُّون عليه , ويشجعون العلماء وطلبة العلم , وربما بذلوا الجهد في التقرب إليهم , وطلب الرضى منهم , وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس .
فهذا العصر برع فيه العلماء ؛ وانتشروا بين الأمصار يعلمون الناس وينشرون ما عندهم من علم ودين , وكان لا يعترضهم أحد ، فكان لهذا الأثر في كثرة العلماء وطلاب العلم , ومن ثَمّ نجد أن شيوخ سفيان كُثْرٌ وكذلك طلابه , ربما يعجز المرء عن إحصائهم .
شيوخه :
لقد كان سفيان رحمه الله رُحَلَة في طلب العلم , لا يسمع بشيخ في أطراف الأرض إلا ورحل إليه , ساعده على ذلك خِفْةُ الظَّهْر وعدم الشاغل .
فعن حميد بن الأسود قال : قال لي سفيان تجيء حتى نخرج إلى يونس ابن يزيد الأيلي فقلت له : أنت فارغ , وأنا علي عيال .
وقد ساق بعضهم الذهبي في السير , ورتبهم على حسب المعجم فمنهم :
الأسود بن قيس , وأشعث بن أبي الشعثاء , وأيوب السختياني , وبَهْزُ بن حكيم , وثور بن يزيد , وجامع بن شداد , وحبيب بن أبي ثابت وهو من كبار شيوخه , وحُميد الطويل , وخالد الحذّاء , ورَبيعة الرأي , وزياد بن عِلاقة وهو من كبار مشيخته , وأبو حازم : سلمة بن دينار , وسلمة بن كُهيل وهو من كبارهم , وسليمان الأعمش , وسليمان التيمي , وعاصم الأحول , وعبد الله بن سعيد المقبري , وعبد الله بن عون ، وعطاء بن السائب , وعكرمة بن عمار , وعمرو بن دينار , ومحمد بن المنكدر وهو من كبارهم , وهشام ابن عُروة , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وأبو إسحاق السَّبيعي . ويقال إن عدد شيوخه ست مائة شيخ . وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله وابن عباس و أمثالهم .
تلاميذه :
فهم خلق عظيم أيضا ؛ حتى ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفا . وتعقبه الذهبي بقوله : وهذا مدفوع ممنوع , فإن بلغوا ألفا فبالجهد . وما علمت أحدا من الحفاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك , وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين ألفا وأربع مائة .
وقد حدّث عنه جماعة من مشيخته وغيرهم خلق , منهم : الأعمش , وأبان بن تغلب , وابن عجلان , وخصيف , وابن جريج , وجعفر الصادق , وجعفر بن برقان , وأبو حنيفة , والأوزاعي , ومعاوية بن صالح , وابن أبي ذئب , ومِسْعر , وشعبة , ومعمر , وكلهم ماتوا قبله .
أصحُّ أسانيدِ الثوري .
فأصح الأسانيد عن ابن مسعود رضي الله عنه : سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود .
وقيل أصح الأسانيد إلى عائشة رضي الله عنها : سفيان الثوري عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة .
وقال الإمام أحمد : ليس بالكوفة أصح من هذا الإسناد : يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان الأعمش عن الحارث بن سويد عن علي رضي الله عنه .
سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وإليك بعض أقوال أهل العلم منها :
ما قال شُعبة , وابن عيينة , وأبو عاصم , ويحيى بن معين , وغيرهم : سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث .
وعن شعبة قال : ساد سفيان الناس بالورع والعلم .
وقال أيضا : سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وقال ابن المبارك : كتبت عن ألفٍ ومائة شيخ , ما كتبت عن أفضل من سفيان .
وقال أيضا : ما نُعِتَ لي أحدٌ فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري .
وعن إبراهيم بن محمد الشافعي قال : قلت لعبد الله بن المبارك : رَأَيْتَ مثل سفيان الثوري , فقال : وهل رأى سفيانُ الثوري مثلَ نفسه .
عن أبي داود قال : قدمت المسجد الحرام فرأيت حلقة نحوا خمسمائة - أقل أو أكثر - ورجل في وسطها نائم , قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا أمير المؤمنين , هذا سفيان الثوري , فرأيت رأسه في حجر زائدة , ورأيت رجله في حجر سفيان بن عيينة , ورأيت رجله الأخرى في حجر زهير , قلت : ما له ؟ قالوا : أصابته مَلِيلة -يعني حُمى .
سفيان آية في زمانه .
وقال ورْقاء وجماعة :لم ير سفيان الثوري مثل نفسه .
وعن شعيب بن حرب قال : إني لأحسب أنه يجاء غدا بسفيان حجة من الله على خلقه . يقول لهم : لم تدركوا نبيكم ؛ قد رأيتم سفيان .
قال ابن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه , والشعبي في زمانه , والثوري في زمانه .
قال علي بن المديني : لا أعلم سفيان صحَّف في شيءٍ قط , إلا في اسم امرأةِ أبي عبيدة , كان يقول : حُفَيْنَة , الصّواب : جُفَيْنَة -بِجِيمٍ .
وروى المرُّوذِيّ , عن أحمد بن حنبل قال : أتدري من الإمام ؟ الإمام سفيان الثوري , لا يتقدمه أحد في قلبي .
وعن ابن عيينة : جالست عبد الرحمن بن القاسم , وصفوان بن سليم , وزيد بن أسلم , فما رأيت فيهم مثل سفيان .
عقيدته ومنهجه :
كان رحمه الله على عقيدة أهل السنة والجماعة , متبعا للأثر ناصحا للأمة , قائما بالحق , ولقد منَّ الله على سفيان في أول الطَّلب برجلين من أشدِّ الناسِ موافقة للحق واتباعا للسنة ؛ وهما أيوب السَّختياني , وعبد الله بن عَوْن ، فأخذا بيده وأقاماه علي عقيدة أهل السنة والجماعة , خلافا لما كان عليه شيعته وعشيرته بالكوفة .
فعن زيد بن الحباب قال : خرج سفيان إلى أيوب , وابن عون , فترك التَّشَيُّع .
وكان دائمَ الثناءِ عليهما رحمه الله .
وقيل أيضا يونس وسليمان التيمي .
فعن يحيى بن يمان قال : قال سفيان الثوري
كانت الخشبية([1]) قد أفسدوني , حتى أنقذني الله بأربعة لم أرى مثلهم , أيوب ويونس وابن عون وسليمان التيمي الذين يرون أنه لا يحسن أن يُعصى الله .
وكذلك هو رحمه الله كان له فضلٌ ومنة على طُلَّابهِ في اتباع عقيدة السَّلف ، فقد كان سببا في إنقاذ الأمام يوسف بن أسباط من ضلالتينِ !! القدر والرفض ، وظلّ بعد ملازما لسفيان كظله 0
قال يوسف بن أسباط : كان أبي قَدَريا ، وأخوالي روافض ، فأنقذني الله تعالى بسفيان .
اتباعه للسلف .
وكان مُتَّبعا لمنهج السلف في الاعتقاد , والأقوال , والأفعال :
قال أبو نعيم : سمعت سفيان يقول : الإيمان يزيد وينقص .
وعن ابن المبارك أنه سمع سفيان يقول : من زعم أنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص 112/1] مخلوق فقد كفر بالله .
وعن عبد الرزاق قال : سمعت مالكا والأوزاعي وابن جريج والثوري ومعمرا يقولون : الإيمان قول وعمل , يزيد وينقص .
وقال معدان : سألت الثوري عن قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }؟ [سورة الحديد 57/4] قال : عِلْمه .
قال محمد بن يوسف الفريابي : سمعت سفيان يقول : إن قوما يقولون لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيرا , ولكن علي أولى بالخلافة منهما . فمن قال ذلك ؛ فقد خطَّأ أبا بكر وعمر , وعليا , والمهاجرين , والأنصار , ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء ؟!.
قال عبد العزيز بن أبان : سمعت الثوري يقول : من قدَّم على أبي بكر وعمر أحدا , فقد أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , توفي رسول الله وهو عنهم راض .
قال عطاء بن مسلم : قال لي الثوري : إذا كنت بالشّام , فاذكر مناقب علي , وإذا كنت بالكوفة , فاذكر مناقب أبي بكر وعمر .
حفظه وسيلان ذهنه :
كان سفيان رحمه الله قد حباه الله ملكة عظيمة في الحفظ , حتى كان موضع دهشٍ من شيوخه وأقرانه , بل بمجرد ورود الكلام على أُذنه يعلق به .
قال عبد الرزاق وغيره , عن سفيان : ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني .
وعن يحيى بن يمان قال : سمعت سفيان الثوري يقول : ما استودعت أذني شيئا قط إلا حفظته , حتى أني أمر بكذا -كلمة قالها - فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول .
وقال : أمرُّ بالحائكِ يغني فأسدُّ أذني .
قال ابن المبارك : كنت إذا أعياني الشيء , أتيت سفيان أسأله , فكأنما اغتمسه من بحر .
قال مهران الرازي : كتبت عن سفيان الثوري أصنافه , فضاع مني كتابُ الدّيات , فذكرت ذلك له , فقال إذا وجدتني خاليا فاذكر لي حتى أُمْلِه عليك , فحجَّ فلما دخل مكة , طاف بالبيت وسعى , ثم اضطجع , فذكَّرته فجعل يُمْلي عليَّ الكتاب , بابا في إثر باب , حتى أملاه جميعه من حفظه .
قال الأشجعي : سمعت من الثوري ثلاثين ألف حديث .
أثر العبادة على حفظه .
فالعبادة والزهد غالبا يُؤَثِّران على طبيعة الشخص وحفظه وذكائه , وقد تغير جماعة من العلماء بسبب غلبة العبادة , ورغم كثرة عبادته وزهده رحمه الله ؛ لم يُؤثر ذلك في حفظه وروايته للحديث ، بل لقب بأمير المؤمنين في الحديث , بل بإمام الدنيا في زمانه .
قال يحيى بن سعيد القطان : كان سفيان الثوري ؛ ما شئت من صلاة وقراءة , فإذا جاء الحديث فكأنه ليس الذي كان .
وكيف بقولِ أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج وهو يقول : سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
وقول ابن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه , والشعبي في زمانه , والثوري في زمانه .
العلم أفضل من مُلك الدنيا .
فطلب الكفاية من العيش للانشغال بالعلم أولى من الانهماك في الدنيا والانشغال بها , فالدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة , فمن يسر الله له سبل العيش ورُزق العلم النافع فهذا خير له من مُلك الدنيا .
قال سفيان رحمه الله : لما أردت أن أطلب العلم ؛ قلت : يا رب إنه لا بد لي من معيشة , ورأيت العلم يدرس , فقلت : أفرغ نفسي لطلبه .
قال : فسألت ربي الكفاية والتشاغل لطلب العلم , فما رأيت إلا ما أُحب إلى يومي هذا .
وعن وكيع قال : رأيت سفيان الثوري أملى على رجل شيئا ؛ فقال : هذا خير لك من ولايتك الرَّي .
وعن ضمرة بن ربيعة قال : كان سفيان ربما حدَّث بعسقلان يبتدئهم يقول : انفجرت العين , انفجرت العين , يعجب من نفسه , وربما حدث الرجل الحديث فيقول له : هذا خير لك من ولايتك عسقلان وصور .
حثُّه على طلب العلم .
وكان رحمه الله يحث على تحصيل العلم , وبيان فضله , والاستفادة منه ؛قبل ضياع العمر وفواته .
فعن زيد ابن أبي الزرقاء قال : خرج سفيان ونحن على بابه نتدارى ([2])في النسخ , فقال : يا معشر الشباب ! تعجلوا بركة هذا العلم ؛ فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه , ليفد بعضكم بعضا .
وعن يوسف بن أسباط قال : سمعت سفيان الثوري يقول : الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم .
وكان رحمه الله شديد الخوف على كتبه من التغيير والتبديل ؛ حتى ربما دفنها خشية عليها من عبث العابثين .
وعن أبي عبد الرحمن الحارثي قال : خاف سفيان شيئا فطرح كتبه , فلما أمِنَ أرسل إليّ , وإلى يزيد بن توبة المرهبي , فقال : أخرجوا الكتب . فدخلنا البئر فجعلنا نخرجها , فأقول : يا أبا عبد الله وفى الرِّكاز الخمس , وهو يضحك فأخرجنا تسع قمطرات([3]) كل واحد إلى ها هنا - وأشار إلى أسفل ثَنْدُوَتِهِ ([4]) قال : فقلت اعْزِلْ كتابا فحدثني به . قال : فعزل لي كتابا فحدثني به
احتساب الولد في طلب العلم .
وربما هون على أهل طالب العلم , بما ينكرونه من حال ولدهم , وانشغاله بالعلم , الذي ربما يحول بين الطعام , والشَّراب , والنوم , فينزعج الأهل من حال ولدهم فيأمرهم باحتسابه .
فعن إبراهيم بن سليمان الزيات قال : كنا عند سفيان الثوري فجاءت امرأة فشكت إليه ابنها , وقالت : يا أبا عبد الله أجيئك به تعظه , فقال : نعم جيئي به . فجاءت به فوعظه سفيان بما شاء الله , فانصرف الفتى , فعادت المرأة بعد ما شاء الله , فقالت : جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله -وذكرت بعض ما تحب من أمر ابنها -ثم جاءت بعد حين , فقالت : يا أبا عبد الله ابني ما ينام الليل , ويصوم النهار , ولا يأكل , ولا يشرب . فقال : ويحك مم ذاك ؟ قالت : يطلب الحديث . فقال : احتسبيه عند الله .
شدة انشغاله بالحديث .
وكان له انشغال عجيب بالحديث ؛ حتى عند سكرات موته رحمه الله .
فعن فرقد إمام مسجد البصرة قال : دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه ؛ فحدثه رجل بحديث فأعجبه ؛ فضرب يده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحا له فكتب ذلك الحديث . فقالوا له : على هذه الحال منك ؟ فقال : إنه حسن , فقد سمعت حسنا , وإن مت فقد كتبت حسنا .
وقال بكر بن خلف , حدثنا مؤمل قال : رأيت سفيان في المنام , فقلت يا أبا عبد الله ! ما وجدت أنفع ؟ قال الحديث .
وكان رحمه الله بنصح من يطلب العلم بالتعفف , والنفقة على نفسه , فإن لم يكن عنده نفقة أوصاه أن يطلب معاشه أولا .
عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي قال : كنا عند سفيان الثوري ، فكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله : هل لك وجه معيشة ؟ فإن أخبره أنه في كفاية من العيش ؛ أمره بطلب العلم ، وإن لم يكن في كفاية ؛ أمره بطلب المعاش أولا .
مكانته في الفقه :
لقد تبوء سفيان مكانة عالية في الفقه حتى أصبح أحد الأئمة المتبوعين ممن يرجع إليهم في الفقه والفتيا .
مكانته في التفسير :
وكان رحمه الله آية في تفسير القرآن , وقد استشهد بأقواله أئمة التفسير , حتى لو تتبع أحدٌ أقواله في التفسير لأخرج مجلدا كاملا , قال عبد الرزاق : سمعت سفيان يقول : سلوني عن القرآن فإني به عالم , وسلوني عن المناسك فإني بها عالم .
كراهيته للشهرة :
وكان رحمه الله لا يحب الشهرة ويخاف منها على نفسه ويهرب ما استطاع .
فعن سفيان بن عيينة قال : قال سفيان الثوري : كنت إذا رأيت الرجال يجتمعون إلى أحد غبطته , فلما ابتليت بها ؛ وددت أني نجوت منهم كفافا لا علي ولا لي .
وعن خلف بن تميم قال : سمعت سفيان الثوري يقول : لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني .
وعن أحمد بن يونس قال : سمعت سفيان يقول : ما رأيت للإنسان شيئا خيرا من أن يدخل في جحر ، قال ابن يونس : اليوم ينبغي أن يدخل في قبر .
قال الثوري رحمه الله :
العلماءُ إذا عَلِموا عَمِلوا ، فإذا عَمِلوا شُغِلوا ، فإذا شُغِلوا فُقِدوا ، فإذا فُقِدوا طُلِبوا ، فإذا طُلِبوا هَرَبوا .
[سنكمل فى المرة القادمة إن شاء الله ، ملخصا من كتاب الشيخ "سفيان الثوري" طبعة دار السلام]
--------------------------------------------------------------------------------
1 - فرقة من الشيعة .
2 - نخفي ونمنع .
3 - القِمَطْر : الصندوق الذي يصان فيه الكتب .
4 - أي اللحم المحيط بالثَّدي .
منقول[/QUOTE]