تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : آه منا نحن الحمير - عزيز نيسين



مصطفى حمزة
26-11-2013, 07:32 PM
آه منا نحن معشر الحمير
للكاتب التركي عزيز نيسين


يحكى أننا نحن – الحمير - كنا في قديم الزمان نتحدث بلغة كالتي تتحدثون بها أنتم البشر، كانت لنا لغة خاصة بنا.
ويحكى أننا لم نكن ننهق في قديم الزمان كما نحن عليه الآن، وتعلمون أننا الآن نعبر عن رغباتنا وأحاسيسنا، ومشاعرنا، وأفراحنا، وأتراحنا فيما بيننا بواسطة النهيق!
النهيق هو إصدار صوت مؤلف من حرفين بشكل متكرر :» هـ .. ا، هـ... ااا« هذا هو النهيق..
تقلصت لغتنا الغنية تلك، وتقلصت الى أن صارت كلمة واحدة مؤلفة من حرفين. يعود ربط ألسنتنا نحن الحمير الى حادثة قديمة جداً.. يحكى أن هنالك حماراً عجوزاً من الجيل القديم، في يوم من تلك الأيام كان يرعى هذا الحمار العجوز في البراري وحده، وكان يغني الأغنيات الحميرية في أثناء الرعي، في لحظة من تلك اللحظات تناهت إلى أنفه رائحة..
إنها رائحة ليست طيبة، إنها رائحة ذئب.
رفع الحمار ابن الجيل القديم أنفه إلى الأعلى، وبدأ يستنشق بعمق، الجو يحمل رائحة ذئب حادة.. سلّى الحمار العجوز نفسه بقوله :
- لا يا روحي، إنه ليس ذنباً..
وتابع الرعي..
ولكن رائحة الذئب تزداد بالتدريج.. أما الحمار العجوز فهو خائف من جهة، ومتظاهر باللا مبالاة من جهة أخرى، ويقول لنفسه :
- ليس ذئباً.. لماذا سيأتي الذئب إلى هنا؟ ولم سيلقاني؟ بينما كان يسلّي نفسه هكذا، فجأة تناهى إلى أذنيه صوت..
ليس صوتاً عذباً، إنه صوت ذئب..
شنف الحمار العجوز أذنيه رافعا إياهما إلى أعلى... نعم إنه صوت ذئب، ولأنه غير راض بمجيء الذئب، تابع قضم العشب وهو يقول :
- لا يا روحي.. هذا الصوت ليس صوت ذئب... يتهيأ لي...
اقترب كثيراً جداً ذلك الصوت المخيف، والحمار يقول لنفسه :
- لا، لا... أتمنى ألا يكون ذئباً... أما عند الذئب عمل آخر ليأتي إلى هنا؟!
من ناحية أخرى سيطر الرعب على قلبه، وبدأ يتلفت فيما حوله..
نظر.. وإذا بذئب يظهر بين الضباب والدخان على قمة الجبل المقابل.. فقال :
- هـ ا ا ا، ما أراه ليس ذئباً لا بد أنه شيء آخر.
ازداد خوفه عندما رأى الذئب يعدو خلف الأشجار. ولكن لأنه غير راغب في مجيء الذئب، خدع نفسه قائلاً :
- ليس ذئباً، إن شاء الله لا يكون ذئباً..أما بقي له مكان آخر ليجد هذا المكان ويأتي إلى هنا؟ لم تعد عيناي سليمتين، لهذا فإنني ظننت أن خيال الأشجار ذئب.
اقترب الذئب أكثر، عندما صارت المسافة بينهما خمسين خطوة حميرية، سلّى نفسه قائلاً:
- جعل الله بمشيئته هذا المخلوق الذي أراه أمامي ليس ذئباً...لم سيكون ذئباً يا روحي .. لعله جمل أو فيل، ولعله شيء آخر.. ويمكن ألا يكون شيئاً البتة.
اقترب الذئب مكشراً عن أنيابه، وعندما بقي بينهما عدة خطوات، قال الحمار العجوز :
- أنا أعرف أن هذا القادم ليس ذئباً، نعم إنه ليس ذئباً، ولكن ليس سيئاً أن أبتعد عن هذا المكان قليلاً..
بدأ المسير.. نظر خلفه فوجد أن الذئب يتبعه مكشراً عن أنيابه، مسيلاً لعابه.
بدأ الحمار ابن الجيل القديم بالدعاء والتوسل لربه :
- يا ربي اجعل هذا الذي يتبعني ليس ذئباً حتى ولو كان كذلك.. إنه ليس ذئباً يا روحي، وكل خوفي لا معنى له..؟!



بدأ الحمار العجوز يعدو، وركض الذئب خلفه. ركض الحمار بكل ما تقوى عليه قوائمه، وهو يقول في داخله : - إنه ليس ذئباً حتى لو كان كذلك... اللهم لا تجعله ذئباً... لم سيكون ذئباً يا روحي؟
هرب الحمار وتبعه الذئب. عندما شعر الحمار بأنفاس الذئب الساخنة تحت ذيله، قال لنفسه :
- أنا أراهن إن هذا ليس ذئباً... لا يمكن أن يكون المخلوق الذي أشعر بأنفاسه تحت ذيلي ذئباً... عندما لامس فم الذئب الرطب ما بين فخذي الحمار، انهار الحمار تماماً... التفت، نظرخلفه، فوجد الذئب يهم بالقفز عليه.. تجمد الحمار تحت تأثير نظرات الذئب الحادة فما عاد يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، فأغمض عينيه كي لا يرى الذئب، وبدأ يتأتئ بالقول :
- إنه ليس ذئباً يا روحي... إنه ليس ذئباً بمشيئة الله... لم سيكون ذئباً؟ عض الذئب الشرس الجائع بأنيابه الحادة الحمار من فخذه، وقضم قطعة كبيرة... ارتبط لسان الحمار وهو يهوي على الأرض ألماً... ومن خوفه نسي اللغة الحميرية. نهشه الذئب من رقبته وصدره وبدأ ينفر الدم من جميع أطراف الحمار، وعندئذ بدأ يصرخ :
- هـ اا.. إنه ذئب هـ... ااا، هو .. هـ.. ااا... هو وووو.
الذئب يمزقه، وهو بسبب ارتباط لسانه لا يصرخ إلا :
- هـ اااا... هووووو.. هـ اا... ااا، هـاااا
سمعت الحمير كلها صراخ الحمار من الجيل القديم بآخر كلماته. حيث كانت تردد أصداءها صخور الجبال، وهو يتمزق بين أنياب الذئب :
- هـ اااا، هـ ااا، هـ اااااا....
وهكذا يقال إننا نحن الحمير نسينا المخاطبة والمحادثة منذ ذلك اليوم، وبدأنا نعبر عن أفكارنا بواسطة النهيق... ولو لم يخدع نفسه ذلك الحمار ابن الجيل القديم حتى وصل الخطر غالى تحت ذيله، كنا سنبقى على معرفة بالكلام....!!!!؟؟؟ آه منا نحن الحمير.... آه منا نحن الحمير.... هـ ااا... هـ ااا.... هـ ااا

ربيحة الرفاعي
03-12-2013, 12:07 AM
اختيار مدهش
وقصة لا أروع ولا أعمق

لم نعرف من قبل أنك تجيد التركية


تحاياي

مصطفى حمزة
03-12-2013, 09:32 PM
اختيار مدهش
وقصة لا أروع ولا أعمق
لم نعرف من قبل أنك تجيد التركية
تحاياي
أختي العزيزة ، الأستاذة ربيحة
أسعد الله أوقاتك
عزيز نيسين ، الأديب التركي الكبير ، صاحب القلم الساخر الذي له مخالب .. من الكتاب المفضلين لديّ
ولأعماله حضن وسيع في مكتبتي الألكترونية .
والمجموعة القصصية التي نقلتُ لكمْ منها هذه القصّة من ترجمة ( جمال دورمش ) ، وأنا كنتُ مقصّراً
حين لم أذكر اسم المترجم في البداية .
أما أنا فلا أجيد التركية ولا غيرها من اللغات الأخرى - عدا الإنجليزية على استحياء - .. حتى اللغة
العربية ، أعاشرها من عقود ولا زلت أتفاهم معها بلغة الإشارة .. وتأبى أن تبوح لي بسيرتها الشخصيّة كاملة !
تحياتي وتقديري دائمًا

الدكتور أحمد قاسم العريقي
26-12-2013, 08:35 PM
عزيزي مصطفى حمزه هذه القصة تمثل واقعنا العربي فالعدو أمامنا وخلفنا وتحتنا وفوقنا ونحن في هذا الزمن ما زال العقل العربي نفس زمن قبل ما قبل آدم

ناديه محمد الجابي
31-01-2014, 09:38 PM
عظيم متألق حتى في انتقائك
تحسن اختيار ما خف دمه وثقل وزنه
قصة رائعة لها اسقاطات على واقعنا المؤسف
وعدتني بإهدائي بعض ما تملك في مكتبتك الإلكترونية
ولكنك لم تف بوعدك.
تحياتي وتقديري.

بشرى رسوان
07-02-2014, 11:58 AM
صباحك ورد




عزيز نيسين من أشهر الكتاب في العالم وهو احد اعمدة الفن الساخر

سمات شخصيات قصصه تحمل اسقاطات واقعية

الدهشة والابتسامة و السخرية اللاذعة لا تخلو من نصوصه

كلماته بوجهين

اختيار موفق سيدي

فتحت باب النقاش حول العملاق عزيز نسين

دام لك الالق

كاملة بدارنه
08-02-2014, 04:29 PM
اختيار رائع (وعلى الوجع) أخي الأستاذ مصطفى
بوركت
تقديري وتحيّتي

عدنان الشبول
08-02-2014, 07:13 PM
قصة جميلة ونقل جميل وتحمل معانٍ كثيرة

( لا أدري لماذا أحسست أن فيها بعض الإطالة في السرد بما أصابني بالفتور في لحظة ما )


دمتم بألف خير

قوادري علي
08-02-2014, 08:06 PM
شكرا جزيلا الراقي مصطفى على النقل المميز.

أسيل أحمد
27-08-2020, 05:59 PM
قصة رائعة بإسقاط واقعي ساخر ـ وما أقربنا في عالمنا العربي من هذا الحمار
نرى الذئب حولنا في كل مكان ونغمض أعيننا ونقول: إنه ليس ذئبا ـ إنه صديق
فلنعرض عليه السلام والوئام.
شكرا على اختيار رائع لكاتب مبدع ـ ولك كل التحية والتقدير.

عبدالحكم مندور
28-08-2020, 04:56 PM
نص شيق وهو صحيح الدلالة وله ارتباط بالواقع فما أكثر من ينتهجون نهجه .. كل الشكر والتقدير