رحيل الرئيس

الكتابة عن الرئيس ياسر عرفات غاية في الصعوبة، بل وغاية في التعقيد، وهي أشبه ما تكون بدخول ارض واسعة شاسعة، لكنها مزروعة بالألغام والعبوات الناسفة، فإذا ما أخطأت في نقل قدمك من موقع إلى موقع، قد تتناثر شظاياك على امتداد رقعة الأرض كلها حتى ليعجز الطب الشرعي عن جمعها لتوضع في كفن ومن ثم في قبر يكون حاملا اسمك.

وهذا ناتج حتمي، لان الكتابة عن الشخص تعني اقتحام تاريخ حافل بالأحداث غير العادية، أحداث تدخل ضمن التاريخ العالمي لفترة طويلة من الزمن، فترة تحمل في كل سطر من اسطرها عجزا واضحا عن كشف أسرار الغموض الذي لف سيرة الرجل منذ نشأته وصولا إلى اغتياله، أحداث تجعلك تقف عاجزا عن فهم الجاذبية التي كانت تصنع من هم أعداءه في نظر العالم أحبابا مقربين له، أحداث غامضة، بل ممعنة في الغموض والسرية.

وكما كانت حياته، كان مماته، وكما كانت الحياة والموت، كان الحصار الذي امتد سنوات طويلة فوق ارض الوطن، وتراب الحلم الذي عاش هذا الرجل من اجله، تاريخ مغرق في الرمزية الإيحائية للتاريخ، ورحيل ممعن بالرمزية الايحائية للتاريخ السابق واللاحق، فتخال بان الزمن والأحداث قد تكاتفت وتعاونت لتجعل من شخص الرجل رمزا ومثلا رغم أنوف الكارهين والأعداء والحاسدين، مثلا سيبقى قائما على غرة التاريخ العربي والإسلامي والعالمي شئنا أم أبينا، رضينا أم كرهنا، أحببنا أم لم نحبب، فكانت لحظات استشهاده هي اللحظات التي جرت التاريخ ليكون راضخا لهذه السيرة النضالية وان اختلفت بها العقول وحارت بها الأفكار وتناوشتها الرؤى.

فهذا الرجل الذي من خرج من رحم المجهول ليقود ثورة في أصعب الأزمان واعتاها، ثورة قيل فيها كل ما يمكن أن يقال، ثورة استطاعت أن تشق غلالات الخيانة والتآمر، خيانة الآهل، وتآمر العالم بكل ما يملك من باطل، وبكل ما يملك من " شرعية " مدعاة، ثورة استطاعت أن تفشل مشاريع الأمم كاملة أثناء محاولتها محو اسم فلسطين من الخارطة العالمية، لتقحم مكانه اسم جديد، اسم لا يمت للورق، ولا يمت للحقيقة بشيء، فكانت الكوفية التي تظلل راس الرجل الخارطة الواضحة لاسم الوطن، اسم فلسطين، وكانت الشعرات الموزعة على خديه جزء من ملامح الشعب والوطن، بل وكانت كلماته وخطواته ملحمة لم يسبق أن صنع مثلها إلا رجل واحد اسمه ياسر عرفات.

هذا الرجل الذي اغتيل أمام العالم وتحت سمعه، لم تتمكن الثورة التي قادها ورسم مستقبلها أن تطالب بأقل حق من حقوقه وحقوق شعبه، السلطة الفلسطينية التي حملها عرفات من موانىء المنافي والاغتراب، من وحل الهزيمة والتبعية، من قرارات العواصم وكواليس السياسة لم تجرؤ حتى الآن على الإعلان بان السر الذي أودى بحياة الرئيس لا بد من كشفه. بل نحت منحى الواقعية القطرية التي تبرر علاقتها بالاستعمار بالبحث عن المدخل لمساعدة الشعب الفلسطيني، هذه الواقعية التي أصبحت نمطا من التفكير الإبداعي للأمتين العربية والإسلامية، وأصبح الثابت فوق المبادىء مجنونا أو متطرفا لا يحق له أن يعيش وسط المفكرين الذين يدركون كنه الواقعية وسرها، هذه الواقعية التي اتخذتها السلطة كذريعة لإخفاء السر الكامن خلف استشهاد الرئيس، لا بد وان يكون لها مبرراتها وأسبابها، ولا بد أن تكون تلك المبررات وتلك الأسباب ترتقي إلى هامة التاريخ النضالي لمسيرة الثورة الفلسطينية، ولمسيرة مؤسسها ومفجرها.

وما يدفعني لهذا القول الآن، وبعد الفاجعة شيء واحد، وهو حجم الإعصار الذي ثار بعد اغتيال رفيق الحريري في لبنان. وهنا أحب أن أؤكد بان فكرة اغتيال الحريري غير مقبولة عندي، بل وحتى أكون واضحا كما تريد الفضائيات العربية، فأنني استنكر واشجب هذا العمل الجبان، ولكني اختلف مع الكثيرين باني لا أوجه إصبع الاتهام إلى احد، وأيضا لا أثق أبدا بالأمم المتحدة ولجنة التحقيق المنبثقة عنها، وارفض مسبقا – ومنذ الآن جملة وتفصيلا كل النتائج التي ستعلنها هذه اللجنة في المستقبل – لأني كانسان عربي يحترم عروبته ودينه لا يمكنني أن الدغ من ذات الجحر مئات آلاف المرات، ثم أعود لأضع إصبعي في وكر الأمم المتحدة متناسيا اللدغات السابقة.

وليس من باب التقليل من شان الحريري أقول بان ما حصل مع اغتيال الحريري ليس سوى شكل من أشكال المتاجرة بالدم العربي في سوق الأمم المتحدة والعالم الذي أعلن منذ زمن بعيد بان هذا الدم لا يستحق أن يؤخذ ضمن الدماء التي تستحق أن يحافظ عليها القانون الدولي. فرفيق الحريري رجل أعمال واقتصاد أكثر منه رجل سياسة ودبلوماسية، وتأثيره العربي محدود في إطار ضيق، شديد الضيق، وكذلك تأثيره الدولي، وان كانت له أياد بيضاء على المجتمع اللبناني، فهذه الأيادي أيضا محصورة في المجتمع اللبناني فقط، بعبارة أكثر بساطة، لم يكن الحريري ممن يؤثرون في حركة السياسة الدولية، أو ممن يؤثرون في قرارات أمم. لكن الأمم المتحدة، العاملة تحت السطوة الأمريكية، أرادت وبناء على طلب مجموعه من المصالح التي تصب في المصلحة الاستعمارية أن تتخذ من دم الحريري منفذا لتحطيم بعض الجيوب المتبقية بها أنفاس لتقول للنظام الاستعماري " لا " ولو على استحياء. وأنا كعربي أنأى بدم الحريري أن يستخدم لإنشاء أبو غريب أو غوانتانامو جديدين، لان سيرة الرجل من الناس الذين عرفوه عن قرب تأبى ذلك، بل وأبتها سجيته حين كان حيا.

وهنا يبرز السؤال الصعب، لماذا لم يفتح تحقيق دولي لمعرفة أسباب اغتيال الرئيس والجهة المسئولة عن اغتياله؟ أليس هذا الرجل هو الذي أقض مضاجع ملوك العالم وحكامه؟ أليس هذا الرجل هو الذي أوقف مد الخيانة في الوطن العربي؟ أليس هو الذي أرغم الملوك والرؤساء على إخفاء علاقتهم بالاستعمار لفترة طويلة من الزمن؟ أليس هذا الرجل هو الذي ترك غصة في حلق الزعماء الذين حاولوا اختطاف التاريخ الفلسطيني للمتاجرة به؟ أليس هو من عاش اغتراب الثورة بكل ما فيها من مصاعب ومشاق ليعود محطما الحلم الصهيوني بدولة تمتد من البحر إلى النهر؟ أليس هو من ألغى أحلام الحركة الصهيونية في السيطرة على الأرض والإنسان العربي؟ أليس هو الذي كانت وسائل الإعلام والدول ترتعد من تهديده ووعيده؟ أليس هو من حوصر بين أبناء شعبه وكل القادة العرب يتطلعون شوقا للخلاص منه سترا لعوراتهم المكشوفة أمام حصاره؟ أليس هو من آثر ألا يحمل الأنظمة والشعوب العربية هم حصاره وسجنه؟ أليس هو الذي قال للاستعمار " لا " بأعلى صوته في زمن التوسل العربي للبيت الأسود؟ هذا الرجل " شاء من شاء، وأبى من أبى، واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة " هو الذي غير مسار التاريخ أكثر من مره، وهو الذي أوقف المد الاستعماري داخل الوطن العربي، وهو الذي كافح ونافح عن شرف الشعوب، وهو الذي اقض أحلام الدول العظمى وأدماها، هو الذي كتب تاريخ فلسطين المعاصر، وكتب معه تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، واسترسل ليكتب جزءا من تاريخ العالم، ثم وضع توقيعه على تاريخ قادم سيبدأ حين تفتح الستارة على ملابسات استشهاده.

أنا هنا لا أتوجه بالسؤال إلى الأمم المتحدة، أو إلى مجلس الأمن، لان غباء هذا العصر يقوم على تصديق كذبة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وأفضل تعريف للغباء هو الإيمان أو التصديق بمثل هذه المسميات. ولكني أتوجه بالسؤال أولا إلى السلطة الفلسطينية التي اختارت الصمت على مثل هذه الجريمة، صمت مفذلك بطريقة الأمم المتحدة، واخص بالسؤال رئيس السلطة " محمود عباس " ومن بعده رفاق وأخوة الرئيس في مشواره الطويل. وكذلك اسأل ملوك وأمراء ورؤساء الأمة الذين يطالبون سوريا الآن بالامتثال لمطالب " الأمم المتحدة " كما طالبوا العراق سابقا، أسالهم، لماذا استماتوا لجعل العراق يستجيب لتلك المطالب؟ ولماذا يستميتوا من اجل تمريغ وجه سوريا في وحل المطالب الجديدة؟ لماذا لا يستميتوا الآن من اجل كشف النقاب عن وجه جريمة العصر الحديث، جريمة اغتيال الرئيس ياسر عرفات؟ ثم أتوجه بالسؤال إلى " جامعة الدول العربية " التي تقود الآن حملة واسعة من اجل إضفاء الشرعية على التواجد الاستعماري في العراق، والى تثبيت وتمكين من جاؤا خلف دبابات الاستعمار في نظام يرفض أن يكون جزءا من الأمة العربية، بل ويرفض أن يكون الإسلام المصدر التشريعي للدولة، أسأل " الجامعة العربية " الم يكن عرفات من احد أعضاءها؟ الم يكن جزءا من الأمة العربية؟ الم يعش عمره مكافحا ومنافحا عن إسلامية بيت المقدس وعروبته؟ أنا لا اغضب حين أرى العالم يكيل بمكيالين، ولكني أتلظى غضبا وغيظا حين أرى " الجامعة العربية " تسعى لإضفاء الشرعية على أذناب الاستعمار، وتأبى، بل وتجبن عن المطالبة بدم رئيس قضى وهو يدافع عن العروبة وعن بيت المقدس.

رحل عرفات، وكان رحيله صامتا، هادئا، رحلت حقبة من التاريخ الثوري المعاصر، وكان رحيله لغزا كما كانت حياته، رحل مخلفا وراءه قدرة فذة في كشف ستر العجز والخيانة والتواطؤ، وكان رحيله شهادة واضحة للشعوب العربية،
شهادة مفادها:-

" تعلموا كيف يرحل العظماء أنقياء أتقياء مخلصين "؟

فهل وصلت الرسالة؟ وهل تلقفتها الأمة العربية؟ أم ما زالت هبل والعزة ومناة الثالثة تتحكم في عقولنا وإيماننا؟

مأمون احمد مصطفى
فلسطين مخيم طول كرم
النرويج – 21 – 11- 2005