زمن العبيد
و تمضي به رِجلاه صوب مكان عمله ؛ يختار الرصيف مكانا للسير. قرب الحائط المثقوب يطلب
(عبد القوي) الستر من الله ، و يحشر نفسه بين الوجوه المسكونة بالرعب ممّا سيأتي، و السائرة نحو أهداف بسيطة ،لا تتعدّى إرضاء مداخل الجسد البشري و مخارجه ؛ يتهامسون بكلمات مقتضبة مؤكّدين أنّ للحيطان آذان ؛ ثمّ يركّزون أنظارهم إلى الأمام مباشرة ؛ لا يمين و لا يسار غير مكترثين لصوت ( صطّوف ) بائع الصحف يأتيهم أجشّ صاخبًا :
عشرة انفجارات في ..... / القتلى بالعشرات / المستوطنون يتجمّعون لاقتحام المسجد... /
ويذهب صوته أدراج الرياح ؛ لا أحد يناديه كي يشتري جريدة .
صوته يرتفع تبعا لارتفاع وتيرة اللامبالاة لدى المارة ثم يمضي الصوت عكس السير في اتّجاه مغاير و يظلّ يتخافت .. يتخافت رويدا رويدا حتّى يتلاشى ، منتقلا إلى شارع جديد و لامبالاة جديدة ؛فيوقن أنّ ( تيرموميتر) الحياة قد بدأ يتدنّى نحو الصّفر وأنه يتّكئ على الماء، و أن حائط الدّعم الذي أمِل بالاستناد إليه ،لم يكن إلا وهما و لا وجود له إلاّ في مخيّلته .
يسرح ( عبد القوي ) في الظاهرة اليومية التي يشكّلها ( صطّوف ) ثم يمضي ساهمًا كالمنوّم مغناطيسيا يرى بعين عقله الباطن ولا يميّز شيئا . يحفظ الطريق حفرة حفرة و رغم ذلك تراه يسقط فيها واحدة تلو الأخرى ؛ ثمّ يتلفّت حواليه و ينسلّ متوجّسا خشية أن يتضاحك المارّة لعثراته ؛ فيكتشف أنهم أيضا يمضون ساهمين و كأنهم يأتمرون جميعا بإمرة المنوّم المغناطيسي الأعظم , و يلحظ أنهم يقعون مثله في الحُفر رغم أنهم يحفظون الطريق حفرة حفرة و لكنهم مثله أيضا يمضون متوجّسين خشية أن يضحك لمصابهم أحد .
يراهم ( عبد القوي ) في أحسن حال و أهنأ بال ؛وكأن الأعاصير التي تجتاح المناطق المحيطة بهم و التي ألمح إليها ( صطّوف )لا تعنيهم،فهم يكرّرون جوابا واحدا حين يُسألون عن أحوالهم: الحمد لله .
هو أيضا يقول: الحمد لله ؛ حين يُسأل .
أتراهم يسيرون في شارع ( الحمدلة ) ؟ و إلى أين يمضون ؟ أيعقل أنهم موظّفون مع ( عبد القوي ) عند ربّ عمل واحد ؟
هو مسؤول في المؤسسة ؛ يُحصي أسماء الموظفين ووجوههم وحركاتهم و سكناتهم ؛ فمن أين جاء هذا الحشد الهادر ؟ و من أصدر لهم قرارات التعيين ؟
المؤسسة لا تحتمل هذا الكمّ الهائل من الموقّعين على دفتر الحضور و الانصراف .
لا .. لا.. عبد القوي ليس في حلم.الوجوه المُقطّبة تتبعه فعلا.هي أيضا تتّجه غربا؛تتبعه حذو النعل للنعل؛ تُسرع إن أسرع و تُبطئ إن فََعَل.تنعطف مثله انعطافات محدودة ثمّ تتّجه غربا.. نحو المؤسسة .
يظنّ أنّ المارّة يمازحونه و أنهم ممثلون بارعون في برنامج الكاميرا الخفيّة . يضحك في وجوههم فلا يبادله الابتسامة أحد ، يعبس مثلهم و يقرر تبديل وجهته فيكتشف أنهم يدبّون خلفه ؛ يقتدون به و يقلدونه فيما يفعل ؛ يقفون حيث يقف و ينظرون إلى حيث ينظر ؛ يُخرجون من جيوبهم قوائم المشتريات التي أعدّتها زوجاتهم ؛ يحدّقون فيها مليّا ثم يهزّون رؤوسهم مُحَوْقِلين مُرَجْعلين ،مردّدين وراء عبد القوي بصوت واحدٍ عالٍ مُنتظم : إنّا لله و إنّا إليه راجعون .
يُبهَت عبد القوي و تتملّّكه الدهشة ظانًا أنّه قد وقع في الشَّرَك مُتحوّلا إلى قائد لمظاهرة عفويّة محظورة ، لم يَدعُ إليها أحد؛ فيوجس في نفسه خيفة و ينطلق مهرولا وهو يلْتفت إلى الوراء فيجد المارّة يهرولون في إثره و كأنهم مشدودون إليه بحبل متين ؛ فيقول : " يا روح ما بعدك روح "
ثمّ يُطلق ساقيه للريح متوسّلا الله أن يقرّب المؤسسة إليه ؛ و ينخلع قلبه حين يسمع وقع أقدام المارّة و هم يتسابقون للّحاق به و يتدافعون تدافع الحُجّاج لرجم إبليس .
يلهثون كما يلهث و يسعلون كما يسعل ولا يتوقّّفون لالتقاط الأنفاس إلا عندما يتوقّف عبد القوي أمام باب المؤسسة التموينية مُنهك القوى ؛ و قبل أن يلج الباب ، ينظر إلى الخلف فيجد المارّة يتلاهثون مثله و قد انتظموا في طابور طويل طويل ؛ يتساكتون مبتسمين و يرفعون أكفّهم لاشعوريا في تحيّة تنضح منها رائحة التذلّل و التودّد كجنود منضبطين أمام قائد جبّار شديد البطش .
يتنهّد عبد القوي تنهيدة النجاة و يزفر زفرة الخلاص ثمّ يبتسم ابتسامة القويّ القادر و يشرع يُدقّق في بطاقاتهم التموينية فيُفاجأ بأنّ أسماءهم تُشبه اسمه ؛ فيضحك في سرّه قائلا : كـلـّنا عبيد للقويّ .