أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: ظل شجرة

  1. #1
    الصورة الرمزية إبراهيم الشريف شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : ليبيا
    المشاركات : 144
    المواضيع : 20
    الردود : 144
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي ظل شجرة

    ينهض ... يرفع رأسه بصعوبة ، ويرفع معه ما تركته كوابيس الليل على جفنيه من إرهاق ، ويغسل وجهه و يدعكهما بشدة ، لعله يغسل عنهما هذا اللون الأسود المتراكم تحتهما من جراء الأرق ، يتأمل وجهَهُ الشاحب الذي تنزف نضارتهُ يوماً بعد يوم ، وهذا الشيب الذي غزا رأسه في فترة قصيرة ، فجأة وجد شَعره يبيضّ ، وكأن هناك من يزرع الشيب في رأسه وهو نائم ، كل صباح يستيقظ ليجد الشعر الأبيض وقد ازداد غزارة كأنه يتعجل القضاء على الوهج الأسود الذي يشع برأسه ، ويمنحه الطاقة التي يواصل بها الركض على هذا الدرب الذي لا يعرف كيف ستكون نهايته .
    ثلاثة وثلاثون عاماً مرّت في سرعة جنونية ، فجأة استيقظ ذات صباح ليجد أنه بلغ الثالثة والثلاثين من العمر ، والأطفال الذين كان يعرفهم أطفالاً ، كبروا ، وأصبح يكره رؤيتهم فكلما ظهروا أمامه شعر وكأنهم يجلدونه بنشاطهم وحيويتهم " لو أن الزمن يعود إلى الوراء" .
    يشرب مرارة قهوته ، ويتأهب للخروج إلى الكلية ، تخاطبه والدته قائلة : ولدي ، كيف تخرج من دون أن تتناول فطورك ، هذا غير جيد لصحتك ... كم هو كبير قلبك يا أمي ، مازلت تعاملينني وكأنني ذلك الطفل الذي كان قبل ثلاثة وعشرين عاماً - ترى لو تزوجت هل ستعاملني زوجتي بهذا الحنان؟ يبتسم ابتسامة خفيفة سرعان ما يبتلعها - سأتناول طعام الفطور في الكلية يا أمي ، لا أشعر برغبة الآن .
    متى ستتزوج يا ولدي ؟ دعني أختر لك عروساً ، هذه فلانة ، وتلك فلانة ، وهذه العائلة لديها بنت جميلة ، عيناها واسعتان مثل الفنجان ، وخداها ممتلئان ومتوردان، وساقاها مثل – يقاطعها ضاحكاً : وصوتها يا أمي ، هل صوتها جميل ، أريد أن يكون صوتها جميلاً لتغني لي كما كنتِ تغنين لي في طفولتي - يغني : هوها يا هوها، الكعبة زينوها - ويستمر في الضحك بصوت عال . تشيح والدته برأسها وتنهمر على وجهها ملامح مختلطة من الاستياء والتعجب ، ثم تلتفت إليه مرة أخرى : طيب، من هؤلاء اللواتي يتصلن بك على الهاتف أليس فيهن واحدة تملأ عينك؟ يقاطعها مبتسماً : طالبات يا أمي لديهن مشاريع تَخرّج ، لا أكثر من ذلك . ينهض في حيوية يستكثرها على نفسه ، ويحمل حقيبته ووجعه ويخرج ، ويخرجُ معه هذا الألم الذي يشتعل في الجهة اليسرى من جسده كل صباح . ألم في الكتف الأيسر والذراع الأيسر والجنب الأيسر ، لماذا اليسار دائماً مزعج هكذا ؟ يتمتم – اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين – ثلاثة أشهر وهذا الألم يستمر معه ، وكل يوم يقرر أن يستشير طبيباً ، ثم يؤجل موعده للغد الذي يبدو وكأنه لن يأتي أبداً .
    يدخل إلى قاعة المحاضرات ويبدأ محاضرته ، يتأمل الطلبة والطالبات ، هذا ينظر بعيينين نصف مفتوحتين ، نصفهما تركه للنعاس ، والنصف الآخر لمراقبة ما يهذي به الأستاذ أمامه . وهذا ينظر إلى ساعته في قلق ، وذاك يختلس النظر إلى عطر طالبة جالسة أمامه ، و طالبتان تتبادلان في خبث ابتسامات خفية ... ينظر إلى ساعته وينهي محاضرته ليخرج الطلبة بسرعة وكأنهم كانوا في سجن سياسي .
    تمر على ذاكرته صورٌ لأيام دراسته في الجامعة عندما كان يتغيب عن المحاضرات ، ولحسن حظه أنه لم يُفصل من دراسته ، يتنهد : الحمد لله ، يهز رأسه ، عجيبة هذه الدنيا ، فالطلبة المتفوقون اكتفوا بالشهادة الجامعية فقط ، وهو الطالب الغير مجد استمر في تحصيله حتى حصوله على الماجستير ، وهاهو الآن في طريقه إلى الدكتوراه .
    يتناول غداءه مع والدته ، ويستمع إلى أخبار الجزيرة ، ثم يضع رأسه لينام ، يرن الهاتف
    – ألو نعم ، مرحباً يا عمّي .
    – أهلاً ، جهز نفسك غداً للذهاب لتقديم العزاء لعائلة ...
    يقفل السماعة . يا الله ، مائتان وخمسون كيلومتراً نقطعها لتقديم العزاء ، كم هي مزعجة بعض عادات أهل الريف ، ألم تكن مكالمة هاتفية أو برقية لتفي بالغرض؟ إذاً غداً يوم أسود ، لن يرى ليلى ، تلك الطالبة التي استولت على جميع ملامحه ، وأصبح يشعر بأن صورتها تدخل وتخرج مع أنفاسه . سنتان ونصف منذ أن التحقت بالدراسة في الكلية وهو يتابعها في صمت ، كلما فكر في مصارحتها وجد شيئاً ما يشده إلى الوراء . يقول لنفسه : فرق السن لا بأس به بينكما ، و أنت أستاذ وهي طالبة ، لا يجوز ما تفكر فيه – ولكنني رجل ولن ينفي عني كوني أستاذاً هذه الصفة ، ولست عجوزاً أيضاً ، مازلتُ شاباً ، مازلت شاباً ...
    يستيقظ قبل الغروب بقليل يصلي العصر ، ويُعدُّ قهوته بنفسه ، يحب أن يعدها بنفسه ، كل شيء من الممكن أن يتكاسل عنه إلا فنجان القهوة . سرعان ما يُرفع آذان المغرب ، يشغل سيارته ، ويخرج إلى وسط البلدة ، ثم يعود إلى البيت ، تصادفه صورة والده ويرفع يده مقدماً لها التحية ، يقف بذكرياته أمام الصورة متأملاً ، يسترجع أيام مرض والده ( والدك مريضٌ يا ولدي وحالته تسوء يوماً بعد يوم ، تقول والدته في حزن . يرد عليها : هناك أناس رقدوا في الفراش لسنين طويلة ثم عادوا إلى الحياة مرة أخرى . ترد والدته في يأس : انشالله . كان يعرف أن والده في طريقه إلى الموت ، الأطباء أجمعوا على ذلك – قدرة الله فوق كل شيء ، قادرٌ على شفائه يا أمي) .لم يكن يعرف بأن الموت مؤلم هكذا ، لأول مرة في حياته تتجسد مشاعر الألم أمامه هكذا ، وتنتصب واقفة تصفعه وتركله بكل قسوة .
    ينتبه على نداء والدته ويهز رأسه – هل أحضرت ما أوصيتك به؟ يضرب بيده على رأسه - لقد نسيته في السيارة يا أمي ، سأجلبه حالاً .
    هذا النسيان الذي يلتهم ذاكرته في شراهة حتى بات يخاف أن يستيقظ يوماً ما فلا يجد منها شيئاً .
    يدخل إلى العيادة ، يأخذ رقماً ويجلس بانتظار دوره ، ويتأملُ شرودَ زوجين جالسين أمامه في صمت ، يستنتج من ملامحهما أن الأمور بينهما ليست على ما يرام ، أو أنها ظروف الحياة التي أصبحت تشغل الزوجين حتى في الحالة التي يجب أن يكون كل واحد منهما أقرب ما يمكن إلى الآخر . وبينما هو مستغرق في تحليلاته يسمع صوتاً أنثوياً يهمس باسمه ، فيلتفت إلى مصدر الصوت ويرد بهمسة هاتفة : معقول ؟!


    يتبع

  2. #2
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    قصة رائعة قرأتها واندمجت معها الي أن صدمتني النهاية ...

    بإنتظار البقية على أحر من الجمر ...

    سلم قلمك أخي ابراهيم

    لك خالص تقديري نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3

  4. #4
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الفاضل الاديب ابراهيم الشريف

    اجدت هذه القصة , اداء ولغة وتشويقا , تقنياتك جميلة جدا ,
    فقد استحوزت القصة علي تماما , لم استطع التوقف عن
    المتابعة , احسست بكل ما اردت ان تنقل لنا من مشاعر .

    انتظر بشوق تتمة الاحداث .
    بارك الـلـه بك ايها الاديب القاص .

    اخوكم
    السمان

  5. #5
    الصورة الرمزية ابراهيم محمود الخضور قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    المشاركات : 1,053
    المواضيع : 98
    الردود : 1053
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    ذا لم يكن ذلك الصوت00صوت (( ليلاه))00


    فلكم الحق علي00

    بارك الله فيك أخي الكريم00

    جميلة هذه القصة00

    وبانتظار التمام00

    أخوك: أبوالبراء

  6. #6
    الصورة الرمزية أسماء حرمة الله شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : على أجنحــةِ حُلُــم ..
    المشاركات : 3,877
    المواضيع : 95
    الردود : 3877
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي تحية ورد

    سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته

    تحية مكتوبة بماء الورد

    الأخ المبدع ابراهيـم،

    الأحداثُ الجميلـة التي حفلتْ بها قصتك قدْ شدّت انتباهَنا، وجعلتْ أنفاسَنا تتلاحق لمعرفـة نهايتها، والحق أقول: تمتلك مقومات القصّ باقتدار، فقد جعلتنا نعيشُ كل التفاصيل حدَثاً حدَثاً، وكأننا من شخصيات قصتك..

    اسمح لي بالإشارة إلى بعض الخيوط:

    أظن أنَّ هناك خطأ مطبعيا:
    - "إنشاء" اللـه: إن شاء اللـه
    -"ينتبه على" : ينتبه لــ
    و-"تملأ عينك": أظنها عامية؟؟


    ننتظـر الجزء القادم بفارغ الصبـر..
    دمتَ لنا
    تقبل خالصَ تقديري واعتزازي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    وألف باقة من الورد والمطر

  7. #7
    الصورة الرمزية إبراهيم الشريف شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : ليبيا
    المشاركات : 144
    المواضيع : 20
    الردود : 144
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الأخت سحر الليالي

    الأخ محمد الدسوقي

    الأخ الدكتور محمد السمان

    الأخ ابراهيم محمود


    ألف شكر وشكر لكم على هذه التشجيع الذي غمرتموني به ، أخشى أن يكون هذا أكثر مما تستحقه هذا المحاولة المتواضعة ، وأنتم بهذا تدفعونني إلى المضي قدماً في هذه التجربة التي أخوضها لأول مرة

    بارك الله فيكم جميعاً

  8. #8
    الصورة الرمزية إبراهيم الشريف شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : ليبيا
    المشاركات : 144
    المواضيع : 20
    الردود : 144
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الأخت الأديبة المتألقة أسماء حرمة الله

    مجرد مرورك أعتبره وساماً أعلقه على صدر هذه المحاولة ، فكيف وأنت تجودين علي بهذه الملاحظات القيمة

    أما عن عبارة : ينتبه على
    فلست أدري إن كان يجوز أن تكون بهذه الصيغة ، ففي اللغة يوجد وكما تعرفين شيئاً يسمونه تناوب الحروف
    مثال :

    يقولون ليلى بالعراق مريضة

    يقولون ليلى في العراق مريضة

    تعطي نفس المعنى

    ولست أدري هل هل ينطبق هذا على هذه الحالة أم لا .

    وحتى لو كان لا يجوز من وجهة النظر اللغوية البحتة ، أنا أعتقد أنه سيكون جائزاً لو نظرنا إليها من زاوية شعرية ، فهذه التركيبات تستخدم كثيراً في الشعر .
    هذا اجتهاد مني ، وأنتظر تعليقك وتعليق الأخوة اللغويين .

    أما عن :( تملأ عينك )، فهي جائزة من وجهة نظري ، لأن كلمة (تملأ) هي كلمة فصيحة ، وكلمة ( عينك) أيضاً فصيحة ، إذاً يظل استخدام الكلمتين بهذا التركيب جائزاً حتى لو كان يستخدم في العامية .

    ولا تنسي أنه من مميزات الكاتب وبالذات الشاعر هي قدرته على إثراء اللغة وخلق تركيبات وعبارات جديدة حتى لو لم تكن موجودة قبلاً

    كلمة انشالله ، هكذا تنطق في اللهجة الليبية ، وتعمدت وضعها هكذا

    بانتظار توجيهاتك وتوجيهات باقي الأخوة الأعضاء

    تحياتي

  9. #9
    الصورة الرمزية إبراهيم الشريف شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : ليبيا
    المشاركات : 144
    المواضيع : 20
    الردود : 144
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    وقف بهدوء ولم يستطع أن يخفي ملامح الذهول التي ارتسمت على وجهه . سمية !! بعد سبع سنوات تقف على بعد خطوات منه . يحمل خطواته المرتبكة ويتقدم نحوها .تمد يدها لتصافح ارتجاف يده . يصافحها بقوة
    - كيف حالك ؟
    - الحمد لله ، كيف حالك أنتِ ؟
    - بخير ، مفاجأة ؟!

    يكتفي بابتسامة صامتة ، يتأمل وجهها ، ما زال يرفل بملامحه الطفولية ، يشعر بسحب كثيفة تتجمع داخل رأسه ، وتمطر بذكريات أول يوم للقائهما قبل عشر سنوات ، عندما صادف حيرتَها في مكتبة الكلية ، وطلبت منه أن يساعدها في البحث عن كتاب تحتاجه لكتابة تقرير طلبه منها أحد الأساتذة . تشعّبَ بهما الحديث ليخرجا مترافقين وقد نسي كل منهما أمر الكتاب والتقرير .
    منذ ذلك اليوم شعر بشجرة شديدة الاخضرار تنبت في قلبه ، كان يسقيها بحديثها الناعم ، ويشعر بها تنمو وتنمو ، وكلما دهشت من روعة كتاباته إليها كان يقول لها : هذا من ثمار ما زرعتِ بقلبي .
    سنتان كاملتان لم تسأله حتى مجرد السؤال عن المصير الذي ستنتهي إليه علاقتهما ، كانت تكتفي بالساعات التي يقضيان نشوتها معاً ، ولكنه كان يشعر بحرارة تساؤلاتها تلفحه من توهج ملامحها .
    مازال يذكر شجون ذلك اليوم الذي فاتح فيه والدته في رغبته بأن يخطب سمية ، وطلب منها أن تفاتح والده في الموضوع
    - ماذا ؟ يتزوج من هذه العائلة ،لا يمكن .
    - لماذا ؟ الولد اختارها هي !
    - ليبحثْ عن عائلة أخرى تليق به .

    انتهى الأمر ، كان يعرف أن والده لا يمكن مناقشة أوامره . تلك الليلة تقلب على مواجعه حتى الصباح . كيف سيتصرف الآن ؟
    تنقشع سحب الذكريات عن رأسه على صوتها وهي تسحب يدها من شرود يده وتسأله في استغراب :
    - ما هذا ؟
    - ماذا ؟
    - هذا الشيب الذي يسيل من شعر رأسك ؟!

    يمسح بيده على جانبي رأسه وهو يبتسم – لقد أصبحتُ عجوزاً . لحظة صمت تستغلها سحب الذكريات لتتجمع ثانية ، ويسترجع ذلك اليوم الذي قرر أن ينهي فيه علاقته بها. في ذلك اليوم حاول أن يسيطر على ملامحه التي كان يشعر بأنها تكاد تفر من وجهه . بدأ حديثه بشكل مختلف ، أخذ يحدثها عن النصيب وكيف يتدخل في حياة الإنسان ، وعن المشاكل المادية التي تواجهه ، وطموحاته في أن يستكمل دراسته العليا ، وعن حبه لها كيف أثّر كثيراً في حياته ، وأنه إذا استمر في علاقته معها سيظلمها ، واكتفت بالاستماع إليه في صمت ، وهو يشعر بشيء ما يحترق بداخله ، حتى خشي أن تكون قد اشتمت رائحته .
    - من الأفضل أن نفترق يا سمية .
    - هذا ما تريده ؟
    - هذا ما يريده القدر .
    لم يخبرها بأنه قد فاتح والديه في الموضوع حتى لا يزيد من ألمها .
    انهمرت دموعها بغزارة موجعة ، وكأنها تبكي لأول مرة في حياتها . لم يدرك بأنها في ذلك اليوم الأخير للقائهما قد أدركت للوهلة الأولى بأن هناك شيئاً ما سيحدث إلا بعد رسالتها المطولة التي بعثت بها إليه فيما بعد .( لم أنم تلك الليلة ، شعرتُ بانقباض شديد يجثم فوق صدري ، حلمت بك وأنت تقدم لي عقداً من الضوء ، ولكن قبل أن تطوق به عنقي تظهر يدٌ هلامية ، ما إن تلمسه حتى يحترق ويتحول إلى رماد، فأستيقظُ مذعورة ، وأحاول النوم مجدداً فأرى نفسي أركض بدون رأس ، وتتدفق الدماء من عنقي ، أحاول أن أسترجع رأسي لكنه يتدحرج بعيداً عني ، وأراك واقفاً وأنت تنظر إلي وقد غطّت دمائي ملامح وجهك ، فتمسح الدماء بدون اكتراث وتمضي بعيداً عني . عندما رأيتك في ذلك الصباح – لن أقول الأسود ، فصباح تكون أنت فيه لا يمكن أن يعتريه السواد- في ذلك الصباح عرفتُ قبل أن تتكلم بأن هناك أخباراً غير سارة ، لم أتفاجأ ، لكن شيئاً ما في داخلي تحطم . أنت لم تعدني بشيء ، هذا صحيح ، لكن كل شيء فيك كان يعدني ، كل حرف همست به إلي ، كانت روائح الوعود تسيلُ منه . سأتغلب على جرحي بلا شك ، لكن كم ستطول معركتي معه ، هذا ما لا أعرفه ).
    يسحبه صوت الممرضة من ذكرياته ، تبلغه بأن دوره قد حان للدخول إلى الطبيب .
    تعطيه سمية رقم هاتفها
    – ستتصل بي أليس كذلك ؟
    – سأحاول ، لم أسألك عن سبب تواجدك في العيادة ؟
    تضع يدها على بطنها ، وينظر كل منهما إلى الآخر ( يحدث نفسه : كان من الممكن أن يكون من صلبي ) . تقطع عليه نجواه :
    – مازالت نظراتك حادة كما هي .
    – نعم ، أشحذها بالتمعن في الجميلات – أمزح معكِ .
    تبتسم وتودعه وهي تعود إلى مقعدها بانتظار زوجها .



    يتبع

  10. #10
    الصورة الرمزية إبراهيم الشريف شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : ليبيا
    المشاركات : 144
    المواضيع : 20
    الردود : 144
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    يخرجُ من عند الطبيب مرتاحاً بعد أن طمأنه أن ما يشكو منه هو مجرد برد فقط .
    - أنت تكثر من استخدام التكييف ؟
    - نعم يا دكتور .
    - حاول تجنّبه .

    يلتفت حوله وهو خارج ليرى إن كانت سمية لا تزال موجودة أم لا . لا يدري لماذا شعر بارتياح عندما وجد كرسيها خالياً .
    يجلس في سيارته ويُخرج الورقة ويدفن وجهه في رقم هاتفها و يشتم رائحته الناعمة بكل جوارحه – يا الله ، يا لهذه الرائحة . ينظر إلى الأفق ، وكأنه يراها جالسة على ظهر الغيم تتأمله – سامحيني يا سمية ، أعرف براءة قصدك ، لكن صوتك أصبح ملكاً لغيري ، وأنتِ تعرفين أني لا أحب الاعتداء على ممتلكات الآخرين – يدفن وجهه مجدداً في رائحة الورقة ، ثم ينظر إلى الأفق ، يغرورق قلبه بالألم وهو يمزق الورقة ورائحتها ، ويتأمل رقم الهاتف وهو يتطاير في الهواء . وينطلق بسرعة جنونية وكأنه يخشى أن يعود ليلملم القصاصات المبعثرة .
    لا يعرف كم مضى من الوقت وهو يقود سيارته ، حين انتبه إلى أنه يسير في طريق غير طريق البيت - لا بد أن كوب الشاي بانتظاري الآن –تعوّد منذ الطفولة على شرب الشاي الأخضر ، وتشرّبَ حُبّ اخضراره من والدته .
    يدخل إلى البيت ليجد والدته جالسة وقد اغرورقت عيناها بالدموع . يسرع إليها
    - خيراً إنشاء الله ؟
    - خالتك توفيت يا ولدي .
    - إنا لله وإنا إليه راجعون .
    يحزنه مشهد والدته وهي تنتحب ، فيدخل إلى غرفته ليذرف دموعه المبللة بالوجع التي لم تسِل منذ يوم وفاة والده ، كان يجدها فرصة لغسل تلك الآلام التي تكلّست في روحه ، وأصبحت تثقل كاهل حياته إلى درجة النزف . يمسح ألمه ويغسل أحزان وجهه ، ويعود إلى والدته ليواسيها . ينظر إلى صورة والده وقد اغرورقت عيناه بالدموع – هكذا هي الدنيا ، إنها ظل شجرة يا أمي ، ظل شجرة .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. لإيلاف ظلٍّ.. صبا عن عيوني
    بواسطة محمد نعمان الحكيمي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 18-12-2013, 06:13 PM
  2. ظِلُّ رَجُلٍ
    بواسطة د. عبد الفتاح أفكوح في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 13-03-2010, 06:29 PM
  3. حرف شديد البياض على اهتزازات ظلٍّ مائلٍ
    بواسطة عبد القادر رابحي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 11-06-2009, 11:44 AM
  4. ظلٌّ في الثلج !
    بواسطة نور الجندلي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 03-01-2006, 10:39 AM
  5. فضائية "الحرة" في ظلّ الهيمنة
    بواسطة نبيل شبيب في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30-03-2004, 10:31 AM