ينهض ... يرفع رأسه بصعوبة ، ويرفع معه ما تركته كوابيس الليل على جفنيه من إرهاق ، ويغسل وجهه و يدعكهما بشدة ، لعله يغسل عنهما هذا اللون الأسود المتراكم تحتهما من جراء الأرق ، يتأمل وجهَهُ الشاحب الذي تنزف نضارتهُ يوماً بعد يوم ، وهذا الشيب الذي غزا رأسه في فترة قصيرة ، فجأة وجد شَعره يبيضّ ، وكأن هناك من يزرع الشيب في رأسه وهو نائم ، كل صباح يستيقظ ليجد الشعر الأبيض وقد ازداد غزارة كأنه يتعجل القضاء على الوهج الأسود الذي يشع برأسه ، ويمنحه الطاقة التي يواصل بها الركض على هذا الدرب الذي لا يعرف كيف ستكون نهايته .
ثلاثة وثلاثون عاماً مرّت في سرعة جنونية ، فجأة استيقظ ذات صباح ليجد أنه بلغ الثالثة والثلاثين من العمر ، والأطفال الذين كان يعرفهم أطفالاً ، كبروا ، وأصبح يكره رؤيتهم فكلما ظهروا أمامه شعر وكأنهم يجلدونه بنشاطهم وحيويتهم " لو أن الزمن يعود إلى الوراء" .
يشرب مرارة قهوته ، ويتأهب للخروج إلى الكلية ، تخاطبه والدته قائلة : ولدي ، كيف تخرج من دون أن تتناول فطورك ، هذا غير جيد لصحتك ... كم هو كبير قلبك يا أمي ، مازلت تعاملينني وكأنني ذلك الطفل الذي كان قبل ثلاثة وعشرين عاماً - ترى لو تزوجت هل ستعاملني زوجتي بهذا الحنان؟ يبتسم ابتسامة خفيفة سرعان ما يبتلعها - سأتناول طعام الفطور في الكلية يا أمي ، لا أشعر برغبة الآن .
متى ستتزوج يا ولدي ؟ دعني أختر لك عروساً ، هذه فلانة ، وتلك فلانة ، وهذه العائلة لديها بنت جميلة ، عيناها واسعتان مثل الفنجان ، وخداها ممتلئان ومتوردان، وساقاها مثل – يقاطعها ضاحكاً : وصوتها يا أمي ، هل صوتها جميل ، أريد أن يكون صوتها جميلاً لتغني لي كما كنتِ تغنين لي في طفولتي - يغني : هوها يا هوها، الكعبة زينوها - ويستمر في الضحك بصوت عال . تشيح والدته برأسها وتنهمر على وجهها ملامح مختلطة من الاستياء والتعجب ، ثم تلتفت إليه مرة أخرى : طيب، من هؤلاء اللواتي يتصلن بك على الهاتف أليس فيهن واحدة تملأ عينك؟ يقاطعها مبتسماً : طالبات يا أمي لديهن مشاريع تَخرّج ، لا أكثر من ذلك . ينهض في حيوية يستكثرها على نفسه ، ويحمل حقيبته ووجعه ويخرج ، ويخرجُ معه هذا الألم الذي يشتعل في الجهة اليسرى من جسده كل صباح . ألم في الكتف الأيسر والذراع الأيسر والجنب الأيسر ، لماذا اليسار دائماً مزعج هكذا ؟ يتمتم – اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين – ثلاثة أشهر وهذا الألم يستمر معه ، وكل يوم يقرر أن يستشير طبيباً ، ثم يؤجل موعده للغد الذي يبدو وكأنه لن يأتي أبداً .
يدخل إلى قاعة المحاضرات ويبدأ محاضرته ، يتأمل الطلبة والطالبات ، هذا ينظر بعيينين نصف مفتوحتين ، نصفهما تركه للنعاس ، والنصف الآخر لمراقبة ما يهذي به الأستاذ أمامه . وهذا ينظر إلى ساعته في قلق ، وذاك يختلس النظر إلى عطر طالبة جالسة أمامه ، و طالبتان تتبادلان في خبث ابتسامات خفية ... ينظر إلى ساعته وينهي محاضرته ليخرج الطلبة بسرعة وكأنهم كانوا في سجن سياسي .
تمر على ذاكرته صورٌ لأيام دراسته في الجامعة عندما كان يتغيب عن المحاضرات ، ولحسن حظه أنه لم يُفصل من دراسته ، يتنهد : الحمد لله ، يهز رأسه ، عجيبة هذه الدنيا ، فالطلبة المتفوقون اكتفوا بالشهادة الجامعية فقط ، وهو الطالب الغير مجد استمر في تحصيله حتى حصوله على الماجستير ، وهاهو الآن في طريقه إلى الدكتوراه .
يتناول غداءه مع والدته ، ويستمع إلى أخبار الجزيرة ، ثم يضع رأسه لينام ، يرن الهاتف
– ألو نعم ، مرحباً يا عمّي .
– أهلاً ، جهز نفسك غداً للذهاب لتقديم العزاء لعائلة ...
يقفل السماعة . يا الله ، مائتان وخمسون كيلومتراً نقطعها لتقديم العزاء ، كم هي مزعجة بعض عادات أهل الريف ، ألم تكن مكالمة هاتفية أو برقية لتفي بالغرض؟ إذاً غداً يوم أسود ، لن يرى ليلى ، تلك الطالبة التي استولت على جميع ملامحه ، وأصبح يشعر بأن صورتها تدخل وتخرج مع أنفاسه . سنتان ونصف منذ أن التحقت بالدراسة في الكلية وهو يتابعها في صمت ، كلما فكر في مصارحتها وجد شيئاً ما يشده إلى الوراء . يقول لنفسه : فرق السن لا بأس به بينكما ، و أنت أستاذ وهي طالبة ، لا يجوز ما تفكر فيه – ولكنني رجل ولن ينفي عني كوني أستاذاً هذه الصفة ، ولست عجوزاً أيضاً ، مازلتُ شاباً ، مازلت شاباً ...
يستيقظ قبل الغروب بقليل يصلي العصر ، ويُعدُّ قهوته بنفسه ، يحب أن يعدها بنفسه ، كل شيء من الممكن أن يتكاسل عنه إلا فنجان القهوة . سرعان ما يُرفع آذان المغرب ، يشغل سيارته ، ويخرج إلى وسط البلدة ، ثم يعود إلى البيت ، تصادفه صورة والده ويرفع يده مقدماً لها التحية ، يقف بذكرياته أمام الصورة متأملاً ، يسترجع أيام مرض والده ( والدك مريضٌ يا ولدي وحالته تسوء يوماً بعد يوم ، تقول والدته في حزن . يرد عليها : هناك أناس رقدوا في الفراش لسنين طويلة ثم عادوا إلى الحياة مرة أخرى . ترد والدته في يأس : انشالله . كان يعرف أن والده في طريقه إلى الموت ، الأطباء أجمعوا على ذلك – قدرة الله فوق كل شيء ، قادرٌ على شفائه يا أمي) .لم يكن يعرف بأن الموت مؤلم هكذا ، لأول مرة في حياته تتجسد مشاعر الألم أمامه هكذا ، وتنتصب واقفة تصفعه وتركله بكل قسوة .
ينتبه على نداء والدته ويهز رأسه – هل أحضرت ما أوصيتك به؟ يضرب بيده على رأسه - لقد نسيته في السيارة يا أمي ، سأجلبه حالاً .
هذا النسيان الذي يلتهم ذاكرته في شراهة حتى بات يخاف أن يستيقظ يوماً ما فلا يجد منها شيئاً .
يدخل إلى العيادة ، يأخذ رقماً ويجلس بانتظار دوره ، ويتأملُ شرودَ زوجين جالسين أمامه في صمت ، يستنتج من ملامحهما أن الأمور بينهما ليست على ما يرام ، أو أنها ظروف الحياة التي أصبحت تشغل الزوجين حتى في الحالة التي يجب أن يكون كل واحد منهما أقرب ما يمكن إلى الآخر . وبينما هو مستغرق في تحليلاته يسمع صوتاً أنثوياً يهمس باسمه ، فيلتفت إلى مصدر الصوت ويرد بهمسة هاتفة : معقول ؟!
يتبع