زعماء
وشعوب
عنوان غريب، في عصر لا غريب فيه إلا المعهود، في عصر يرفض أن يكون إمعة للعصور السابقة – وأظن اللاحقة -، عصر الغمامة التي تحدث الرشيد إليها، عصر صرخة " وامعتصماه "، عصر الرجل الذي وقف ليقول:- " والله لو رأينا بك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا "، عصر الرجل الذي قال بصوت حازم قاطع:- " لا سمعا ولا طاعة "، عصر الخليفة الذي جلد ابنه أمام الملأ، عصر الخليفة الذي منح القبطي حق جلد ابن حاكم مصر، عصر قصير بن اعور، وكثيرا من مثل هذه العصور.
ولماذا اذهب أنا إلى هذا الحد المبالغ فيه، الم أقرأ المثل القائل اطلب المستطاع كي تطاع؟ إذن فلنترك تلك العصور لأنها أثقل من أن يتمكن زعيم أو شعب من حمل أمانتها ومقدرتها وقدرتها، ولماذا اطلب أنا المستحيل مع انه بامكاني طلب الممكن؟ حسنا، فلماذا لم نصل نحن إلى عصر أبي جهل، الذي رفض أن ينصاع للحق السماوي، وظل صامدا على كفره ومعاداته للرسالة السماوية إلى أن دخل المعركة وقتل من اجل نخوته العربية المشؤومة، رجل وصل إلى حد الصمود في التعنت من اجل موروث الآباء والأجداد، موروث كان يعلم انه ليس سوى خرافة ووهم، وآباء وأجداد لا يعلم لو كانوا أحياء سيفعلون فعلته أم لا، لا يعلم إن كانوا سيؤمنون بالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - أم لا، لكنه ظل وفيا لنخوته وحميته وعشيرته إلى حد الموت ذبحا بالسيف.
لا، فانا أقسو كثيرا بطلبي أن يكون شعوب وزعماء هذا العصر مثل أبي جهل، لأكن أكثر تسامحا، لأن هذا الجيل من الشعوب والزعماء لم يرتق إلى مرتقى الرجولة التي نتحدث عنها، فعمرو بن هشام ليس رجلا عاديا، لذلك علي أن الوي عنقي وعنق القارىء نحو امرأة، امرأة تدعى هند بنت عتبة، تلك المرأة التي ساحت دماء والدها وأخيها وابن عمها في يوم واحد وهم يكافحون وينافحون رسالة الحق انتماء وافتخارا لحمية مشوهة جدعاء، ولما قتلوا، نذرت المرأة نفسها للنيل من أسد الإسلام وصائد الأسود، وباتت تقلب الحقد والثأر في أتون حميتها الملتهبة يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، إلى أن جاء اليوم، فاغتالت الأسد ومزقت جسده لتخرج كبده وتلغ في دمه، أكلت وشربت حتى الارتواء والشبع، بل حتى التخمة والثمالة.
ولماذا ابعد إلى مثل هذا الحد، واطلب من زعماء الأمة العربية أن يكونوا على هذا المستوى من الشجاعة والإيثار؟ لماذا أثقل كاهلهم واحني ظهورهم إلى درجة صعبة التحقق؟ فبوبي ساندرز الذي اضرب عن الطعام حتى الموت وفاء لأصدقاء عمره ورفاق دربه في بولندا يعتبر من الأمثال التي يمكن العودة إليها لتفحص كم الخطأ القاتل في تجربته، فهو لم يراع حاجة الجسد للماء والطعام، ولم يلتفت إلى قواعد الصحة العامة الخاصة بالنفس، وكذلك لم يلتفت إلى الحرمان الذي أصاب شهيته أثناء الإضراب، فكان ينتهج سبيلا خاطئا في التعبير عما يريد.
فالوفاء لأصدقاء العمر ورفاق الدرب، قاده إلى خيانة ذاته وجسده ونفسه، وأوقع أمانة الروح التي منحه الله إياها في الدرك الأسفل مما يسمى تضحية من اجل الحق والمبدأ، فكان أولى به أن يهتم بشهيته وجشع نفسه، حتى لا يكون خائنا لأمانة الجسد والروح.
زعماؤنا والحمد الله – الذي لا يحمد على مكروه سواه – يغوصون في أعماق المعنى الانتمائي البعيد الغور لحاجة الجسد، وحاجة النفس، فهم يزرعون في بطونهم كل ناتج الأمة والشعب، ويحيطون كروشهم المنفوخة بفلسفة التخمة، ويغرقون مواليهم وجواريهم بالنعيم المقيم، وينثرون ثروات الأمة والشعب تحت أقدام الأجهزة الأمنية، الأجهزة التي تسهر على تجويع المواطن وسحق كرامته وآدميته، بل ويدفعون لزوجاتهم ملايين الملايين من اجل احمر الشفاه وبودرة الخدود المتجعدة المترهلة، ثم ينتقلون نحو الأرض التي تنتج الخير للمواطن، فيحولوها إلى إسكانات وشوارع، إلى مصانع وورشات، طلبا لراحة المواطن وتامين رزقه، والرزق يعني عندهم حاجة اليوم فقط من طعام وشراب، فان استطاع احد أفراد الشعب أن يخرج عن حاجة اليوم، فقانون " من أين لك هذا " سيرده إلى أقبية سوداء غارقة في الظلام، أو عليه أن يعلن ولاء خفيا للنظام الذي يسير بطريقة شيطانية غير واضحة المعالم، فيدفع مما ينتج لهذا وذاك، ويصبح جزءا من خفايا النظام وحركته المجهولة.
الزعماء لهم مصلحة واضحة ظاهرة في إذلال الشعوب وسحقها، بل وتحويلها إلى قطعان من الماشية المصابة بالجنون والأنفلونزا، لأنهم بهذه الطريقة فقط يتمكنوا من تحقيق هدفين، الأول: تنفيذ إرادة أسيادهم في أمريكا وأوروبا، أولئك الأسياد الذين يملكون مصائر الزعماء بنفس الطريقة التي يملك الكلب مصير حرباء بين أسنانه، فعلى الحرباء أن شاءت أن تتمتع بقدرتها على تبديل لونها حسب المواضع والمواقف والأحداث، عليها أن تضمن أولا بقاءها معلقة بين فكي الكلب دون أن تأتي بعمل يضطره إلى الضغط بالفكين، والكلب، يعرف بمقدرة خاصة ارتفاع عداد الخوف في نفوس الزعماء، ويدرك بعمق خاص ضرورة الضغط الرفيق على أجسادهم بين فترة وأخرى ليذكرهم بأنهم يستطيعون التلون أمام شعوبهم بكل الألوان، ولكن أمامه فإنهم مضطرون لاستخدام لون واحد، وهو لون العبودية والذل والمهانة والانحطاط والنذالة، هذا اللون وما يتفق معه من ألوان هو المادة الوحيدة المتاحة لهم كي يبقوا معلقين في فك الكلب المسعور، فان رعش جلدهم برعشة قد تختلف عن ذلك، ولو بالخطأ المجرد، فان جسدهم سيطحن بين فكي الكلب.
من اجل هذا، وتنفيذا لوصايا الكلب، فقد انتشرت المعتقلات والسجون على امتداد الوطن العربي والإسلامي، وتم حشوها بكل الأصناف البشرية التي تستطيع أن تنظر للتاريخ بعين الاعتزاز والتقدير، واستخدمت كل وسائل القهر والتعذيب، ففاق الزعماء العبيد محاكم التفتيش، وعصور الظلام والاستبداد، بل وتوسعوا بولائهم وعبوديتهم إلى ابتكار أساليب جديدة، أساليب أعلن الشيطان أمامها عجزه واستلامه، وأعلن قصور امكاناته وإبداعاته عن الوصول إلى مثل تلك الأساليب، واسترسلوا في نذالتهم إلى زرع الخوف والجبن في حليب الأمهات.
وعادوا للمرأة، فعلموا أنها مصدر الخطر، ومنبع الرعب، لأنها المالكة لزمام العقول، والزارعة للأفكار والمبادىء، فنادوا بحريتها، حرية التنصل من القيم والأخلاق والأمومة، وفتحوا أمامها أبواب التعري والسقوط، فوزعوها بين بيوت الدعارة، وبين الشاشة الكبيرة والشاشة الصغيرة، وخلعوا عنها رداء الدين والأخلاق، وأوهموها بحقها في الاستقلال والاختيار، الاستقلال عن الرجل الزوج الذي يكد ويشقى من اجل تتويجها ملكة في مملكة الزواج والأمومة، وحقها في الاختيار بين العفة والنقاء وتخريج الأجيال، وبين الديسكوهات والملاهي والبارات والنوادي الليلة، فأصبحت تدور بين الواجب الحق، وبين الجديد المبتكر، فأضحت امرأة الشاشات العلامة المميزة للنضج والديمقراطية والتفتح والتقدم، وتحولت المراة المتمسكة بدينها وشرفها وأخلاقها إلى نغمة نشاز في السلم الموسيقي الذي رسمه الزعماء بتوصية من أسيادهم.
ثم انتقلوا نحو المناهج التعليمية، فتفحصوا السمين، ورازوا النافع، وعادوا للقران الكريم والسنة النبيوية، فعلموا أن القران مصدر الإلهام، وان السنة هي الداعم الأصلي والمتين للتعاليم القرآنية، فخفضوا الوقت الذي كان مقررا للدين، وفتحوا المجال للعلوم التي من شانها التأثير في العقل دون الروح، وطاردوا آيات الله وأحاديث الرسول، فالغوا تدريس الآيات التي تحض على الجهاد، ثم وسموا تلك الآيات والأحاديث بسمة الفكر الخصب لتكوين الإرهاب، ونزعوا كل آيات الجهاد والآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل، وتسابقوا تسابق كلاب الصيد من اجل إثبات درجات الولاء والطاعة لرعاة البقر.
من اجل هذا نسفوا بيوت، واغتصبوا نساء، ولوثوا علماء، وتاجروا بنساء، وباعوا الأرض والعرض، ومزقوا تاريخ الأمة، ونثروا الغبار على شواهد الشهداء، وتربصوا بكل من تسول له نفسه التغني بسير الأبطال والعظماء، فاغتيل الإمام، واغتيل خلفه مئات ألوف، وذبح الأطفال في وضح النهار، ونصبت الحبال، وأعلن بعز الظهيرة أن المدارس الدينية تربة خصبة للإرهاب، فاقتحمت وأغلقت، ووضع على أبوابها الشمع الأحمر، وأصبح المسلم يخشى من إطلاق اللحية أو ارتداء الجبة والعمامة، ونصب علماء السلطان مكان علماء القران، فكان ما كان، وما سيأتي سيكون أعظم من كل الذي كان.
كل هذا لا يؤثر في عقلي أو فهمي للأشياء بشيء، ولكني اعجز عن فهم الصمت والذل والخنوع والقهر من جانب الشعوب، فالزعماء يصنعون الموت والدمار من اجل أن يبرهنوا قدرتهم في فن العبودية، ولكن، ما الذي يجعل الشعوب يمارسون الصمت بنفس اللذة التي يمارسون بها العبادة؟ ولماذا أصبحت الأمة كلها- إلا ما رحم ربي- تحمل أنفاس عبد الله بن سلول؟ ولماذا تنازل أتباع الرسول عليه السلام، وأتباع الخلفاء، عن تكوينهم الثائر؟ ما الذي حول حب الموت في قلوبهم إلى شعور غير مستحب؟.
ليس الزعماء فقط هم الذين يتحملوا المسؤولية، وليس الزعماء هم الذين أتقنوا فن العبودية والذل، فالزعماء ولمصلحة شخصية بحتة تحولوا إلى عبيد أذلاء، وهم يجنون من عبوديتهم الثمن الذي يريدون، ولكن الشعوب تحولت إلى عبودية العبيد، ورشفوا ذل الأذلاء، وتنازلوا عن كرامة الآباء والأجداد، وتقوقعوا في عبوديتهم تقوقع استكانة وقهر، دون أن يحققوا أي فائدة، أو يجنوا أي ثمار، بل دفعوا مقابل رضاهم بالعبودية لمن يمارس إذلالهم واستعبادهم كل الذي يملكون من اجل تمويل الخطط المستمرة لإذلال الأجيال القادمة من بعدهم.
حين تحدثت عن ابي جهل في بداية المقال، تحدثت عن حميته، عن اعتزازه بنفسه وقومه، عن قدرته على خوض الحروب من اجل عقيدة كاذبة خاطئة، وقد كان يعلم مدى كذبها وخطأها، وقارنته بزعماء الأمة الإسلامية، ولكني أعود لأقارن أهل الجاهلية بالشعوب الإسلامية، مقارنة استغراب واستهجان، مقارنة من لا يملك إلا أن يربط حرب البسوس التي دارت بين القبائل لسنوات طويلة من اجل ناقة جرباء، مقارنة النعمان بن المنذر الذي رفض أن يرتبط دمه العربي بدم كسرى وأولاده، مقارنة لقيط بن يعمر الذي لم يكتب إلا قصيدة من اجل استنهاض الهمم العربية، مقارنة هند بن عتبة، مقارنة الجاهلية الأولى بما نحن فيه الآن.
عسير مخاض هذه الأمة، وأعسر منه ميلادها، فالأمة التي يستعبد زعماءها، تملك أملا بالنهوض، ويملك مخاضها إيذانا بولادة سليمة معافاة، ولكن الأمة التي تستعبد للعبيد أنفسهم فان مخاضها يؤذن بولادة غارقة في الذل والهزيمة، إلا أن تحدث معجزة تبدل الرحم المستعبد، ولكني اعرف بان زمن المعجزات قد انتهى مع انتهاء الرسل عليهم أفضل الصلاة وابرك التسليم.
فإذا كانت المعجزة مستحيلة الحدوث والتحقق، فما الذي سينهض بهذه الأمة يوما ما؟
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج-17-12-2005