4-
ساعات العمل المملة كان يقطعها بعض الحادثات الصغيرة .
كل ما كان يتمناه يحيى ألا يناقشوه في الأدب .
ثلاثة من رفاقه في الغرفة يعرفون عن الأدب كمعرفتهم عن سعر السكر والأرز في الجمعية التعاونية وعن ستار أكاديمي وآخر أغنيات السوق الهابطة .
إلا رجا ..
زميله الذي نقل من الدائرة لمشادة بينه وبين الرئيس المغيب عن كل تقدم فكري .
رجا المشاغب المتألق لا يعجب يحيى كثرة صراخه ومشاغبته ولكنه يشتاق لجلساته . وعلت سحابة وجهه لما استدعى آخر حوار بينهما قبل يومين :-
- أنت كضفدع الماء يا رجا .
- ولم كالضفدع ؟
- أرى الضفدع المائي لا فائدة ترجى منه يكثر من النقيق ولا يفيد أحداً .
- ومن أين جمعت معلوماتك البحرية يا أديب ؟
- أتسخر مني ؟
- لا معاذ الله ! فأنت ربان ما وراء البحار, وقائد سفين الكلم الطيب بلا نقيق , ورائد الخيال المجنح المخدر الغائب عن معارك النضال في دنيا ........
- كفى كفى أهذه نظرتك في ؟؟
- أنا أعلم يا صديقي أنك أديب راقي المنحى , عالي اللغة , لك القدرة الهائلة في تطويع اللفظ , سرمدي الوصال مع القمر, سامق العلو مع الوسن, مسافر بريبعك عن أرض لسماء, ملاح بسفينة فمرساتك قلم وصواريك رق وحلمك لؤلؤي مدفون بصدف هارب يوشوشك لما تصم القلب عن رعود خلفك ..و..
- وكفى ....حالم إذا أنا بعيد عنكم قريب من خرافات الوهم !
- صديقي أنت فهل أقفز من سور المجاملات لأرمي بقنبلة عبر حدودك حتى أجرح فيك النوم فتستيقظ ؟
- أمغيب أنا عن الواقع إلى هذا الحد ؟
- بل نائم هارب ....
- جديدة هذه النظرة
- قديمة كقدم قلمك .
لم يكملا الحوار فقد صدأت نفس يحيى فجأة لسماعه رأي رجا غير المتوقع .
تمنى يحيى أن يكون صديقه رجا الآن معه فالرعود تطرق الدائرة وتناثر الثلج الأبيض يراكم على نفس يحيى ثقلاً هائلاً , وكأن كل سقطة هي في نفسه فالدفء خارجاً وداخلاً لايسعف فما ران قد ران وأمامه مشوار اليوم العائد حيث..
رعود بشرية من زوجته , ووجوه نتاج عمره المصفر تنتظر جيوبه الثلجية لعل الربيع أسفلها يأت بفاكهة مثمرة أو جذوة من نار ..
وفي طريق العودة والحافلة تثاقل أرضاً بين بدايات الثلوج يتقدم أبو علي من يحيى ويجلس جواره بأعطافه المكتنزة التي تخفي المقعد وراءها , ولا تخفي نظرة مختلسة ليحيى تنم عن افتتاح جلسة من الحوار .
5-
رغم أن يحيى طويل القامة إلا أنه رأى نفسه جد ضئيلا أمام هذا المد اللحمي الضخم من أبي علي .
أبو علي .. مدير الأرشيف
شخصية جامدة كورق الأرشيف المرصوص المغبر . سطر هو بين السطور المقروءة غير المحبوبة لدى يحيى .
كل ما يعرفه يحيى عن أبي علي أن له ابنة من زوجته المتوفاة حديثاً , صبية في الثانوية وهذا كل ما يعرفه . ولا يدري لم لا يحبه ! ألأنه يعرف تاريخ عمله فهو سيد قابض على كل حكايا الدائرة !
أيكره يحيى أن يكون مكشوفا لغيره ؟!!
ربما ......
ويميل أبو علي على يحيى مفتتحاً حواراً ثلجياً :
- الجو بارد جداً ..
هز يحيى رأسه مؤيداً دون حروف من صانع الكلم .
- فصل الشتاء ضيق على الجميع رغم أنه فرج في نهايته .
وهز يحيى مرة أخرى موافقاً على بديهية الرجل وكأنه يعلن صراخاً مكبوتا أن قل ما عندك يا جاري فقد مللت .
- أود أن أحادثك بأمر يا يحيى .
- تفضل قالها يحيى متنفساً نافثاً زفيراً بارداً ثقيلاً .
- لي ابنة في الثانوية وهي في القسم الأدبي وبحاجة لمدرس خصوصي لها لتجتاز الامتحان فهل ترضى أن تعطيها الدروس بعد المغرب ..ما رأيك ؟؟
لم يدر يحيى بم يجيب وتلعثم ...
- ربما لا بأس لم لا ؟
- سأعطيك مبلغاً من المال على وقتك هل نبدأ اليوم ؟
هز يحيى رأسه .
لم يسأله كم ستعطيني
لم يسأله كم درساً تريد لم يسأله أين بيته ؟
فقط تذكر أولاده ووافق رأساً .
- هناك بيتي , اقتحم أبو علي صمت الأديب يحيى وأشار له سأنتظرك اليوم بعد صلاة المغرب , اتفقنا ؟
- اتفقنا , وصافحه ونزل من الحافلة مع عاصفة من الهواء البارد أثارها سكنت وجدان يحيى أشعلت فيه توقا مناقضاً لكل ما حوله ,
توقاً أن يحضن طفلته الصغيرة ويضع جديلتيها بين يديه ويقول لها :
- من أجلك يا ريما من أجلك فقط .........
وعند سفح الجبل الغربي وقف الباعة رغم الثلج الهطال يصرخون فأدموا نقاء التواجد الأبيض برغباتهم الحرى للبيع ليعودوا بدفء ليوتهم وقليل من عيش .
ويحبس يحيى مداد دمعه عنوة في ملفه الأخضر يقبض عليه دون أن يريقه فلا وقت لديه .[/color]
6-
لا طعام في الثلاجة ...ولا دفء في المدفأة
وجوه أولادك صفراء كورقك الأصفر.
ضجت كلماتها في أذنه تصر على أن تخوض في نفسه معركة حزن وترددت قدماه في الإسراع ليمر على بقالة جاره خليفة
ويتوقف !
هل سيقبل أن يعطيني اليوم بالدين أم سيزوي شفته الغليظة تذمراً ؟
وجمع يديه واضعاً جدائل ريما بينهما لتراق الدمعة على ذهبيتهما
فتقول :
- من أجلك يا ريما ..
ومن أجل ريما كانت النفس تذوب أمام خليفة وهي تحمل أكياس العدس والأرز والخبز والسكر .
ولتصمت زوجته قليلاً فيتركها مع إعداد طبق الأرز بالعدس الشهير ..
وعند بوابة قلبه وقفت الصغيرة ريما تطرق دفء الأب الحاني .
- آه كم تقت لك يا حلوة المذاق ويضمها يحيى , وتحيط بذراعيها النحيلتين رقبته قائلة :
- أبي ..
- نعم يا حلوة المذاق .
- لم لا تحضر لي الحلوى ؟
- سأفعل إن شاء الله
- وأريد ثوبا ً أيضا .
- سأفعل يا ريما .
وتوشوشه مقرقرة :
- أبي لقد زارنا خالي سعيد اليوم
خالي يقول لأمي قولي لزوجك أن يبيع قصصه . لم لا تبيعها يا أبي وتحضر لي الحلوى ؟
وابتسم يحيى .
تلك الابتسامة التي تزعج رجا فيصرخ دوما قائلاً :
- كم أكره أن يكون خاتمة حوارنا ابتسامتك هذه .
- لم ؟ بم توحي لك ؟
- مريرة هي أو ربما لتقول لي وما الحيلة ؟؟
فأنا لا أحب السكون ولا التقنع وراء ابتسام حزين ولا شعور العوز المسرف الذي يلف كينونة الرجال .
- ماذا تحب إذاً ... الصراخ ... العويل .. السرقة ...او بيع ال...؟
- أكمل بيع ماذا ؟؟ ماذا نبيع نحن الرجال في زمن قهر الرجال إننا في سوق شرس وعلى أبواب حكمة ضالة نقرض بأسنانا الضعيفة خشبية الحياة لندلف إلى غرفها ونعيش .
- أفئران نحن ؟
- بل نحن لدينا بضاعة لا نحسن عرضها .
- ماذا تعني ؟
- أنت تعرف ما أعني .
وخرج من صمته بقبلة من حلوة المذاق ريما تهزه فيها تسأله :
- هل ستبيع أبي قصصك لتحضر لي ........
ولم تكمل فالرعد على الباب يعلن وقت غذاء لم يسدد ثمنه .
[align=center][size=7]يتبع
[/size][/align]