أرز وعدس ..
قصة بقلم : سمير الفيل
خارج سور محطة السكة الحديد ، وداخل كشك الصاج القديم لصاحبه "عبد الصمد عبيد " ، وقفت هند تنتظره ، حيث لم تتعود منه تأخيرا . كانت تحكم إيشاربا زهريا ً على رقبتها التي تشبه العاج ، وتغلق آخر عروة بزرار صدفي أعلى معطفها الأسود الذي لم يمنع البرد من أن يتسلل إلى عظامها ، ويصل إلى النخاع فترتجف ، وهي في الكشك المخنوق لضيقه ، تبيع لزبائنها بأدب وحزم ، دون كلمة واحدة زائدة كما علمها الأب تماما . لا ابتسامة ، ولا ضحكة : " ده أكل عيش ، ورزق العيال يا بنتي " .
تقف في الكشك ، وتحميها المظلة القرميد المتربة التي تعرف أنها أنشئت زمن الاحتلال الانجليزي لبلدها . ألم تدرس ذلك في منهج التاريخ ؟ وهي تبتسم دائما كلما مرت بصفحة بها صورة حربية لمعركة " التل الكبير " إذ تحدق البصر في وجوه الجنود المدهوسين بعجلات الانجليز ، فتجد جنديا يبتسم وهو يموت ، ولم تربها "نظلة" أمها على الضحك أو السخرية من آلام الآخرين ، غير أن الصورة تهلك من الضحك ، وهذا لايهم كثيرا ، الشيء الذي لفت نظرها أن رائحة البارود الذي أطلق حينذاك كان يدغدغ أنفها ، وكأن العام 1882 ، والسور الذي تستند عليه يحمل عبارات صارت تشاهدها في كل مكان تذهب إليه " الأهلي حديد " ، " الزمالك يامدرسة " ، وهي خرجت من المدرسة عند الصف الثالث الإعدادي حين أتي العريس اللقطة إلى أبيها وكان قد رآها في صباح يوم مشمس ، وقطــرها لمنزلها .
سأل القهوجي ، والعجلاتي ، والمكوجي ، فأفادوه أنهم ناس على قد حالهم ، الأب يبيع المثلجات بكشك علي سور المحطة ، وعنده سبع بطون من العيال : أربع بنات ، وثلاثة أولاد .
خشيت هند أن تخبر الأب قاسي القلب أنها تريد صبي المكوجي الولد فتحي ، الذي كلما رآها ، نظر في الأرض ونطق بصوت خفيض ضاحك :" أرز وعدس " . كتمت سرها في عبها، وقالت لنفسها : " ربنا موجود " .
جاء و أهله ، قرأ الفاتحة ، وألبسها الشبكة في حفل بسيط فوق السطوح ، وبعد أن تأخر "الجهاز "، جادل الأب ، وأسمعه ما يوجع القلب . جاءها منكسرا ذات ليلة : " دبريني يابنت . العين بصيرة والأيد قصيرة ، واللي تحكمي بيه .. هامشيه ! " . كان صوته منكسرا وحزينا ، فأبكاها دون أن تزرف دمعة واحدة . شعرت بالمهانة ، وكانت القشة التي تعلقت بها لتهرب من هذه الزيجة التي لم تسترح لها يوما : " لا أريده يابا " .
وبالمعروف ، جاءت أم العريس ، وجلست في الأنتريه القديم ، وضعت ساقاعلى ساق : "حاجة ابني على داير مليم " .
وفعلا ، من الحجرات المتهالكة ، جمعوا لها أطقم الصيني ، والورد البلاستيك والخلاط الكهربي ، ومسجل كالجاموسة بروحين ، وطاقم من الملابس "الشفتشي ".
مضى كل إلى حال سبيله ، وفعلتها أمها ، إذ كسرت قلة وراءه ، فنظرت أم العريس لابنها الذي كان ينتظرها على الناصية وهي توكزه : " أمشي يابني . مد طوالي . دول متغاظين طبعا .. هيلاقوا زيك فين ؟ "
لم تكن هند جميلة ، ولم تكن قبيحة ، هي فتاة بين بين ، لها نمش خفيف في وجهها ، كان فتحي صبي المكوجي يشاغبها ، وكلما مرت همس بصوت لايكاد يسمع " أرز وعدس " ، فالنمش الخفيف بألوان تبرق يزين الوجنتين ، وكانت تعرف أنه سيموت عليها ، وظنت انه سينساها ، لكنه ظل يردد هذه العبارة السحرية التي تذكرها بطفولة سعيدة مرحة ولطيفة " أرز وعدس " ، ولم تكن تغضب ، لأنها الوحيدة التي تسمعها ، وعندما طلبوا فتحي للجيش بكت . أخفت وجهها في وسادة ، وأحضرت مسجلا قديما من جارتها أم عطا ، وراحت تسمع صوت عبد الحليم حافظ ، وهو يغني " صافيني مرة ، وجافيني مرة " ، وكانت عبر أشهر مضت ترى الولد فتحي يعلي مؤشر الراديو كلما جاءت أغاني حليم في برنامج "على الناصية " ، ولما راح الجيش ، ولبس الكاكي ، وغاب شهرا ونصف طلبت من " نظلة " أن تطبخ لها أرزاً وعدسا ً ، فاستغربت الأم ، ونظرت إليها في استفسار : "عجايب ، من أمتى بتحبي الأرز والعدس؟ "
سهمت هند ، ونطقت كالمغيبة ، والتي تعيش حلما لا تريد أن تفيق منه : " من النهاردة يا أما . "
والأب عبد الصمد تعب صدره ، وسعل سعالا منتظما ، حتى أنه بصق في منديل أبيض بقعاً من الدم . لطمت الأم ، وذهبت به للدكتور اسماعيل في زقاق مريم ، فأدخله ، وعرى الصدر ، ودق بأصابعه على الصدر والظهر ، وطلب منه أن يكح ، وطلب تحاليل لم يجدوا معهم حقها ، فعلم المعلم عوض الكرتة ، سمسار الحارة ، وهو الرجل المزواج ، فعلى ذمته أربعة ، وقبلهن أربعة ، لكن الغريب أنه خيب ظن المتربصين له وطلع ابن أصول ، لقد ضرب يده في جيب معطفه ، ودفع مائتي جنيه كاملة لنظلة على مرأى ومسمع من البنت هند ؛ لأن الجيران أهل ، والنبي وصى على سابع جار .
خرجت نظلة بالتحاليل ، وصور الأشعة ، وروشتات العلاج ، ومعها زوج مصدور يحتاج إلى راحة ستة أشهر .
هند الكبيرة من البنات ، وبعد فشل خطوبتها ، كانت الوحيدة التي يمكنها أن تقف مكان أبيها في الكشك ، وتعمل في مكان زبونه من النوع الطياري ، وغيردائم ، فخلعت الملون ، وارتدت الأسود الكاسي ، كما لمت الضفائر خلف الإيشارب ، وأزالت طلاء الأظافر ، لكنها لم تستطع أن تمسح الكحل الرباني !!
وقفت مكان الأب المصدور، وعاملت الناس بالحسنى ،فأحبها وقدرها أصحاب الأكشاك المجاورة ، لكنها في مرة سمعت صوتا يطلب منه زجاجة " حاجة ساقعة " . دون أن تنظر إلي مصدر الصوت ، وفي غمرة انشغالها ، فقط لمحت زيا كاكيا ، سألت : " أي نوع يادفعة ؟" وصلها صوت ألفته : " أ رز وعدس" .
خرجت من الكشك الصاج ، وخجلت من أ ن تسلم عليه ، مد يده ، فمدت يدها ، وتلون الأفق بلون أزرق مبهج ، وجاءت وردتان واحتلتا الوجنتين .
لم تكن جميلة ولا قبيحة ، لكنها شاطرة ، وتحب الناس ، وفتحي سألها عن العريس، فعرف أنها تركته ، أخفت عنه أنها فعلت ذلك لأن قلبها يدق كلما أدار المؤشرفي محل المكواة ، وسمعت حليم يصرخ كأنها خناقة "حبك نار .. يامدوبني في أحلي عذاب .. بابعت لك بعنيا جواب " .. وضع بين يديها شيئا ، ومضى ، وأخبرها أنه سيكون هنا من طلعة الشمس . فتحت يدها . إنها في باله ، يالغرابة المقادير . كانت دبلة من الفضة عليها عبارة حين قرأتها استغرقت في الضحك : " أرز ،وعدس " .
لقد ظهر في أول الطريق ، كان مبتلا ، ورأ سه الحليقة تنزلق عليها زخات المطر ، فراحت تشير له أن يجري بسرعة ويحتمي بالمظلة القراميد التي تظلل الأكشاك .
كان قد سبقها ، فدخلت خلفه . أراد أن يضع يده على كتفها ، جذبتها ، و زغرت له : " أنا بنت الأسطى عبد الصمد يافتــحي ، ولا نسيت . إتلم ."
كانت شاطرة ، وجدعة ، وبنت بلد ، وقد اتلم فعلا ، وانشقت الأرض ، وابتلعته ، رغم أنه أمامها لحم ودم .
ظل صامتا ، لا يعرف كيف يتصرف ، لكنها جرجرته في الكلام : "عامل ايه يااخويا في الجيش ؟ "
هز رأسه : " كويس ، أخدنا أجازة 72 ساعة . جيت لك عليك على طول . على فكرة الحاجة موافقة على الخطوبة ، وهنقرا الفاتحة قريب جدا "
ردت بألم : " لما أ بويا يقوم بالسلامة ."
لم تكن قد تناولت إفطارها ، وكان يشعر بالجوع . أستأذن ، وغاب فترة طويلة ، فيما ظلت تبيع للمارة ما يطلبون من سجائر ، ومناديل ، وبسكويت ، وحجارة طورش ،ولوازم المدارس من كراسات وأقلام ، ومساطر .
فـجأة وقفت سيارة سوداء فخمة ، فُتح بابها ، ونزل منها جارهم
المعلم عوض الكارتة ، ولم تكن تستريح له . كان المطر قد توقف ، ولكن برك الوحل تتجمع دوائر دوائر على امتداد المسافة من الكشك إلى الطريق . أقبل عليها هاشا باشا ، وحافظته الجلدية المنتفخة بأوراق البنكنوت تكاد تفط من جيب جاكتته : " صباح الخير يا عروسة . لا مؤاخذة القرشين دول ليك أنت .. مش للأسطي عبد الحميد " .
مد يده الغليظة بوشم السيف ، فتراجعت قليلا وهي تواجهه بحدة وغلظة : " بتاع أيه يامعلم ؟ "
ضحك ، وهو يمسح جسدها من فوق لتحت ، ودب نظره في عينيها : " بدون لف ودوران .. إحنا طالبين القرب ياست . "
ردت باستنكار : " في مين يادلعدي؟ "
بادلها الاستنكار بسخرية موجعة : " من محسوبك المعلم عوض الكارتة . أيه ما نشبهش ؟ "
حدقت في نظرته الشهوانية ، وأجبرته على التراجع : " لا ، ماتلزمنيش ، يا معلم " .
ضرب الرجل كفا بكف ، وظلت يده ممتدة بالمبلغ ، بنبرة إغراء أخيرة : " هالبسك حرير في حرير ، وأكلك بط ، وأوز ، ولحمة يا بنت ياهند ، ده انت تستاهلي تقلك دهب " .
رمت جملتها في وجهه، بدون تفكير : " أنا باحب الأرز والعدس " .
دفعت يده في حدة ، فتراجع مدحورا ، في تلك اللحظة بالتحديد ، جاء فتحي بصينية نحاس فوقها طبق فول صغير ، وأقراص طعمية ساخنة ، وفحل بصل ، مع بضعة أرغفة بلدي .
نظر عوض الكارتة لغريمه ، وشمله بنظرة ازدراء شديدة : " هو ده اللي هتبعيني علشانه يا شاطرة ؟ "
ردت بنفاذ صبر : " القلب ومايريد " .
قبل أن ينصرف المعلم ، وفيما كان يشملها بنظرة تهديد ، أمسكت يد فتحي ووضعتها على كتفها ، والشاب استغرب لما رأى ، لكنه انبسط على الآخر . انتزع المعلم قدميه وابتلعته العربة . عندما غار بعيدا شالت يده وألقت بها في الفراغ . ضحك من القلب ، فقد فهم أخيرا ، وفهمت أنه فهم . لقد اشترته وهو الفقير المعدم . لكنها أمرته أن ينسى ما سمع . فرشت صحيفة قديمة ، وجلست تفطر معه ، وقلبها ممتليء بغبطة لاحد لها . لاحقته بابتسامة خطفت قلبه : " ولد يافتحي .. هو الأرز والعدس لذيذ ياولد ؟! " .
القاهرة 9/ 8/ 2004.