الأستاذ
نص قصصي بقلم / مجدي محمود جعفر
(1 )
على جرف نهر صغير ، تحت شجرة صفصاف ، والشمس تنحدر صوب الغرب ، وتبدو من خلف أشجار النخيل الباسقات ، الواقفات على الشط المقابل ، ككرة مائلة حمراء ، تعكس كل ألوان " قوس قزح " يجلس رجل ، مرتديا نظارة طبية سميكة ، يسند ظهره إلى جذع شجرة الصفصاف ، ويمدد ساقيه ، ويمسك بكلتا يديه كتابا ضخما .
يقتحم عبدالله النهرى خلوته :
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لم يرد الرجل السلام
عبدالله مكررا :
- السلام والتحية لأستاذنا .
لم يرد الرجل السلام ولا التحية .
عبدالله رافعا صوته ظنا منه أن الأستاذ به صمم :
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأستاذ ناظراً له بطرف عينه من خلف النظارة ، وبحسم :
= احترم جلستى مع الكتاب .
عبدالله :
- أسف ، أسف يا أستاذ .
الرجل " مشيرا بيده " :
= الزم الصمت ؟!.. يمكنك أن تنتظر أو لترحل !
[ عبدالله منسحبا للخلف ، وجالسا على بعد خطوات منه ، ومنشغلا عنه بالنظر إلى الشمس المائلة ، وأشجار النخيل على الشط المقابل ، وماء الترعة المنساب برقة ، والخضرة المفروشة على مرمى البصر ، وبالفلاحين العائدين من الحقول ، يمتطون الحمير ، ويسحبون البهائم ، ولا يلقون بالسلام على الأستاذ المتوحد مع الكتاب ، احتراماً لخلوته ، وعلاقته الحميمة بالكتاب ، فأجلهم ، وأكبرهم فى نفسه .
تُرى ما هذا الكتاب الذى استحوذ على عقل ووجدان وحواس الأستاذ ؟! .
عبثا يحاول أن يلقط إسم الكتاب ، أو اسم مؤلفه ، فربما معرفة عنوان الكتاب أو اسم مؤلفه – يدخله إلى العالم الذى يعيش فيه الأستاذ – العالم الذى شغل الأستاذ عنه وعن كل ما حوله .
راح يتأمل ذقن الأستاذ النابتة ، وجلبابه المتسخ ، وشعره الأكرت الهائش ، والشعر الأبيض الذى غزا ذقنه ورأسه ، وتساءل فى نفسه :
- منذ متى لم يحلق الأستاذ ذقنه ويهذب شعره ؟
ومنذ متى لم يغسل جلبابه ؟
ينحسر الجلباب المتسخ ، والمهترئ عن جزء من ساقه ، فيرى أن الساق قد امتلأت بالدمامل ، والبثور ، وآثار الأظافر من دم فاسد ، وخطوط حمراء ، وبقع سمراء .
راح يقرن فى ذهنه بين ما كان عليه الأستاذ – وما آل إليه حاله ، يحاول أن يجمع ما قد تناثر إلى سمعه عنه من الذين يعرفونه ، وخاصة رئيس التحرير .
هل هذا هو مدرس الفلسفة ، الذى ورث عن أبيه ، أغنى أغنياء المنطقة ، عشرات الأفدنة ؟!..
هل هذا هو مدرس الفلسفة – الذى لم يعمل بالتربية والتعليم غير أسبوع ، ودخل الفصل لأول مرة ، مرتديا جلبابا أبيض نظيفاً ، فضفاضا ، ومنتعلا " بلغة " بنية خفيفة ، يفوح منه العطر الباريسى ، ضاربا عرض الحائط بالتقاليد والأعراف المدرسية ، لاعنا فى أول يوم .. الوكيل ، والناظر ، والموجه ، ومستشار الفلسفة ، وممزقا الكتاب المدرسى ، ولاعنا المنهج ، والقولبة ، والحجر على العقول ، والتعليم فى حجرات مغلقة ، والأسوار حول المدرسة ، وكان أول مدرس يفاجئ الجميع ، بالقفز من شباك الفصل أمام الطلاب ، ومن فوق السور العالى ، الذى يلف المدرسة ، ولم يدخل بعدها المدرسة أبدا .
الشمس كرة صغيرة فى الأفق ، والأستاذ يمد يده " يهرش " ساقه بقسوة ، تسرى رعدة خفيفة فى جسد عبدالله وهو يرى القيح والدم الفاسد .
ومازال الأستاذ مشغولا بالكتاب لا يشعر بوجود عبدالله ولا حتى بساقه التى تنز الدم و المدة ".
خطر ببال عبدالله أن يتمرد ، أن يلفت انتباه الأستاذ إلى وجوده .
أمسك ببعض الأحجار ، وراح يلقى حجرا تلو حجر فى ماء الترعة ، ارتطام الأحجار بالماء تحدث ضوضاء وجلبة ، وتصنع دوائر تلو دوائر ، تتداخل ، وتتسع ، وتضيق .
ولما لم ينتبه الأستاذ ، فكر للحظة – أن يلقى بالحجر فى رأس الأستاذ .
راقته الفكرة ، لم يفكر فى النتائج ، ولا العواقب ، أمسك ببعض الحصى ، انتقى حصاة صغيرة بحجم حبة الفول ، قلبها بين إصبعيه ، تأملها ، نظر إلى رأس الأستاذ ،وصوب الحصاة واستقرت فى شعر الأستاذ ، ولما لم ينتبه قال فى نفسه وهو يمسك بحصاة أخرى أكبر حجما :
- على أن أزيد من قوة الدفع ، وأبعد قليلا عن شعره ، فهذا الشعر الكثيف الهائش مثل صوف الغنمات ، قادر على حماية فروة رأسه .
تخير إخدودا بين عرقى القفا ، صوب ، ولكنه أخطأ ، وارتطمت الحصاة بجذع شجرة الصفصاف ولم تحدث أثرا يذكر .
... كانت الشمس قد اختفت تماما ، والأستاذ طوى الكتاب ، ووضعه إلى جواره ، وراح ينظر إلى نجمة تبزغ فى السماء .
قال عبدالله فى نفسه :
- إذا خاطبته الأن سيثور ويقول لى : احترم صمتى ؟!
راع عبدالله فى تلك " الغبشة " ، منظر أنف الأستاذ وأذناه ، وقال فى نفسه :
- ما بال أنف الأستاذ طويل ممتد ، وفتحتاه واسعتان مثل طاقتى فرن ، وأذناه طويلتان ، كبيرتان ، مثل أذنى حمار !!
.. حدثه رئيس التحرير عن علاقة الأستاذ بالناصريين ، والشيوعيين والساداتيين ، والإخوان المسلمين ، عن علاقته بإسرائيل كأول من قام بالتطبيع مع العدو !!
عن محاولاته فى الرواية والمسرحية ، وإنشاءه لفرقة مسرحية ، عن بيعه لأرض أبيه فدانا وراء فدان .. عن نزقه ، وطيشه ، ومغامراته .
عن السنوات التى قضاها خلف القضبان ، عن.. وعن ..
.. ينظر عبدالله الى الأستاذ الذى نهض فجأة ، ونزع جلبابه ، فبدا فى ملبوساته الداخلية ، فارعا ، مشدود القوام ، رغم تجاوزه الستين ، تمطع ، وفرد ذراعيه ، وثناهما ، فبرزت عضلاته وبدت ككرة جلدية منتفخة ، ثنى جذعه يمينا ويسارا ، حرك ساقيه ، جرى فى المكان ، مارس بعض التمارين الرياضية ، وفوجئ عبدالله به . يخلع ملبوساته الداخلية ، وبدا له عاريا تماما ، وقفز الى الترعة ، يفرق الماء بكلتا يديه ، وكسمكة كبيرة راح يسبح فى الماء .
فكر عبدالله أن يسرق ملابسه ، ويتابع من بعيد آثار اختفائها ، وكيف سيتصرف ؟!.. ويرصد بالكاميرا والقلم رد الفعل عنده ، ولكنه تراجع عن هذه الفكرة الصبيانية .
" وضحك "
- لو كانت امرأة أو صبية لفعلتها !.. وقد سبقني امرؤ القيس !.
يخرج الرجل من الماء ، ماسحا بيده رذاذ الماء المتبقى على جسمه ، ونافضا ما علق بشعره ، ويرتدى ملابسه،
ويقف متمتما بكلمات ، ثم رافعا يده لأعلى ، ورافعا صوته : الله أكبر ، ويشرع في الصلاة .
أطال في الركوع وفي السجود .
يقول عبد الله في نفسة :
ـ هذا الشيوعي القديم الذى جهر للناس ، بإلحاده ، يصلي ! نقل له رئيس التحرير ، الذى زامله ، ورافقة طويلا ، أنه ما صام ولا صلي ، وأول مرة دخل فيها المسجد ، يوم أن خطب ابنه الشيخ ، كبير الإخوان في الناحية .
يصغي عبدالله إلى دعائه ، وتبتله ، وتقربه ، إلى بكائه ، ودموعه التي تنهر . كم من الوقت مر عليه وهو يصلي ؟.. ساعة ، ساعتين ، لا يدرى . ولما فرغ من الصلاة ، عاجله عبد الله بمد يده قائلا له :
ـ تقبل الله يا أستاذ .
احتضن الأستاذ يده وقال :
= تقبل الله منا ومنك
وملتفتا إليه :
= من أنت ؟!
- عبد الله النهرى .
= من أمك ؟
عبد الله ضاحكا :
ـ ولماذا أمي
= ألست بلدياتي ؟!
ـ نعم
= إذن قل لي من أمك ـ أقل لك من أنت !
عبد الله ضاحكا :
ـ صدقت يا أستاذ !
عموما أمي سيدة طيبة ، ابنه رجل طيب ، فأمي هي فلانة ، بنت فلان ..، ولا أعرف أكثر من هذا !! .. أما نسبي لأبى ، أستطيع أن أصل معك به إلي الجد العاشر .
الأستاذ ناهضا :
= هيا ، انهض معي ، فأنتم جيل مقطوع الصلة ، فيما مضي كانت شجرة الأنساب مهمة .
ومتأبطا ذراع عبد الله
عبد الله :
- إلى أين ؟!
= أشعر بالجوع . قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟
- وما أدراك أنني جوعان ؟!
= انتظرتني ما يقرب من ست ساعات .
ـ إذن كنت تشعر بوجودى ، ولم تعرني اهتماما .
= أدركت أنك فنان .
ـ كان هذا أدعي أن تهتم بي ، وتوليني الاهتمام .
= طبعا لا تكتب الشعر .
ـ وما الذى جعلك تجزم بهذا ؟
= الشاعر قلق بطبعة ، ولا يطيق الانتظار .
ـ وماذا تراني أكتب ؟
= الرواية أو المسرحية ، هذا يحتاج إلى دأب ، وصبر وأناة .
ـ أحترم ذكائك، وأقدر فراستك ، ولكنني جئتك كصحفي حيث أنني ..
= أوشكنا علي دخول العزبة ، قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟
ـ الموجود يا أستاذ . ولكن الجريدة التي أعمل بها .. كلفني رئيس التحرير ..
= كل شي موجود !
ـ ربنا يزيدك ، ويوسع عليك يا أستاذ ، لكن التحقيق الذى يريده رئيسي ..
الأستاذ مشيرا إلي أول دار بالعزبة
= أهل هذه الدار يطبخون ملوخية بالأرانب ، هل تحب الملوخية بالأرانب ؟
عبد الله " مستغربا " :
ـ في الحقيقة يا أستاذ ـ أنا أكره منظر الأرانب بعد ذبحها وسلخها ، فتبدو لي مثل الأطفال !
= إذن في هذه الدار
" ويسحب شهيقا "
= لحم بط بلدى " ومحشي " ورق عنب .
" عبد الله متعمدا أن يسير بالأستاذ أطول فترة ممكنة ، ليتأكد مما جال بخاطره للحظة ، وهو يتأمل أنف الأستاذ ، وأذناه ، خاطر ومض في رأسه كالبرق الخاطف "
ـ والله يا أستاذ أنا لا احب لحم البط .
= باذنجان مقلي
= عدس
= طعمية
= فطير
- القولون .. القولون يا أستاذ
= لا بأس .. ألف لا بأس .. إنه داء العظماء ! ، علينا إذن بالبحث عن المسلوق .
" يستنشق بعمق ، يضجر قليلا .."
= رائحة السمك تطغى ، وتنتشر فى هذه الدار .
ورغم رائحة السمك الزاعقة ، أشم رائحة فراخ ولحم مسلوق .
" يقف أمام الدار ، يصفق ، ينادى .."
صوت امرأة من داخل الدار :
ـ - ادخل يا أستاذ تمام .
= معي ضيف
ـ - علي الرحب والسعة .
= أين زوجك يا بت ؟
ـ - راقد في السرير
= كنت أعلم أن نهايته الرقود في السرير !
ـ - تفضل في " المندرة " يا أستاذ تمام .
علشان خاطر الأستاذ .
= الأستاذ ليس غريبا .
المرأة الشابة ناظرة لعبد الله !
ـ - نورت العزبة يا أستاذ .
ـ منورة بأهلها .
" الأستاذ تمام دافعا باب الغرفة ، ينهض الرجل الراقد تحت البطانية ببطء ، يتفرس الأستاذ في وجه الرجل الأصفر الباهت ، يمسح له عرقه الذى يشر بفوطة قديمة ، ملقاة بجواره علي السرير "
الأستاذ تمام ضاحكا :
= وهذه أخرة الشقاوة
" وناظرا إلى المرأة الشابة "
" المرأة الشابة مدارية وجهها بطرف من طرحتها السوداء وقائلة بخجل :
ـ يوه بقي يا أستاذ تمام ، ما هو اللي عايز كده ، وياما نصحته ، هو في أحسن من .. هيء هيء .. هيء هيء ..
الأستاذ تمام ناظرا للرجل :
= إياك تكون اعتبرت . هل نظرت في المرآة ، ورأيت كيف هزلت ، وأصبحت مثل عود الحطب أو عود القصب الممصوص ..
الرجل وهو ينهج ويكح :
* خلاص .. توبة من بعد النوبة .. أرجع للحاجات دى تاني ، منه لله عبده البقال ، وسعيد الحلاق .
المرأة الشابة :
ـ - عندنا سمك يستاهل بقك يا أستاذ تمام أنت والأستاذ .
= أنا ضعيف قدام السمك . أما الأستاذ مالوش في السمك .
ـ - خير ربنا كتير ، عندنا لحمة ، وفراخ ، ورز ومرقة .
= خلاص .. الأستاذ يأكل لحمة وفراخ مع العجل اللي وقع ده وأنا أكل معاكم سمك .
ـ - ما خلاص بقى يا أستاذ تمام . الرجل قال لك توبة بعد النوبة ..
= بالذمة يا له ما هي اللي كانت بتشجعك ؟
" هي منسحبة ، تاركة خلفها ضحكة طويلة ، ممطوطة ، مسرسعة "
الرجل :
* كفاية تأنيب يا أستاذ تمام ، أنا شفت الموت . لولا ستر ربنا ..
الأستاذ تمام :
= المهم أن الراجل الجدع ، هو اللي يراجع نفسه ، ويحاسبها ، وما يعودشي للغلط تاني .
" وما كاد الأطفال العائدون من الشارع يسمعون صوت الأستاذ تمام ، حتى عدوا نحوه ، وفي صوت واحد :
ـ جدو تمام .. جدو تمام ..
يتلقفهم بين ذراعيه واحدا تلو آخر ، ويغمرهم بالقبلات . فيما كان عبد الله " يزر " عينيه ، ويركز بصره علي مشهد الأستاذ الذى يحتضن الأطفال ، ثم ينقل بصرة إلى الرجل الراقد علي السرير يئن ، والي المرأة الشابة االعفية التي تغدو أمامهم وتروح حاملة حللا وملاعق وأطباقا ، ويفكر في ذلك الشيء الذى يتنافس علي بيعة عبده البقال ، وسعيد الحلاق لأهل العزبة الغلابة ، ولا يدرى ـ لماذا ـ بدا له أنف الأستاذ علي ضوء المصباح أكبر بكثير مما تصور !"
( 2 )
" الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله ، وقد غادرا شوارع العزبة تماما .."
عبد الله :
ـ إلى أين ؟
= لا تسلني عن شئ ؟!
ـ لكنني جئت مخصوصا لأحاورك وأسألك .
= السؤال لغير الله مذله .
ـ عموما سأصبر حتى النهاية .
= لن تستطيع معي صبرا .
- سأصبر حتى أرى الكرامات .
= أقالوا عني وليا ؟!
عبد الله ضاحكا :
ـ بل قالوا : شيوعيا ، ثم ناصريا ، فساداتيا ، و ...
" ومحاولا أن يستفزه ، ويجره إلى الحديث " :
ـ وقالوا : أنك أول من قمت بالتطبيع مع إسرائيل !!..
والرجل الغلبان الراقد في فراشه يصارع الموت . بسبب التطبيع .
" الأستاذ تمام نافخا ، وهازاً رأسه ، ومتوقفا عن السير ، ولازماً الصمت ، وناظراً في اتجاه أشجار كثيفة على بعد أمتار من جانب الطريق .
يبحلق عبد الله في الظلام ، مركزا نظره في الناحية التي ينظر إليها الأستاذ .. بصعوبة يرى شواهد قبور ، يسير الأستاذ ناحية المقابر ، وعبد الله في أثره .
يقف الأستاذ أمام أحد المقابر في جلال وخشوع .
وقع في قلب عبد الله وهو يرى القبر ينفتح ، وفي لحظة زمنية كالومضة ، يرى القبر كطاقة نور ، يتسع شيئا فشيئا ويصبح باتساع الكرة الأرضية . والأستاذ تمام سابحا في النور ، وامرأة حسناء ، ترتدى حلة خضراء ، يشع وجهها بالضوء الباهر ، تمسك رأسه بين يدها ، تهزه يمنه ويسرة ، وتبتسم ، وصوت قوى يتردد صداه في كل مكان .."
" وينتبه عبد الله فجأة علي صوت نحيب الأستاذ تمام ـ المتصلب أمام القبر ، تنهمر الدموع من عينه ، ولا يدرى عبد الله إن كانت الدموع التي تسقط من عيني الأستاذ قطرات وحل سوداء ، أم قطرات ضوء بيضاء ، وينسحب الأستاذ ، ويحس به عبد الله رشيقا ، خفيفا ، وكأنه تخلص من أحمال ثقيلة "
الأستاذ تمام :
= أمي !
عبد الله :
ـ رحمة الله عليها
الأستاذ تمام :
=جميلة وسعيدة .
عبد الله :
ـ أجمل من رأيت !
الأستاذ :
= الزم .. ولا تفصح !
عبد الله :
=حملك ثقيل
الأستاذ :
= سعيد بحمله
عبد الله :
ـ ينتقي الله قليلا من عباده ، الذين هم أهل للتلقي .
الأستاذ :
=المهم أن تجاهد .
عبدالله " متنهدا" :
- نجاهد ماذا .. ولا ماذا ؟!
الأستاذ " مرددا قول الشاعر :
= إبليس والدنيا والنفس والهوى ..
عبدالله " مقاطعا " :
- الخلاص . كيف الخلاص وكلهم أعدائي ؟!
الأستاذ :
= ابدأ ؟!
عبدالله :
- من أين أبدأ ؟
الأستاذ :
= كل الطرق تؤدى إليه إذا التزمت أوامره وتجنبت نواهيه .
عبدالله :
- دلنى على الطريق .
الأستاذ :
= اختر الطريق الذى يناسبك .
عبدالله :
- ولكنك .. اخترت الصعب .
الأستاذ :
= كل ميسر لما خلق له .
عبدالله :
- تنفذ من سم الخياط ، وتمشى على الماء ، وتطير فى الهواء .
الأستاذ :
= لا يغرنك !
عبدالله :
- ماذا أفعل ؟
الأستاذ :
= كابد وجاهد .
عبدالله :
- أنا محاصر ، الأسوار ، الدوائر الحمراء ، رئيس التحرير ، الزوجة ، الأولاد ،... ، الدائرة تضيق ، وتضيق ، أكاد .. ، ..
الأستاذ :
= لا تتذمر ، لا تشك ، افعل ؟
عبدالله :
- الكلمة سبقت الفعل .
الأستاذ :
= اجعلهما متلازمين .
عبدالله :
- اتسعت الهوة بينهما وتباعدت المسافات .
الأستاذ :
= عليك بنفسك .
[ يتوقف الأستاذ أمام " خص " على رأس غيط أذرة .. ]
ينطلق صوت من داخل الخص :
· ادخل يا أستاذ تمام أنت وضيفك .
الأستاذ تمام لعبد الله :
= لا تندهش يا عبدالله ، إنه رجل طيب ، سخر الله له الوحوش ، والطيور والثعابين ..
عبدالله :
- رفاعى !
الأستاذ :
= لكلٍ مقامه ومقاله.
[ الأستاذ داخلا ، ووراءه عبدالله ، يفزع عبد الله ]
الرجل متفرسا فى وجه عبدالله وقائلا له :
· اجلس ولا تخف ؟!
[ كلب وذئب يلعبان ، قط وفأر يتسامران ، أفاع وحيات تسعى ، بوم وغربان ، حمام وعصافير .. ]
الأستاذ تمام للرجل :
= عبدالله ..
الرجل " ناظرا لعبد الله " :
· جدتك لأمك كانت من الطيبات ، كان اسمها نفوس ، أليس كذلك ؟!
[ عبدالله محاولا ألا يظهر دهشته ]
- نعم .. هذا هو اسمها .
الرجل :
· جعل الله الشفاء بيدها ، بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ..
الأستاذ تمام " متدخلا " :
= رحمها الله ، كانت من العارفات ، وكان لقلبها عيون ، رأت طريقي ، جرتنى أمى إليها وأنا فى زمن الطيش والرعونة .. آه لو أخذت بما قالت يومها ، لتجنبت الكثير من المطبات ، واختصرت الطريق .
الرجل :
· خطا مكتوبة ، لابد أن تخطوها ، وطريق مرسوم لا بد أن تسير عليه .
الأستاذ تمام :
= نعم .. نعم .. رحمة الله عليها ، الفاتحة لروحها .
[ الرجل متناولا " فردة " حذاء قديم ، ومطوحا بها فى الفراغ خارج الخص ] وقائلا بغضب :
· اغرب يالعين ؟!
ومتمتما بكلمات .
[ عبدالله مندهشا ، من عودة الحذاء الى مكانه ، ومن ثورة الرجل المباغتة ]
الرجل :
· شيطان لعين !
عبدالله محاولا أن يتماسك :
- طمأنك الله .
الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :
= لا تأخذ كلامه مأخذ الهزل ، إنه رجل طيب .
الرجل :
· دعه يا أستاذ تمام .
عبدالله :
- أنا أحببتك والله ، وأثق فيك .
الرجل :
· أحب الله ، وثق فيه .
عبدالله :
- أرنى طريق ؟!
الرجل :
· لا أقدر على البوح .
عبدالله :
- ولو إشارات .
الرجل :
· وهل نتلقى يا ولدى غير إشارات ؟!
امض فيما أنت ماضٍ فيه ؟
عبدالله :
- أخشى أن يوردنى هذا الطريق الى التهلكة .
الرجل :
· لا تخش الأزمات ، ولا الهزائم ، ولا الانكسارات .
عبدالله :
- أحلامي كبيرة ..
الرجل :
· وعزيمتك كبيرة ..
عبدالله " مشيرا الى الأستاذ تمام " :
- أريده ..
الرجل مقاطعا :
· تمام مسير .
عبدالله :
- خاض نفس الطريق وفشل ..
الرجل :
· لا تتعجل فى الحكم يا ولدى .. من قال أنه فشل ؟
[ الأستاذ تمام متدخلاً ]
= عبدالله أصاب كبد الحقيقة .
الرجل :
· الحقيقة ، الحقيقة ، ومن عنده الحقيقة يا أهل الطريقة ؟
الأستاذ تمام :
= بمقياسهم فشلت .
الرجل :
· المقياس خاطئ .
عبدالله :
- الأستاذ تمام يستحق مكانا ، ومكانة ..
الرجل " مقاطعا " :
· ومن أدراك يا ولدى أنه ليس فى مكان أعلى مما تتصور ، تمام ارتفع ، وارتفع ، بقدر ما كابد وجاهد .
الأستاذ تمام للرجل :
= عبدالله أديب .
الرجل :
· أعرف أنه من أهل الكلام ، ومن أهل الفعل أيضا .
عبدالله :
- مازلت أتعثر فى البدايات .
الرجل :
· ثق فى نفسك .
[ الرجل مشيرا بيده ، ومتمتما بكلمات غير مفهومة . ]
فوجئ عبدالله بأفعى تحمل " منقدا " عليه أخشاب شبّت فيها ألسنة النار ، كاد أن يقع قلبه في رجليه ، لولا أن استحضر بعض شجاعة وثقة وتماسك ، والذئب يحمل " كيزان " أذرة فض غلافها ووضعها علي النار التي خمدت ، والطير يخفق بأجنحته علي النار .
يتناول الرجل ثمارات الذرة المشوية ، ويقدمها للأستاذ تمام ولعبد الله .."
الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :
= هذا قطر من فيض غمر به الله هذا الرجل .
" الرجل ناهضا ببردته البالية ، ربت علي كتف الأستاذ تمام ، وشد علي يد عبد الله ، وفجأة اختفي .."
عبد الله " مندهشا " :
ـ أين ذهب ؟!
الأستاذ تمام :
ـ لا تسأل .
عبد الله " ناظرا حوله " :
ـ أين الأفاعي ، والحيات التي كانت تسعي ، والكلب الذى يداعب ذئبا ، والقط الذى يسامر فأرا و..و..
الأستاذ تمام :
=أرجو ألا تشقي بما رأيت .
عبد الله خارجا من الخص وناظرا إلى السماء :
ـ ( لا اله إلا أنت سبحانك )
الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله :
= قل لي .. فيما كنت تريدني ؟!
عبد الله :
ـ يخيل لي ، بل أكيد أنك تعرف . ألست من الذين كشف عنهم الحجاب ؟!
الأستاذ تمام :
= أين أنا يا ولدى من هؤلاء ؟ ..
إنهم صفوة ، يختارهم الله ، وأنا مازلت غارقا في الوحل والطين .
عبد الله ناظرا للأستاذ تمام :
ـ بل شفت نفسك ، ورقت ، وتخلصت من الطين .
الأستاذ تمام :
= تراه قريبا ونراه بعيدا .
عبد الله :
ألم تتلق إشارات من السماء ؟.. ألم تغمرك فيوضات ونفحات ..؟!
الأستاذ تمام :
= مازلت غير قادر علي تلقي النفحات ، مازال جهاز الاستقبال عندى ..
عبد الله :
ـ يبدو أنني سأشقى بما رأيت إلي الأبد .
الأستاذ تمام :
= الأصل .. الكدح والمشقة ، المهم البلوغ .
عبد الله :
ـ وكيف البلوغ .. وأنا ..
أطلعني علي ما دونته يا أستاذ .. من مشاهدات ، ومكابدات ..
الأستاذ :
= لم أدون بعد ..
عبد الله :
ـ كيف ، ورئيس التحرير أخبرني ..
الأستاذ مقاطعا :
= ما أحلم بكتابته ، لم أكتبة بعد ، وما أتمناه ..
عبدالله :
- ومتى تقول كلمتك يا أستاذ ؟!
الأستاذ:
= أنا أحتشد لها .
عبدالله :
- عدنى أن أكون أول من يطلع عليها بعد الله ..
الأستاذ :
= لا أعدك .
عبدالله :
- هل كنت تدرى أننى ورئيس التحرير ..
الأستاذ " مقاطعا " :
= ألهمنى الله .
عبدالله :
- حتى لو عرفت ..
الأستاذ رابتا على يده :
= لا تهتك يا ولدى ما ستره الله
عبدالله " منحنيا على يده ليقبلها .
- خذنى تابعا لك يا أستاذ ؟
الأستاذ :
= اتبع الله يا ولدى ؟
عبدالله :
- رئيس التحرير ..
الأستاذ :
= اتبع الله يا ولدى 0