أحــلام تحـــــت المجهــــر
دس عينه بفوهة المجهر بعد أن وضع شريحة تحمل عينة للفحص ، حرك عدسات المجهر يميناً فيساراً لضبط مسار الرؤية ، كان يدقق كثيراً ثم ينهال بقلمه على أوراقه بطريقة أقرب إلى الهستريا ، مرت لحظات طويلة قطعت من جسد الزمن وهو على هذا الحال غير آبه لوجودي ،كان يصلني شعور التظاهر بالإنهماك والتفاني بالعمل لدرجة تتخلل الوعي ، أجلت ناظري بأركان المختبر الصدىء ألتقط بعض الصور للأجهزة المتهالكة و بقايا عصارات الأحماض والأصباغ التي لطخت الطاولات والأرضية ، المكان دميم وغير مألوف ولا يشجع على العمل ولا على هذا التظاهر الغبي الذي طالما مدده إلي بتحركاته الغريبة التي تستفزني ، فضلت التنفس من خلال الفم لتجنبي الروائح الفرعونية التي تبثها جدران المكان المريضة بالرطوبة ، ساعات مرت دون كلمة واحدة يرطب بها ريقي الجاف ، تساءلت : كيف سأقوم بالعمل في تلك الحظيرة ؟ وكيف سأتعامل مع هذا الفأر الضخم؟. أشعر أن طموحاتي ستكفن وتدفن هنا بمعدة هذا الحيوان اللزج ، أعلم جيداً أن الوظائف الحكومية تحتاج إلى ذوي النفس الطويل وصراعهم مع الصبر والأمنيات التي لا تتعدى الحصول على الترقية للدرجة الأعلى ، فأبي كان ذا عقلية فذه امتاز بها بين زملاء الدراسة بكلية الهندسة الميكانيكية وذلك على حد قوله وعلى حد ما أطلعنا عليه من شهادات كثيراً ما أخرجها من حقائبه القديمة وفخر بها أمامنا ، طالما جمعنا أنا وأخوتي تحت دفء الأغطية وحكى لنا عن أحلامه ومشاريع إختراعاته التي تبخرت مع إلحاقه بالتجنيد مدة فاقت السبع سنوات ثم خوضه حرب الإستنزاف وحرب أكتوبر بسلاح المهندسين ، يحكي فتخطلت قصص تفوقه الدراسي بقصص مغامراته الحربية وبطولات زملائه بالجيش . نفس القصص كانت تتكرر في كل مرة يجمعنا فيها حتى أنني حفظتها عن ظهر قلب .رميت نواظرى على زجاج النوافذ الرث الذي يخنق أشعة الشمس فيرتد بها للفضاء ، ثم يبعث لي بخيلات متمايله لشجرة حبيسة بالخارج مالت معها رأسي نحو السؤال الذي كنت أسأله لنفسي دائماً : لماذا لا يحكي لنا أبي عن عمله الحالي؟ . كان يهمس دائماً لأمي عن مشاكله بالعمل بعيداً عن آذاننا التي كان يعتقد أنها بعيداً عن مواعظ أمي لنا لما يواجهه من مشكلات وتحمله المتاعب وتضحياته التي يقدمها من أجلنا ، وكيف أنه يتحمل العناء من أجل توفير كل ما نتمناه كما تعتقد ، مشكلات أبي تلك العظيمة كانت تنحصر بين طموحاته ومغامراته وبين مديره الهائل القرارات، هذا ما علمته بعدما تلقيت بشرى نجاحي بتقدير جيد جداً في كلية العلوم حين عانقني وقال – بنت الوز عوام - بعدها أغلق علينا باب غرفتي ،وغامر معي بحديث أبوي طويل حدثني فيه عما كان من طموحاته وأحلامه عندما كان بالجامعة وعن اصتدامه بالواقع وبأبراج الإدارات الشاهقة التي غرست قبل مجيئه للعمل ، كان حديث أبي لي بمثابة هدية نجاحي الثمينة التي يقدمها جزاء ما أقترفت من تفوق مهدد بالتثبيط الإداري والوظيفي ، بعد أن انتهى من تقديم هديته سألني عن أمنياتي فأجبت بخجل إعتراني :
- عالمة في الذرة .
ولم أندهش عندما نظر إلى بإبتسام مخضب بدماء السخرية الدفينة مربتاً على كتفي بحنان مفعم بآلام قديمة :
- وفقك الله يا ابنتي .
خرج وجذب الباب خلفه وكأنه أرادني أن أجلس مع نفسي وأعيد تبلور كلماته داخلي ، وقد كان له ما أراد. رغماً عني دخلت بدوامة التفكير في القادم وغول الأسئلة يهاجمني بشظاياه يلقيها نحوى ويهرب ثم يعود عندما يتنهي مفعول الهجوم السابق ، استلقيت على قارعة سريري الصغير حتي ذهبت لمملكة النوم .
- يا آنسه .. آنسه .. هل غلبك النوم ؟
- هــــــه .. أعتذر يبدو أني قد سهرت بالأمس.
- أكيد هو القلق من العمل الجديد.
- آه فعلاً .. يجوز ذلك.
- لا تقلقي . سوف يعجبك العمل هنا.
- نعم. أستشعر ذلك فالمكان حقاً يشجع على العمل.
نظر إلى بنشوة الإنتصار على الفريسة بعينيه التي كادت أن تلتهمني بأنيابها الحمراء المنتشرة على البياض المحدب ، قمت ألملم رداء خجلي المتبعثر أمام هذا الإنسان الكثيف الذي يثير القرف بمعطفه الملطخ بخليط من الأوساخ الكيميائية ونظارته التي تجمعت بين ثنايها الأتربة المتجمده، و خصلات شعره الملتفة كخاتم الزفاف .
- عفواً يا آنسه لم أتشرف باسمك .
- ينادوني أحلام .
- و أنا حامد. حامد عمران.
- شرفت بك.
- وأنا أكثر.
- هل من الممكن أن أعرف ما هي طبيعة عملي هنا ؟
- لا تعجلي برزقك . اليوم أنت ضيفتنا .
- شكراً لك . ولكن أريد أن أعرف ما سأقوم به تحديداً.
- حسناً. طبيعة عملك هي أن تقومي بتحضير العينات المعملية التي تأتينا من وزارة الزراعة ، والصحة وإعدادها للفحص.
- أفهم من ذلك أنني لن أقوم بالفحص بنفسي؟
- قلت لا تعجلي برزقك . فعملية الفحص والتشخيص وإخراج التقارير هي مهمتي.
- آه .. فهمت.. أشكرك.
- لا شكر على واجب.
************ **********
كان أبي يجلس على مقعده المفضل بجلبابه الأبيض الفضفاض ، وقد نشر أوراق الجريده أمام رأسه المختبىء إلا من صلعته الفسيحه الملساء ، صورة الرئيس تتصدر الصفحة المواجهه مصافحاً أحد الزعماء العرب ، لم أتوقف على المشهد كثيراً حتى شعر أبي بوجودي ، طوى الجريدة دون اهتمام بهندمة الصفحات :
- طمئنيني . ما الأخبار؟
- الحمد لله . الأمور تسير على ما يرام.
- هل استلمت العمل؟
- نعم . من أول لحظة.
- عظيم جداً.
بعد دعاءه لي بالتوفيق كعادته عاد ليحمل جريدته بأخبارها التي ينتظرها كل يوم بشغف ، على الرغم أن أحداث اليوم هي أحداث الأمس والغد ، أذكر أنني يوماً ما أخطأت وناولت أبي جريدة اليوم السابق ، فأخذ يقرأها بنهم دون أن يلحظ أنها نفس الجريدة التى أتم قراءتها بالأمس ، وعند خروجي للجامعة فوجئت بوجود جريدة هذا اليوم الطازجة تنتظر بالصندوق المخصص ، ضحكت كثيراً وعدت بها لأبي الذي قال بلهجة صباحية ساخرة مدارياً ما وقع فيه من خطأ :
- أعلم أنني أقرأ جريدة الأمس يا شقية،لا تظني أن أبيك صار عجوزاً ذهب عقله.
بحجرتي الصغيرة كنت أجلس على مكتبي أتأمل كتبي القديمة ، أتذكر أيامي معها وكم كنت أستمتع بقطف صفحاتها حتى النهاية ، وقعت عيني على كتاب الفيزياء بألوانه المزرقشة الزاهية ، اقتلعته من مكانه وبالمنتصف عند بداية الفصل الثالث (الفيزياء النووية ) كنت قد كتبت أمنيتي فوق العنوان الذي كتب بخط أحمر عريض ، مازالت الأمنية قابعة بالأعلى بخطي الصغير الذي طالما اشتكى منه المدرسون .كنت أقنع نفسي دائماً بأن الخط السىء سمة من سمات العباقرة الذين يستحقون عناء القراءة. دثرت الأمنية بالنصف الآخر من الكتاب علني أعود إليها يوماً ما ، مرت الأحداث بمنزلنا ككل يوم إلا من نداءات أمي الجديدة التي ملات بها المنزل والتي ترتفع كلما اقتربت من النوافذ وكأنها تريد أن تسمع الجيران– أستاذة أحلام – حتى أني لم أردها فيم تقول ولم أعلق لها على هذا اللقب الجديد ولا على رائحة البخور التي لونت بها الأجواء .
**********
جذبت معطفي من فوق المشجب ، كان يضىء ببياضه الناصع وسط عتمة المكان الباهت كأنه جسماً غريباً سقط بأحشائه فأراد أن يلفظه ، صوت "حامد"يقترب بالخارج يمرر تحياته الصباحية التي انتهى بها عند أعتابي ، بادلته التحية بصوت خفيض ، ثم اتجهت ناحية الثلاجة أخرج منها بعض العينات لأمارس معها عملي الذي أملاه على بالأمس ، بدت عيناه منتفختان ووجهه الشاحب تعلوه خصلات الشعر اللولبية وبقايا من بلورات المياة مازالت تعلق بالأهداب ، رفع سماعة الهاتف كبداية لممارسة استعراضه المفضوح بطلب القهوة المخصوصة التي من المفترض أن يكون الساعي اعتاد على صنعها وتوليفها لتتناسب مع مذاقه يومياً ، دفع بالسماعة لترتطم بقاعدة الهاتف ، وأخذ يشتم ويسب ويبدي استياءه نحو الساعي الغبي على حد وصفه لتأخره بتقديم القهوة بموعدها اليومي المحدد ، ترك أطراف تلك المشاجرة الذاتية ،وأعاد أدراجه موجهاً بصره المنتفخ نحوي بعد أن تحولت نبرات صوته لنبرات مطرب شهير لا يحضرني اسمه الآن :
- ماذا تفعلين ؟
- أقوم بتحضير العينات للفحص.
- أنت دائماً هكذا متعجلة.
- وهل أخطأت في شىء؟
- لا أقصد الخطأ .
- إذن فما هو قصدك؟
- أقصد أنك بدأت عملك دون تناولك القهوة أو الشاى.
- أنا لست من هواة شرب الشاي والقهوة .
- غريبة؟!
- لا أرى في الأمر غرابة.
- حسناً .. كم عينة قمت بتحضيرها؟
- اثنتين.
- فقط اثنتين ؟! أنت بطيئة جداً .
- أليس غريباً أن تتهمني بالعجلة والبطء في آن واحد؟
- لا عليك.. فقط كثفي جهدك.
مد فمه يرتشف القهوة مصدراً صوت يشبه صوته الغليظ ، ومع كل رشفة يصيبني بنظرة من نظراته الثعلبية ، شعرت كأني عارية أمامه تماماً فكنت ألملم المعطف لأحكم به لف جسدي لأحتمي من خلسات هذا الفأر الجائع . كنت أعمل بأقصى جهدي لأقضي على اتهماته المغرضة لكن ثنايا الغيظ تنتشر داخلي ، فيطفو ارتباكي حيناً وتصرعني ثقتي بنفسي أحياناً أخرى ، ثم بدأت الخطوة الثالثة أو الثانية على ما أظن من حركاته البهلوانية المحروقة أمام مجهره الحقير ، كان يغرس فيه نظراته الملتهبة التي تلوث عينات الفحص فتحولها إلى عينات إيجابية مشبعة بالميكروبات والجراثيم التى كلما اكتشفها حول رأسي إلى إناء يصب فيه ثرثرته عن علمه وخبرته ، وسنوات عمله المتواصل بهذا المجال ، مر الوقت العصيب بعد أن زحفت العقارب نحو موعد الرحيل ، خلعت معطفي الذي انتشرت عليه بعض من أوسمة المكان ، أهديته للمشجب كما كان ، تحرك صوته وسط فقاعات نظراته المحلقة فوق رأسي :
- أين تسكنين؟
- أسكن عين شمس .
- جميل جداً .. أنت قريبة من مسكني .
- وما وجه الجمال في ذلك؟
- هذا سيسهل على اصطحابك معي بسيارتي .
- لا .. أشكرك.
- الأمر لن يرهقني صدقيني.
- قلت لك .. أشكرك .
- كما تشائين .. لك الخيار بالطبع .
************ ************
أجلس بالحافلة بمواجهة إمرأة بمنتصف العمر تتأبط طفلاً صغيراً يلعق بقطعة حلوى ، كان يبتسم كلما نقلت نظراتي اليائسة إليه ، ربما يسخر من حلمي الضائع ، أو أنه يبتسم لقدره القادم – لا أعلم – لم أعيره اهتمامي ،هربت منه ببصري ناحية السائق – سبحان الله – يشبه "حامد" تماماً ، نفس الرأس بشعرها الملفوف .. الوجه الشاحب .. الأنف المعكوف .. حتى عينيه المنتفخة المنعكسه بالمرآه ، حولت المسار للطفل المبتسم الذي يستمتع بهدهدة نتؤات الطريق ، وتداخلت معه في حوار خفي :
- يوماً ما ستكون "حامد " أيها الساخر الصغير .
- منذ ولدت وأنا "حامد" يا طنط .. أبكي وأبكي لأحصل على ما أريد.
- عندما تكبر ستبكي كثيراً لضياع أحلامك.
- ومن قال أنني يوماً ما سأحلم .
- لن تستطيع العيش دون حلم.
- سأركله بقدمي إذا حاول الإقتراب.
- لكن الحلم حياة أيها الساخر.
- الحلم طريق للموت ياطنط.
ثم أسقط بقطعة الحلوى من يده ، وأخذ يبكي ويصرخ حتى انحنت أمه ظهرها لإلتقاطها من الأرض ، وبعد أن حررتها من الأتربة العالقة أعادتها إليه وقد انهى نوباته العارمة ، أراد الشقي أن يثبت لي بالتجربة العملية كيف أنه سيبصح " حامد " العصر القادم . ازداد الإزدحام وتلاحم كتل اللحم البشري المبلل ، صوت "حامد" أقصد السائق يرتفع بتعليماته .
- ابتعدوا عن الباب .. من سيهبط بالمحطة القادمة يقترب من المقدمة.
*************** ******************
كان يجلس أبي أمام التلفاز ، يرتدي نظارته السميكة ، يتابع بشغفه المعتاد مباراة كرة قدم ، تهليلاته ترتفع كلما اقتربت الكرة من المرمى ، نصائحه الضائعة
للمدير الفني بتبديل خطة اللعب كادت أن تثقب الشاشة ، وكانت قدمه تتحرك دون إرادته مع محاولات اللاعبين اليائسة للتصويب ، انتهت المبارة بفوز يرضيه :
- لو كنت ولداً يا "أحلام" لتمنيتك لاعباً لكرة القدم .
- الحمد لله أنني خلقت أنثى يا أبي .
- راتب اللاعب يصل إلى أضعاف أضعاف راتبك ، وزيادة على ذلك الهدايا والعطايا والشهرة والمجد.
- لو كنت ولداً لكانت أحلامي كما هي الآن يا أبى .
- لكن الحلم مع العلم طريقه طويل يا أحلام .
- وحلمي هو خوض هذا الطريق.
تركت الحديث ودخلت حجرتي مطبخ أحلامي وأمنياتي ، جلست على مكتبي عرش حلمي ، كتاب الفيزياء مازال يتربع على سطحه الصلب ، اشتقت لرؤيتها داخله .. هناك بالمنتصف عند الفصل الثالث " الفيزياء النووية" وفوق العنوان العريض استمتعت بقراءة خطي العبقري - عالمة في الذرة – هبطت من العرش ، ألقيت بجسدى على السرير أتصفح السقف الذي رسمت عليه خارطة الطريق ، ثم دقات متتابعة على الباب تناسقت مع نداءات أمي :
- أحلام .. استيقظي سيفوتك موعد الإمتحان.
******* ******* *******
تمــــــــــــت
محمد سامي البوهي