زمار الحي لا يطرب
مقالة نشرت في السفير العربي منذ زمن
- بقلم : سلطان الحريري
" إن من غرائب ما يقع في القدوة الفكرية أن الناس في الأغلب لا يحترمون رأي المفكر إلا بعد أن يموت"
عبارة قالها زكي مبارك منذ عقود من الزمن لفتت انتباهي وأنا أنوي كتابة مقالي هذا، وكان الشيخ محمد عبده يتندر بمعاصريه؛ فيقول: إنهم لا يحترمون غير الرأي المنصوص عليه في كتاب قديم بَعُدَ عهد صاحبه بالحياة والأحياء.
نعم إننا نقدس عبارة:( قال القدماء)، ولا نلتفت إلى ما قال المعاصرون، وبذلك فإن الأموات يسيطرون على الجماهير سيطرة روحية وعقلية لا يرتاب فيها إنسان، ولو كان من أكابر الحكماء.
والمشكلة أن الكثير من الكبار الذين نراهم بعين المعاصرة، لم يكونوا كذلك بين أبناء عصرهم الذي عاشوا فيه، ولكن العصور السابقة كانت لا تعقّ كبارها، كما يحدث في عصرنا، ويبدو أن للموت قدسية رائعة فهو يرفع الأموات إلى آفاق لم تخطر لهم في بال، ألم تسمعوا أن كلمة الموت أصبحت مرادفة لكلمة الخلود"
لا أنوي بمقدمتي هذه أن أتبرأ من الماضي، ولا أريد أن أتنكب المعاصرة، ولكنني أريد أن أركز على فكرة أن: ( زمار الحي لا يطرب)، ولعل ممن يعيشون بين ظهرانينا، ممن هم أعظم قيمة من أولئك الذين نراهم في كتبهم بعد موتهم، ولكنها سنة جرى عليها العرب في أيامنا، ولاسيما في مجال الأدب.
ولعل من المناسب أن أدس بين سطوري فكرة غياب العمالقة هذه الأيام، والتي تطفو على السطح، وأقصد بهم عمالقة الأدب، فأين منا العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم... إنهم ذهبوا بأجسادهم، ولكن كتبهم وأدبهم ماثلة بيننا عيانا، وأصدق ما قيل في هذا قول زكي مبارك: " ما الموت. وما تكريم الأموات؟ إن كان الموت أن يتهدم جسمي يوما فهذا سيقع، وإن كان الموت أن آرائي ستموت فذلك أكذوبة من أظرف الأكاذيب، فآرائي ستسيطر على الناس إلى آخر الزمان.
أنا أموت! إنكم مخطئون..لن يذهب من الوجود غير هذا الهيكل الذي يذرع الأرض من ( سنتريس إلى باريس)..
إنها دعوة مني أيها الأحبة إلى تكريم أدب الكبار الذين يعيشون بين ظهرانينا، قبل موتهم، وليس من أسباب أجدها لذلك إلا ما أسلفت من طبيعتنا التي تقدس الماضي بكل ما فيه، إلى جانب أن الإعلام يسلط الأضواء على أشخاص دون غيرهم، بدافع المتاجرة والتلميع، ويبدو أن مقولة: ( لا يطفو على السطح إلا الفارغ) تصدق على ما نعيشه في أيامنا هذه إلى حد كبير.
لقد أتى على هذه الأمة حين من الدهر تأخرت فيه عن ركب الحضارة الإنسانية فسادها ركود فكري خيل لناظريه أنه النهاية، ثم تحركت الأيام فإذا هي تنتفض ليزول القبر والكفن، وتعود من جديد إلى معركة الصراع الأزلي، معبأة القوى، مرهفة العزيمة، تزداد كل صباح إيمانا بنفسها وبمستقبلها وإمكانياتها، على كثرة المثبطات وتتابع الصدمات، ولقد يكون وراء هذا الانتفاض عوامل لا تكاد تحصى من دينامكية الزمن وجبرية التاريخ، ولكن مما لا خلاف فيه أن الأديب واحد من أهم العوامل إن لم يكن أهمها..
ومن الطبيعي أن الاعتراف بدور أدبائنا المعاصرين في البناء لا يراد به وصفه بالكمال، ولا الرضى عن كل ما تزخر به السوق من إنتاج الأقلام.. فالأدب الذي نتحدث عنه إنما هو أدب العمالقة الذين يمثلون عبقرية هذه الأمة في الوطن والمهجر، ولا شأن بحديثنا لأولئك ألأقزام الذين يسمون أنفسهم أو تسميهم بعض الهيئات أدباء.. وكذلك لا ننكر أن في أدبنا، على جلاله قصورا ملموسا إذا قيس ببعض آثار الأمم المعاصرة، ولكن علينا أن نتذكر حقيقة مهمة وهي أن الأدب صورة من الحياة العامة، وحسبه فضلا أن يفي بحاجتها وفق سنن التطور، وإذا كان ضروريا أن يسبق خطواتها أحيانا فإلى الحد الذي صور تطلع صلته بواقعها الراهن.
على أن ثمة جانبا من النقص لا مندوحة عن التذكير به هنا؛ لأنه يسجل مدى التباعد بين أدبنا المعاصر وجماهيرنا العربية؛ فالأدب إنما يحقق رسالته كاملة بمقدار ما يحقق من التجاوب بينه وبين السواد الأعظم من الناس، وما نلحظه هذه الأيام انقطاع الأديب بواقع لغته وتفكيره إلى طبقة خاصة لا تمثل مجموع الأمة، والجماهير الغالبة مشغولة عنه كذلك بواقعها الذي لا يلبث أن يوفر لنفسه لغته وتفكيره الملائم، ومن ثم يستيقظ الأدب المعاصر على جمهور حرم ضياء المعرفة، إلى جانب حرمانه سلائق اللغة، حتى أصبح من المتعذر أن يصل صوت الأديب إلى أسماع هؤلاء إلا من وراء حجاب.
ولعل غياب كلمة الحق عند أدبائنا غيبهم عن الظهور والانتشار، وقد قال زكي مبارك الذي أعكف هذه الأيام على قراءة كتاب له: " حدثني قلبي بأن الشرق لم ينحط من قلة القلوب، وإنما انحط من قلة العزائم، وتذكرت أن الأمم العظيمة هي التي يوجد فيها رجل شجعان يقولون الحق حين تخرس ألسنة الجبناء"..
فلنبحث عن هؤلاء الكبار، ولنكبر بهم، حتى نخرج من واقعنا المزعج، الذي يجد الأديب فيه نفسه معزولا عن سواد أمته، ولا يجد من يضعه في المكان الذي يناسبه.
فهل يتحقق حلمنا بأن نكرم كبارنا وهم أحياء ؟