بسم الله الرحمن الرحيم
إلا تنصروه فقد نصره الله
د. محمد حسان الطيان
الحمد لله وليّ كل نعمة ، والصلاة والسلام على من أرسل للعالمين هدى ورحمة. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد برّ.
سيدي رسول الله...
أتسمح لي أدنو من حرمك؟!
أن أتمسَّح في جنبات محبتك؟!
أن أطَّوَّف في رحاب عظمتك؟!
أن أغمس قلمي في مداد مِدْحَتك؟!
أن يشرف صوتي بعذب مناجاتك؟!
أن تنهل روحي من صفاء سريرتك؟!
أن تعطر نفسي من جمال سيرتك؟!
أتسمح لي ياسيدي؟!...
أن أدنو أو أتدانى... أن أسمو أو أتسامى... أن أبكي أو أتباكى...؟!
إذا سمحت ياسيدي إني إذاً لسعيد.
وإذا رددت فأيُّ محروم أنا؟!.. وأيُّ مقصيٍّ أنا؟!...
هل لي ياسيدي أن أنضم إلى ركب المعزِّرين ..الناصرين المنصورين..الذين اتبعوا النور الذي أُنزل معك ... فكانوا من المفلحين...؟!.
{ فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} ( الأعراف 157).
*******************
سيدي رسوا الله..
لقد صدق – والله- أمير الشعر إذ يقول:
مدحت المالكين فزدت قدرا وحين مدحتك اقتدت السحابا فما عرف البلاغة ذو بيـان إذا لم يتخـذك لـه كتابـا
فمن حظي بمدح سيد الكائنات فقد رقى وسما..
وخالط النجوم في السما..
وفجّر الإبداع في اليراع ..
لأنه دنا من الينبوع ..
وقبس الجذوة من أصولها.
ونحن في البيان عالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم...
لو لم يكن لنا كتابا ما عرفنا القراءة !
ولو لم يكن لنا كتابا ما عرفنا الكتابة!
ولو لم يكن لنا كتابا ما عرفنا البلاغة والفصاحة!
بليغ علّم الدنيا بوحي ولم يقرأ بلوح أو دواة
ولا غرو فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في الفصاحة والبيان، فما بعد فصاحة القرآن أفصح من كلامه...
وما بعد بيان السماء أعلى من بيانه....
ففي كلامه من البلاغة والإيجاز ما يدنو من الإعجاز....
وفي بيانه من الدلائل والمعاني ما لا يعبر عنه بطوال الألفاظ والمباني .
ولقد سبق َ ولم يُسبَق...
ولحق بأسمى بيان ولم يُلحَق....
كيف لا وهو مشرع الفصاحة وموردُها ، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه الصلاة والسلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل وخطيب، وبكلامه استعان كل واعظ وبليغ ؛ لأن كلامه عليه الصلاة والسلام عليه مسحة من العلم الإلهي :{ وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى }(النجم3-4).
وإذا أراك القرآن أنه خطاب السماء للأرض..
أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء.
**************
أيَّ معلم كان ... وأيَّ إنسان
هذا المترع عظمة وأمانة وسموا...؟
ألا إن الذين بهرتهم عظمته لمعذورون..
وإن الذين افتدوه بأرواحهم لهم الرابحون..!
غني عن البيان أن التاريخ لم يذكر في صفحاته شخصية كانت محورا لدراسات ، وموضوعا لبحوث ، ومجالا لقول ، وملهما لشعر وأدب وفن ، كما كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد تبارى الكتّاب والشعراء ، والمؤلفون والمحققون ، والدارسون والمؤرخون في تناول شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يمدحون ويصفون، ويبحثون ويؤرخون، ويصنعون ما يرقى بهم وبأدبهم وببحثهم وبمصنفاتهم.
ولعل من أطرف ما ألف في هذا الباب ( معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطوطا ومطبوعا) للأستاذ الدكتور صلاح الدين المنجد ، وهو الخبير المعروف الذي قضى عمره متتبعا ومنقبا عن نوادر المخطوطات ، وكان أول مدير لمعهد المخطوطات العربية في القاهرة ، وقد سلخ في هذا العمل ثلاث سنوات هي حصيلة عمر طويل في الواقع، ثم قال معترفا بالقصور: " وكنت أحاول الإحاطة والشمول وأتمنى ألا يفوتني اسم كتاب، ولكني رأيت أن ذلك الكمال لا يدرك ، ولو قضيت ما تبقى من عمري في ذلك لما انتهيت ، فما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدّ"،ومع ذلك فقد أحصى لنا في هذا المعجم آلاف الكتب التي ألفت عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ، ورتبها في أقسام وفروع لا ينقضي منها العجب!
**********
أرأيت أشرف أو أجلّ من كلام قيل في مدح الرسول ؟
أو رأيت أنبل أو أكرم من مؤلف أو مصنّف يحكي سيرة الرسول ؟
من ذا الذي يدنو من هذا النور ولا يشعر بالنورانية؟
من ذا الذي يتفيأ هذا الظل ولا يشعر بالأمان والرحمة؟
من ذا الذي يرد هذا المورد ولا يسكنه الجمال والجلال؟
من ذا الذي ينهل من هذا المنهل ولا تملؤه الرهبة والرغبة؟
جمالك غير محتاج لشعري مدحتك كي أزيد أنا جمالا
إنه الرسول الذي اختصه المولى الجليل بالصلاة والتسليم، وأشرك ملائكته بذلك، وحضّ المؤمنين من خلقه على ذلك..
{ إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}( الأحزاب 57)
وعلوت في كل القلوب محبة والله قد صلى عليك وسلمـا
وناهيك بأمر يشترك فيه العبد مع الرب! والمخلوق مع الخالق! والمملوك مع المالك!
من أجل هذا يسمو ويعلو مَنْ يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وينبل ويشرُف من يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلـول
ولأمرٍ ما أتبع الله سبحانه تكريمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره المؤمنين بالصلاة والسلام عليه بلعن الذين يؤذونه ويؤذون رسوله وتوعدهم بالعذاب المهين حيث يقول جل من قائل { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا}( الأحزاب 57-58)
فأما اللعنة في الدنيا فقد تمت وتحققت ، وشهدها العالم أجمع، وترددت أصداؤها في الكون كله ، إذ انطلقت بها ملايين الحناجر المسلمة في كل بقاع الدنيا ، على مسمع ومرأى من آذان الناس وعيونهم ، تلعن من آذى رسول الله ، وتتوعد من أساء إلى رسول الله، وتنادي بالقطيعة والبتر لمن تعرض لرسول الله ، في تظاهرة لم يشهد لها العالم نظيرا فيما شهد من مسيرات وتظاهرات ، خرج فيها الناس طوعا لا كرها، حبا لا قسرا، مستجيبين لمحبة ألفت بين قلوبهم جميعا، سنيّهم وشيعيّهم، كبيرهم وصغيرهم ، صوفيّهم وسلفيّهم، أبيضهم وأسودهم، رجالهم ونسائهم، حتى لقد صح فيهم قول عمر أبو ريشة :
لمـت الآلام منـا شملنـا ونمت ما بيننا مـن نسـب فإذا مصـر أغانـي جلـق وإذا بغداد نجـوى يثـرب بورك الخطب فكم لف على سهمه أشتات شعب مغضب
فقد خرج الجميع ولسان حالهم ومقالهم يردد:إلا رسول الله ...إلا رسول الله
إلا رسول الله ما أعراضنا ودماؤنا ألا تكون له فدى
فما يصبر مؤمن على إيذاء رسوله....
ولا ينثني مؤمن عن نصرة رسوله...
ولا يقعد مؤمن عن تعظيم رسوله...
ونحن على يقين من أن هذه اللعنة ستلزم الذين أساؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة كما لزمتهم في الدنيا ، وأن العذاب المهين سيحيق بهم جزاء وفاقا لما اقترفته أيديهم . وانظر كيف وصف سبحانه عذابهم بالمهين- أي المذل الذي يلحق الهوان والصغار بمن ينزل به- وحسبهم بذلك عقابا وجزاء.
**********
ورسولنا منصور بإذن الله سواء قمنا بنصرته أن تخلينا عنها؛ فالله سبحانه قد تكفل بها{ إلا تنصروه فقد نصره الله }( التوبة40)
ولذا كان المستمسكون بنصرته مستمسكون بحبل متين لا ينقطع ، وعروة وثقى لا تنفصم.
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبل غير منفصم محمد سيد الكونيـن والثقليـ ن والفريقين من عرب ومن عجم وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلّوا عنـه بالحلـم
ولكن علينا أن نعلم أن إدراك حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينالها قوم نيام!وأن إدراك مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاله قوم متقاعسون متكاسلون! إنه لا يدرك بالحُلُم ولا بالرؤى، إنه يحتاج إلى عمل دؤوب ، وجهد متواصل ، ودراسة جادة، وتأسٍّ صادق . إنه الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن تحملها ، وحملها الإنسان .. كما قال سبحانه في سياق السورة نفسها ( سورة الأحزاب 72) { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}
جرّد حسامك لا لسانك في الوغى واكلـم عـدوك قبـل أن تتكلمـا
*************
إن نصرة رسول الله عليه الصلاة والسلام تحتاج مع الغضب إلى حِلْم...
ومع الثورة إلى علم...
ومع الهيجان والغليان إلى هدوء وسكينة.
أما الحلم.. فلأن رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء 107(
وأما العلم... فلأن رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما بعث بآية {اقرأ }(العلق1)
ورحمت كل العالمين بمنهجٍ كم حرر الإنسان من أصفادِ
يا آيَ ( اقرأ) بالفصيح تكلَّمي فتكلُّمي جرح يسيـل كلامـا
وأما الهدوء والسكينة... فلأن رسولنا صلى الله عليه وسلم علمنا أن ندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}(النحل 125)
********************
إن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج منا إلى وقفة مع النفس، وهمسة مع الروح، بل صرخة مع العقل تدوّي لنقول : ماذا قدمنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ وكيف يرى الناس رسولنا من خلالنا؟ وهل أحسنّا إليه بقدر ما عرفناه كما أساء إليه المسيئون بقدر ما جهلوه؟وماذا صنعنا كي ندرأ عن رسولنا الأذى؟
كم بلدا زرنا؟
وكم نادياً حللنا؟
وكم برنامجا قدمنا؟
وكم مؤتمرا عقدنا؟
وكم داعية أرسلنا ليعرف العالمَون من أرسل إليهم هدى ورحمة، ويدرك الجاهِلون مدى الجناية التي اقترفتها أيديهم بحق سيد البشرية.
سيدي رسول الله!
لئن عرف فضلك ومقامك العارفون ، وجهل قدرك وغمط حقك الغافلون :
فلقد عُرِفْتَ وما عرفت حقيقة ولقد جُهِلْتَ وما جهلت خمولا
الكويت 22 ربيع الآخر 1427 هـ د. محمد حسان الطيان
20 مايو 2006 م عضو مجمع اللغة العربية بدمشق
والمنسق العام لمقررات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت