آلت على نفسي ألا أقف موقفا فيه النفاق و أن لا أعتلي منبرا فيه المدح بما ليس في أهله، آلت على نفسي أن لا أسكت على جور و أن أحملها محمل الذنب إن مالت و حادت حتى و إن أكلت العشب وورق الشجر مثل البهائم ، لكن أعي أني سأنام ممدد الرجلين بشخير متعال لأن الضمير مرتاح و ليس في عنقي حق أحد و لا ذنب كائن من كان ، كم من مرة أمثل التمثيل مرجعا الأحداث الدائرة من حولي خلف ظهري حتى أتجنب صداعها المزمن المرهق لأعصابي غير أنها توخزني كالإبرة ، يقف حالي حائرا و حائلا بين واجب الكتابة لأن الله سائلني عنها يوم القيامة و بين هوى النفس و ظلال الرأي ، كلما جئت برأي إلا و نظرت في أمري هل كنت متناقضا أم ثابتا على موقف ؟ أبدي تارة السخف و الاحتقار و السخرية لما أفكر فيه فأقلع عنه لأن مرده لدناءة ووضاعة ما يجري بين ظهرانينا ، تارة أبدي الجدية و الأهمية و الدور المنوط بنا للدفاع عن حقنا المشروع و أملنا في حياة كريمة لنا و للأجيال القادمة حتى و لو نلنا شتم الشاتمين و شربنا كأس اللعنة من أباريق المنهزمين حضاريا و المنتصرين آنيا لنفوسهم المتخذين من حربهم على الضعفاء من شعوبهم و الأحرار من أوطانهم المعديّن العدة المقسمون القسم على خرابها ،يجتمعون كرجل واحد من أجل إنهاء النهاية ووأد كل ما لم يولد بعد ، أشجع نفسي على قول الحق ثم أدعو ربي أن يلهمني الرشد و تيسير الأمر حتى لا أتهم أحدا بالريبة ، لا أدّعي على أحد بما ليس فيه و لا أسلب رأي مشورة أدّعيه ، لا أتعملق و حجمي لا يقوى على الانتفاخ ، أتعالى على أن أكون بين الأقزام فينقص ذلك من شأن ما أتبناه من مبادئ رجال و أدباء و مفكرين
و علماء أثرّوا في تفكيري بفكرهم و إن كان يأخذ و يرد ، لكن عرفت من شفاهم ما أمر به الله و دعت إليه الأخلاق ، اخلصوا لله فكانوا ورثة الأنبياء و اخلصوا للإنسان فكانوا بحق سادة ، دافعوا عن العقيدة و اللغة و التراب و التاريخ ، ما حدّتهم الحدود وما غلبهم الهوى ، كانوا أرفع الناس يحاورون المسيحي و اليهودي و الملحد ، يكيدوا لهم الأعداء المكيدة فينجيهم الله و يأتي فكرهم كالغيث يروي القلوب المريضة دواءا رحمهم الله ذلك موقفهم لا يحيد ، شربت من نبعهم و لو جرعة و مشيت في دربهم الطويل و لو خطوة فشعرت بلذة ليس بعدها لذة، نظافة المبدأ و انتصارا لفكرة الحق وقوة العزيمة و الحجة ، طريقهم لا متناه لأنه مستمد من اللامحدود و المتعاقب دائما و المستمر لصراع الخير و الشر في الحياة ، درب يكمله درب ليستمر بعدها معنى الحياة و جدوى الوجود و على الإنسان أن يختار و يختبر نفسه في دروبهم إن كان له طول أو قصر النفس، أولئك منهم القتيل و السجين و المنفي و الجائع و المتشرد ومنهم أيضا من عرف قدرهم الرجال فوضعوهم موضع الثقة و أسند لهم الأمر
و أحوال البلاد و العباد فكانوا حكماء علماء ، نصحوا الأمير و الملك و الرئيس فنالوا شرف الدنيا و الآخرة ....أولئك المصابيح في عتمات الليل البهيم نستضئ برأيهم الراجح ، آلت على نفسي أن لا أضع رأيي سلعة معروضة على اللص و على آكل الحقوق و مضيّع الآمال فالرقبة السمينة التي أكلت من موائد سماسرة الدم و الخيانة لا يقطعها غير سيف الهوان ، الذي اشترى لسانك و قلمك اشترى نفسك صرت مقيدا بما تملك و لا تملك ، الحر كالعصفور داخل بيت من الزجاج كلما أراد الخروج يصطدم به لكنه يعيد الكرة إلى أن يسقط على الأرض ، إما باحثا عن الحرية ناسيا ما صادفه من زجاج أو يسقط على الأرض غير ناسيا مبدأ الحرية و رافضا الاسترقاق ، أقول رأيي معتقدا أني على صواب آخذا بذلك مواجع و فواجع أمتي التي تكالبت عليها الأمم ،
و بقر بطنها من خرج من بطنها ، أقول رأيي أعتقد أنه الصواب و لو صادفت رأيا آخر اقتنع به و يظهر اعوجاجي جعلت رأيي حمارا أركبه ، لا أزكّي نفسي على الله و لا أرشح ما أخط ليكون في الصدور ، لا أدّعي شجاعة رأي أمام ولي الأمر فقط أقول ما قال الأحنف بن قيس لمعاوية " أخاف الله إن كذبت و أخافكم إن صدقت " فتكون كنايتي أبلغ من تصريحي ، فيكتو هيجو ألّف قصة عن برغوث أنقذ أمة من الأمم سلط عليها حاكم ظالم لم تستطع حمله على العدل و لا إبعاده عن الحكم " الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " صدق الله العظيم ، حينما طلب مني رأيي في القصة كان ردي : لا يمكنني أن أعطي رأيي و أنا جائع قد ارتكب حمقا و لا أصيب بنصحي و لا أبدع في نقدي لأن الجوع يعمل عمله في ّ ويبدع في داخلي ،
و رأيي هذا يكون هروبا من الفتن التي يبيض فيها الشيطان و يفقس لعنة و عذابا في أوطاننا ، أعلّق رأيي إلى إعلان آخر فلا أظلم و لا أظلم و أكون عامل بناء لا هدم ، لو كان رأيي يزن شعرة من فتنة و نميمة لجعلته كفرا .... عملا برأيي أمي أشرب فنجان القهوة المرّة حتى يظل رأيي مستيقضا أخاف أن يكون حمارا فيركب....