قطرات زيت مبارك ... وغبار

تتناثر ذرات الغبار الذهبي في آفاقي , لحظة الشروق , تتكسر أشعة الشمس على جزيئاتها الصقيلة كالمرايا, تردها إلى عيني فتذهب ببصري وبصيرتي , تطغى على كل المرئيات من حولي , يغمر قلبي الفرح يظهر جليا على قسماتي.. كلماتي.. حركاتي.. تسألني الصديقات : ما سر هذا البريق الصارخ في عينيك ؟ وأسأل نفسي : كيف أكثف هذا الغبار الذهبي لأجعل منه حلية أزين بها مفرقي ؟ أبتسم بصمت وأعمل خيالي.. وفعالياتي, وفكري .
يخاطبني من بعيد , يحملني صوته الى حيث صعت اليه في عليء طفولته , يحملني إلى فلوات تراكضنا فيها , تخاصمنا على الكرة والدمية وتصالحنا تسابقنا على القفز فوق الحبل , أركض وراء رعشات هذا الصوت , ذبذباته , انسيابه الهادئ الناعم فوق أعصاب سمعي ينسيني حفيف أغصان الزيتون إذ يمشطها النسيم فيسفح عبق أزهارها الناعمة على اتساع الكون .
تتجمع قطرات عشقه على كفيّ طوال الصيف , تتحول زيتا , ويأتي الخريف حاملا ريشته , يشد الأرض يصلبها على إطاره ويعمل على نثر الألوان .. الأصفر بكل درجاته .. البني.. الأسود .. الأرجواني.. يتراجع قليلا ليتأمل لوحته , يفرح بما صنع , يضحك بأسنان شديدة البياض قوامها حب الآس ..فيسيل الزيت المبارك من أطراف أناملي.. يقطر على أوراقي حبا .. شغفا.. ألقا
موعدنا الخريف , سيرجع الى مدرسته وأحضاني , ما أحلاك يا فصل الخريف
( لا تنتظريني..ما عدت أرغب بالانضمام إليك.. حضانة أبي أكثر متعة..وواقعية)
الويل لي , إذا لم أنفق عمري انتظارا له فلماذا أعيش ؟ لقد كبر بعيدا عني , شعره الأجعد ينمو في منأى عن أصابعي , الرمال البرتقالية أكثر إغراء له من حقول الليمون والزيتون , أكثر حرارة وحميمية من أزهار التفاح , ربما يتزلج الآن على كثبانها , ينزلق ضاحكا للتلقفه أحضانها الناعمة بعيدا عن هذا الجبل وصخور هذا الجبل .
أنظر إلى ساعة الجدار , عقارب الزمن هربت مني وما وعيت , لقد كبر بعيدا عني ..وما شعرت....لابد أنه الآن عاشق .. دقات قلبه تنبض بعيدا عني .. أسراره.. أين يسكبها؟؟ على أي كتف يبكي هجر حبيبته وتباريح أشواقه..؟ اللهم هب لي صبرا لأتمسك بعقلي فلا يطير, ينظرون شذرا مستخفين بي وبعواطفي ... لكم العالم كله ولي هذا الغبار
جسدي ينفلت مني , يهرب من وظائفه المعتادة , يتمرد على عقلي الباطن الناظم لها.. بعد عجز الروح عن أداء ما خلقت له.. ما فائدة عمل الجسد؟ يهرع المحيطون بي إلى الهاتف , يديرون الرقم الثلاثي المشؤوم . تزعق تحت نافذتي سيارة طويلة كالتابوت , ينزل منها ذو المعطف الأبيض بحقيبته العتيدة ,ونظارته الرقيقة متأبطا ذراع ملك الموت , يأمر بنقلي إلى تلك السيارة..
لو كان عقلي معي.. لو أني أملك القدرة على اجتراح الأفعال.. لصرخت في وجوههم : أخبروني عن قمري الجانح نحو الغرب , كيف أسترده ؟ كيف أسحبه ليتحدى مداره المرسوم ويعود الي ؟ هبة ريح قوية جمعت غبار سعادتي , صنعت منه سحابة وساقتها نحو المجهول , من ذا يطارد غيمة هاربة؟ , حنجرتي مزدحمة بآلاف الغصات , ضغط دمي وصل هبوطا إلى درجة الخطر فاستسلمت لإجراءاتهم, ما الذي أملكه سوى الاستسلام؟
السيارة التابوت تتقافز على الإسفلت المحفر , تتماهى المرئيات أمام وهن عيني وقدرتي على التركيز , أراني طفلة في عامي السابع ملقاة هناك , على سطح غرفة أم أحمد , صعدته متسلقة على الجدران .. واستحال علي النزول , شمس الظهيرة تعمل ببطء على إذابة دماغي , أمي تقف مع اخوتي على الأرض , تضحك شامتة , شفتاها الغليظتان تنحسران عن جسر أسنانها الصناعية , تهددني بأنها لن تترك أحدا ينزلني من محبسي , أما تسلقته بارادتي؟ أبكي متوسلة.. تضحك شامتة.. أبكي..تضحك. . تخبرني أني سوف أعيش حياتي كلها سجينة سطح هذه الغرفة , أصدقها.. وأطلق عويلا يشبه عويل بوق هذه السيارة - التابوت
عينا الطبيب الصفراوان تشبهان عينيها.. أفر منه.. منهم..
أعود إلى ساقية مشينا معا على حافتها.. طاردنا ضفادعها.. أمسكنا بزقزاق التين , ليطلق أزيزه بين أصابعنا , يدغدغ أكفنا لتنهمر ضحكاتنا مطرا يغسل ظمأ الروح...
رحت أجمع أوراقي المشبعة بالزيت باعث النور .. بل أنثرها كأعواد الدبق.. أصطاد عليها غباره المتناثر في قاعات وجداني , يتكاثف على راحتي زيتا , حنانا , أمانا , أّدهن بالمزيج وجهي وأشد الرحال.. لا يحق لأحد سؤالي : إلى أين .. أنا راحلة...اليه استعيد جزءا من جسدي .. من روحي.. أستعيد ولدي
5\10\3002

ابتسام شاكوش ونص جميل شكرا لك

ويظل قبضك على اللحظة القصصية وامساكك بالزمن من عناصر نجاح هذا النص المدهش - شكرا جزيلا