العجوز والحجرة الزرقاء
على مهل قصدت مكاناً لم أزره قط، كانت عيناي زائغتين وقلبي الصغير يئن، أسمع صوت أنينه داخل خلجات روحي المرهقة، "هاتوا الفلكة يا أولاد"، لا ، لن أترك الأستاذ يضربني هو الآخر، ولن أقبل بشماتة بعض هذه العيون الصغيرة .
كان التل ينتصب بين شارعين لا يمر فيه أحد، والشمس تعتلي كبد السماء بهدوء، درت حوله أفتش عن مكان أجلس فيه حتى يحين موعد انصرافي من المدرسة، فجأة لمحت شقاً طولياً يمكنني أن أجلس فيه لأحتمي من حرارة الشمس، دخلت الشق، جلست على الأرض وبينما أنا غائص في شرودي اهتز التل، أصابتني رعشة من الخوف، تماسكت، عاد الاهتزاز ثانية، واتسع المكان ثم أضاء، كنت بذهول أنظر ولا أعرف ماذا يجري من حولي، هل أنا في حلم أسطوري، وقفت، يد ربتت كتفي فتسمرت في مكاني واقشعر جسدي وتنملت أطرافي، ماذا أفعل؟ أهرب من "الفلكة" لأعيش رعباً يجعلني أختنق فلا أبصر سوى الغبش من أمامي، أي مصير قادني إلى هنا، يارب ماذا فعلت في دنياي، أنا ما زلت طفلاً صغيراً لم أرتكب إثماً ولا جرماً، تربت اليد كتفي وأنا ما أزال مسمراً في مكاني، يغطيني البرد والارتعاش، وقبل أن أسقط من هول الصدمة والمفاجأة أسمع صوتاً حنوناً يقول لي: اجلس يا آدم، اجلس. "وتعرف اسمي"، أكاد أن أصرخ، أجري، لكنها برحمة يد تمسك بيدي وتعيد الطلب ثالثة.
أستدير نحو الصوت لأرى الوجه، عجوز ممتلئة وقاراً تحمل عصا في يدها، انصاعُ لطلبها بعد أن طار الهاجس المحموم من أن شراً جديداً ينتظرني.
تقول لي: يا آدم لا تحزن ولا تحقد على أحد من أخوتك، ستكون ذا شأن!
جسدي أصبح في حالة شلل، هل هي ساحرة تتنبأ لي، هل هو وهم الخوف من هروبي من المدرسة، لابد لي من حركة ما كي أهرب بجلدي، تقرأ أفكاري، تقول لي: لن أؤذيك يا آدم، ما قطعت كل هذه المسافات كي أؤذيك، أنا رسول أمانك.
وحدي من ينطحن من الخوف المسيطر على كل كياني، العجائز يخرفن وهذه واحدة منهن، تقرأ كلامي وتبتسم ثم تردف قائلة: أمك طاهرة يا آدم ولك عندها أمانة لا بد أن تبحث عنها.
تدور فوق رأسي الصواعق، تهتك بقوتي، بقدرتي على الفهم، أمانة، أي أمانة ؟!
تكبر ابتسامتها ويرق صوتها وتمسح بعصاها على شعر رأسي، يزول خوفي، تهدأ أنفاسي، أحس براحة تسري في جسدي، لا أدري كيف اطمأن قلبي إليها بسرعة، فينطلق لساني سائلاً: أمي هل تحبني؟
تجيب :
- نعم وبأكثر مما تتصور.
- لماذا تركتني إذن؟
- ستعرف فيما بعد!
- أريد أن أعرف الآن
- ليس قبل بحثك عن الأمانة
ألوذ بالصمت أستجمع قواي، أسعد لحظات عمري أن أعرف أن أمي تحبني، لكنها تركتني، الطاولة، القلم، الورقة شهود عيان. وحان موعد انصرافي وعليّ أن أرحل، تغير المكان فجأة، عاد كما كان شق طولي فقط، العجوز غابت كأنها لم تكن موجودة تحدثني، الضوء انطفأ، إذن كنت أحلم بلا شك، لكنه حلم جميل بحق، لقد عرفت أخيراً أن أمي تحبني هناك من قالها لي.
أخرج من الشق وصهدّ شمس الظهيرة تحرق الأجساد، لكن إحساسي بحب أمي يجعل جسدي بارداً لا تؤثر فيه حرارة الشمس، أدخل البيت، تستقبلني أختي وهي تبتسم وتقول لي: خذ هذه كتبك !
من يصدق أنني هجرت الخوف من النوم وحيداً، الليلة سأنام قرير العين، أمي تحبني، لكن ماذا قصدت العجوز بالأمانة، غفلت عن سؤالها ماتكون؟!! كم أنا أحمق وغبي، تعيدني كلمات المرأة الوقورة إلى قلق يشوش عليّ فرحي باكتشافي أن أمي تحبني، يغريني ضوء القمر المتسربل عبر شقوق النافذة فأنهض من سريري، أفتحها، أشم هواء نقياً، أول مرة في حياتي أشعر بالهواء الرطب العليل يدخل إلى صدري ينعشه، أنظر إلى النجوم، تُراني في أي واحدة أنا، سمعت أخواتي تقول: لكل واحد منا نجم، حين يسقط يكون أجله قد حان، هل ماأراه الآن من جمال بالمملكة السماوية البديعة ارتياحي لمعرفتي أن أمي تحبني، لكنهم حكوا لي غير هذا، أحضروا الورقة التي كتبت أمي فيها تنازلاً عني، وضحكوا وسخروا بشماتة وهم يرددون الغجرية تخلت عن ولدها.
كنت خائفاً من كلمة ابن الغجرية، حتى أنني لا أعرف ما معناها، اكتفي بالصمت وبالدموع وإخوتي وأخواتي بلا مبالاة كانوا يرددون: لا خير يرتجى منه، سيكون مثل أمه، يتخلى عنا بسرعة حين يكبر، كل ريال يصرف عليه الفقير اليتيم أحق منه به!
أشعر بوجع النزف في أحشائي يئن، اليوم انتهى على خير، وغداً صباحاً سأكرر الذهاب إلى نفس المكان، أريد سؤال العجوز عن أشياء تهمني، تخصني، اللهم احفظني من شر من يكيد لي وكن عوناً لي على كل مكائدهم، أغلق النافذة فحاجتي إلى النوم لمقابلة العجوز غداً أصبحت حاجة ملحة في ذاتي.