جرنجس
5-2-2013
(1)
نظرتُ إلى ظلها الممتد نحوي ورفعت هامتي متطلعا إليها فرحا بها فتراءى لي لونها الأخضر ممتزجاً مع لون السماء الزرقاء ، رمتني ومضة من سحرها الأخاذ نحوي ، دب الأمل فيَّ من جديد بعد أن كنتُ آيساً من لقائها مرة ثانية ، خرجت من قلبي ليلة النزع الأخير ، لمْ يبقَ من أثرها سوى رمق أخير للمودة خبأته في قلبي ، وبقية من لونها الزهري ممتزج بلوني الأسمر...
قبضتُ على كفي مزهواً ثم أفرجتُها على صدري ؛ لأستمع إلى حديثها المتغلغل في أعماق نفسي ، أسمعها تقولُ لي أنا معك مثل ظلك أظللك حتى عند غياب ظلك ...
رَفرَفتُ عالياً من فرحتي ، ومددتُ إليها يدي تحملُ وردة حمراء متجهاً نحوها فانبجس الدم من تحت خطواتي ، مازلتُ أسير ورأسي يعانقُ الغيم زهواً ، لمْ أنتبه لخطواتي حتى سقطتُ في حفرة عميقة ، وجدتُ فيها وروداً كثيرة وأيادي أكثر منها ...
نهضت منتفضاً ناديتها أستنجدُ الصفاء في لونها والسماء ، مددتُ إليها يديَّ فشعرتُ بدفءٍ ناعم كاد يسحرني ، مازالتْ السماء زرقاء ، ولكن ثمة لون أحمر يمتزج مع لونها ..!
حملقتُ فوق رأسي فإذا كومة من اللهب يتصاعد منها دخان تسير نحوي …!
يَحثُ خُطاها النسيمُ الذي كان يتلع هامتي ويأسرُني عاشقاً للونها الأخضر الندي ، دبَ فيَّ الهلع ، ضربتُ برجليَّ الأرض وصرختُ مستنجداً الأكف من حولي ، فقام نفر وهم يسخرون مني..!
خَتلتُ خلفهم فرأيتُهم يحملونَ الورود يهشونَ بها النار عني ، ثم جلسوا يتضاحكون من فعلتي ؛ أتروني مغفلاً ؟ نعم أنا مغفل ، وحيث أنتم هنا فأنتم أغفل مني ، صرخت بهم ولا أحد يرد منهم وكأنهم فقدوا السمع أو ربما صموا أذانهم عني..
شبكتُ عشري على رأسي وأغمضت عينيَّ أندبُ حظي وأفكرُ في وضعي وما آلَ إليه حالي ، ثم عزمتُ أبحث عن مخرجٍ وفرجٍ لهمي ، نظرتُ إليهم فلم أجد سوى أرض بور ، وكوة سوداء في الأرض تزعقُ منها أصوات غريبة ..! دققتُ النظرَ فيها فوجدتُ امرأة واقفة تهدل قوامها ، وذهب عن وجهها الشمس والقمر ، وحلتْ ظلمة داكنة مكانهما ، فلما رأتني صرخت بكل قوة خذني..
مددتُ يدي دون شعور مني ، جذبتني في الكوة السوداء فشعرتُ أن روحي ستفارق بدني ، أخرجتني بقوة من الطرف الآخر، ثم قذفتني في بئرٍ مالحة ، جعلتني أصرخ من شدة ألمي ، واضطربتُ في البئر خائفاً من الغرق ، حينها نبعتْ من وسط البئر عجوز حملتني خارجه ،ألقتني واختفت ، نظرتُ حولي ما أوحش المكان وأقذره ، كهف فيه بضعُ فتحات في الأعلى يمرُ من خلالها الضوء يتساقط على جدرانه القاسية ، وفيه توزعت زنزانات في كل اتجاهاته ’ الأرض مفروشة بالملح ، ليس ثمة طريق يوصل إلى البئر أو ينتهي إلى مخرج منها ، نظرتُ حولي وإذا بالقرب مني أجساد مربوطة بالحبال ، وفي أيديهم مجل من شدة مصارعتها، هلعني منظرهم فتكورتُ على نفسي ورحتُ أتلمسُ جسدي ، أمرر يدي على جروحي فتشهق ألما وتؤلمني ، حاولت النهوض فلم استطع ، زحفت نحو الجدار أسندتُ إليه ظهري فسقط شئ من النور على جسدي..
افتقدتُ العجوز أين ذهبتْ وتركتني ؟ أين أنت أيتها العجوز؟ ناديتها والخوف يأسرني ،
لا أحد يتكلم أو يشتكي ، كل شئ صامتْ وكأنهم بلا ألسنة..! ماذا جرى لكم ، ولمَ أنتم مقيدون هكذا، من الذي قيدكم ؟!
لا صوت غير صدى صوتي ، ثم صوتُ خطوات قادمة نحوي …
مَنْ القادم يا ترى ؟ تساءلت في نفسي ، هل سيقيدونني ، ويمنعوني من الكلام ؟ أم سيلقونني في زنزانة من تلك الزنزانات الكبيرة ؟
تزاحمتْ الأفكار المخيفة في مخيلتي ، وأخذت تجول في مضمار خاطري حتى دنا مني الصوت وكان قادماً من خلفي ..
- أنا هنا بقربك يا صغيري هل ناديتني..؟
- أنقذتني من البئر أشكرك ، أرجوك أتمي جميلك عليّ ، أريد الخروج من هنا ساعديني لا أرغب في البقاء مع هذه الأجساد، رائحتها تخنقني ..
تبسمت وبان في وجهها المجعد بعض الغرور وتندى من فمها لعاب أصفر تعط منه رائحة كريهة ، ومن حولها رجال ونسوة لهم أنياب بارزة ووجوههم وجوه الفئران يدورون خلفها حيث تدور،صنف من اصناف المرتزقة ، ملابسهم تدل على ذلك فأحذيتهم الثقيلة وأحزمتهم العريضة تدل على أنهم من صنف المسلحين القتلة ..
أخذت تدور حولي والملح يصبغ ذيل ردائها الأسود حين يخط خلفها في الأرض..
- سوف أخرجكَ من هنا .. ولكن ليس قبل أن تحضرَ لي خاتم العشق الذي كان بيد حبيبتك ..!
- لا يمكن ذلك فالخاتم وهبته لها عندما كنا معاً، وقد افترقنا ، وأنا مازلت أبحث عنها ، و لولا أني سقطت في تلك الحفرة اللعينة لوصلت إليها ، وما وصلت إلى هنا ..
- أنت تمتنع إذن .. هل تعرف نتائج هذا الامتناع ؟ أنظر إلى مَنْ حولك ستصبح واحداً منهم مربطاً بالحبال ، وستبقى قيد الارتهان حتى تفئ إلى رُشدك ..
- حسناً سيدتي ، ولكن أرجوك أفهميني ، أنا لا أعلمُ أين هي الآن ، ولا أعلم إنْ كان في يدها ذلك الخاتم أم لا ..
- إنَّهُ ليسَ في يدها ، فعندما افترقتما نزعته من يدها وخبأته في خزانة عند تلك الشجرة التي كنتَ عندها ، أغلقتْ عليه بإحكام ، وخبأته في مكان خلف أحد الأبواب الثلاثة التي تقعُ في نهاية هذا الكهف ، وأنا لا أريد سوى المفتاح..
- وهل بحثتي عنه فعجزتي وتطلبين من وهنٍ مثلي أن يجدهُ لك ؟ ثم ما تصنعين بخاتم فضي زهيد ، باستطاعتي أن أجلب لك آخر أثمن منه وأجمل ..!
- كلا فأنا أريد هذا الخاتَم وحسب.. وكل من يعطيني إياه أمنحهُ جائزتان كبيرتان وهي أن يطلب مني طلبين أثنين أحققهما له وأطلق سراحه ..
- وما تصنعين به ؟
- سأخبرك حين تجده يا صغيري ..!
يتبع ...